موضوغ الغلاف

 

اكتسبت مكة المكرمة قدسيتها وحرمتها منذ أن خلق الله السموات والأرض، حيث اختارها سبحانه وتعالى لتكون موطناً لمولد الهادي البشير صلى الله عليه وسلم، ومهبطاً للوحي الأمين، ومركز إشعاع للدين الخاتم، وليس أدل على ذلك من ورود اسمها في اللغات القديمة، فهي في اللغة السريانية (مكرابو)، وفي اللغة الأشورية (مكا)، وفي اللغة السبئية القديمة (مكرابا)، وكل هذه المسميات تعني (المدينة المقدسة).

 

وهناك أقوال كثيرة عن تاريخ مكة المكرمة كمدينة، غير أن الثابت هو أن تاريخها موغل في القدم، وتعتبر من أقدم مدن العالم، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق.

 

وتقع مكة المكرمة في المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية على خط عرض 31 درجة، وترتفع عن سطح البحر بمقدار 280 متراً، وتتجاوز مساحتها 480 هكتاراً، وتبعد عن مدينة جدة بحوالى 73 كيلومتراً، وعن مدينة الطائف 87 كيلومتراً، وعن المدينة المنورة 450 كيلومتراً، وعن العاصمة الرياض 990 كيلومتراً، وتنحصر في مجموعة من الوديان تحيط بها سلسلتان من الجبال تكادان تتصلان ببعضهما من جهات الشرق والغرب والجنوب، وجوها حار جاف حيث تتراوح درجة الحرارة فيها في فصل الشتاء بين 15 و20 درجة مئوية بينما تصل في فصل الصيف إلى 45 درجة مئوية.

 

موقع متميز

 

وعلى مدى تاريخها الطويل، ظلت مكة المكرمة مقصداً ومحطة لمرور القوافل التجارية من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، لوقوعها وسط شمال الجزيرة العربية وجنوبها من جهة، ولتوافر عيون المياه الجوفية فيها والتي تحتاج إليها القوافل التجارية من جهة أخرى.

 

وبعد ظهور الإسلام وتوطيد أركانه، أصبحت مكة المكرمة صاحبة المكانة الأولى في العالم الإسلامي، حيث تشخص أبصار وأفئدة المسلمين إلى رحابها الطاهرة خمس مرات كل يوم وهم يؤدون الركن الثاني من أركان الإسلام، ويفد إليها كل عام الآلاف في مواسم الحج والعمرة تلبية لأمر الله لخليله إبراهيم عليه السلام: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}. "الحج 27:".

 

مركز الكرة الأرضية

 

● حظيت مكة المكرمة باهتمام العلماء والباحثين والفلكيين والجغرافيين المسلمين باعتبارها قبلتهم التي أمر الله سبحانه وتعالى بالتوجه إليها في صلاتهم لقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} "البقرة : 150"، كذلك فالحج إلى بيت الله الحرام هو تمام أركان الإســـلام، وهو الــــركن الخــــامس، لقوله تعالى: {وللـــه على النـاس حــــج البيت من اســـــتطاع إليه ســــبيلاً} "آل عمران ـ 97".

 

ومن هنا كان اهتمام المسلمين بتحديد الاتجاه الصحيح نحو بيت الله الحرام قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، كما اهتموا بتحديد المسارات لرسم الطرق المؤدية إليه خدمة للإسلام وتيسيراً على المسلمين، وكان العالم الجغرافي المسلم (الجيهاني) الذي عاش في القرن الرابع الهجري قد اهتدى إلى رسم الكرة الأرضية وتحديد موقع مكة المكرمة عليها، وقام برسم المساقط لأقطار الدائرة، فإذا بها تلتقي جميعها في موقع البيت الحرام، وإذا به يشكل مركز العالم.

 

وفي القرن العاشر الهجري قام الجغرافي المسلم (الصفاقسي) 958هـ/1551م بتطوير الأبحاث الجغرافية ورسم الكرة الأرضية حسب أبحاثه مستهدفاً من ذلك تحديد موقع القبلة لخدمة المسلمين الذين بلغوا أقاصي الصين وأعالي أوروبا، والذي توصل أيضاً إلى أن البيت العتيق في مكة المكرمة هو مركز الكرة الأرضية بعد أن رسم خريطة تمثل علاقة مكة المكرمة بالعالم الإسلامي، وخريطة أخرى توضح موقع مكة المكرمة بالنسبة للكرة الأرضية.

 

الكعبة المشرفة والحج

 

● تكرر قدوم خلـــيل اللـــــه إبراهـــيم عليه السلام إلى موضع البيت الحرام حتى أذن له ببناء البيت العتيق، وكان يساعده في ذلك ابنه إسماعيل، قال تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} "البقرة : 127".

 

وكان إسماعيل قد استبدل زوجته الأولى الجواء بنت سعد وهي من جرهم بزوجة ثانية هي شامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف، وهذا يعني أن مكة المكرمة أصبحت مأهولة وبها بيوت متفرقة ولكن على سفوح الجبال، وبعد أن تم بناء الكعبة وعلم الله إبراهيم عليه السلام نسكه أمر الخليل بأن يدعو الناس لحج بيت الله الحرام وتعهد الحق سبحانه وتعالى بإيصال ندائه وذلك في قوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} "الحج : 27"، فردد الكون النداء الخالد (لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك)، وأقبل من أرادهم الله سبحانه وتعالى لأداء نسك الحج وكانوا أول حجاج يفدون إلى مكة المكرمة ويقتفون أثر خليل الله إبراهيم عليه السلام.

 

بئر زمزم

 

تقع بئر زمزم التاريخية المباركة بجوار باب بني شيبة، وبينها وبين الحجر الأسود 18 متراً، وقد عرفت منذ زمن إسماعيل عليه السلام، حيث كانت أمه (هاجر) تبحث عن الماء لإرواء عطشه بين الصفا والمروة، وقد أنعم الله عليها وعلى ابنها بنبع الماء، ففرحت هاجر وأدارت حوله حوضاً وأخذت تزمه، ولذا سميت (بئر زمزم)، ثم طمست البئر في عهد (جرهم) وزالت معالمها إلى أن شاهد عبدالمطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام رؤيا في المنام تبين له مكان البئر، فحفرت وكان ذلك قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد مئات السنين من حفرها قامت المملكة العربية السعودية بأضخم عملية تنظيف للبئر، ووضعت خارطة دقيقة لأبعادها ومصادر تغذيتها بالمياه.

 

واهتم المسلمون منذ أيام الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وحتى يومنا هذا بماء زمزم، وحرصوا على الشرب منه اتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد وردت أحاديث نبوية شريفة في فضل ماء زمزم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له"، وقوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم".

 

وقد حرص الخلفاء الراشدون والأمراء على عمارة بئر زمزم وتجهيزها ليسهل على زوار بيت الله الحرام الشرب منها، ولم تتأثر نقاوة ماء زمزم بأية شوائب، حتى إن الذين شهدوا سيل عام 1388هـ والذي وصل إلى باب الكعبة المشرفة، أكدوا أن مياه زمزم كانت تتدفق من البئر إلى الخارج، ولم تختلط بأية مياه في منطقة المسجد الحرام، كما أن نتائج أخذ عينات من مياه زمزم لتحليلها لم تسجل في أي مرة منذ تطبيق هذا النظام وجود أية شائبة تنتقص من نقاء المياه المأخوذة من البئر مباشرة أو تقلل من صلاحيتها للشرب.

 

 وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - تم ترحيل بئر زمزم ضمن أعمال مشروع توسعة الحرم المكي الشريف، حيث بدأ إنشاء مواقع جديدة للتيسير على الحجاج والزوار في الوصول إلى ماء زمزم مع تزويده بثلاثمائة وخمسين صنبوراً للشرب، بالإضافة إلى تكييف الموقع بالهواء البارد وإمداده بشبكة للصرف الصحي.

 

وتحقيقاً لذلك، فقد أنشئت محطة لتبريد ماء زمزم مزودة بالأجهزة اللازمة لنقل المياه من البئر وضخه وتبريده وربطه بالتيار الكهربائي بطاقة 2500 كيلو فولت، وتضخ المحطة 60 متراً مكعباً من المياه في الساعة لقسم الرجال وحوالي 46 متراً مكعباً من المياه لقسم النساء، كما تم توزيع مئات الصنابير على كافة أرجاء المسجد الحرام.

 

آثار إسلامية

 

 وفي أرجاء العاصمة المقدسة تتناثر العديد من الآثار الإسلامية القديمة التي ظلت شاهدة على مراحل تطور الدعوة الإسلامية الخالدة، ومن أبرز هذه الآثار عدد من المساجد التي ارتبط وجودها بأحداث إسلامية معينة، ومن بين هذه المساجد، مسجد الراية، الذي صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، ومسجد الإجابة، وفيه صلى النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام ويقع في حي المعابدة، ومسجد الكبش، الذي فُدي به سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ومسجد التنعيم، الذي يقع عند حدود الحرم شمال مكة المكرمة، وقد اعتمرت منه أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، ومسجد الجن، ويقع قبيل الحجون بالمعلاة، وبه نزلت الآيات من سورة الجن، ومسجد الكوثر، ويقع في وسط منى، ويقال إن سورة الكوثر نزلت به، ومسجد ذي طوى، ويقع في جرول، وصلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام به صلاة الفجر، ومسجد خالد بن الوليد، ويقع في حارة الباب.

 

 

التطور العمراني

 

إلى جانب الطابع الروحي الغالب لمكة المكرمة فإنها مدينة مزدهرة حافلة بالحيوية والنشاط، والحركة التجارية فيها واسعة ولا سيما في موسم الحج، وقد شهدت حركة عمرانية واسعة خلال السنوات القليلة الماضية في سبيل أن تظهر بالمظهر اللائق بمركزها كعاصمة مقدسة يفد إليها ملايين الحجاج والمعتمرين من كافة أرجاء العالم، لهذا الغرض تم تنفيذ خطط متتابعة لتجميل المدينة وزيادة المساحات الخضراء بها وذلك عن طريق توسيع وتطوير مداخلها وإنارة وتجميل شوارعها وإقامة الحدائق والمتنزهات العامة، ومن بينها حديقة المسفلة على مساحة 90 ألف متر مربع.

 

معالم مكة المكرمة

 

● تضم مكة المكرمة من صروح العلم جامعة أم القرى التي تعتبر أحدث جامعات المملكة، كما أن من المعالم الإسلامية التي تحتضنها، رابطة العالم الإسلامي.

 

●  ومن معالم مكة المكرمة أيضاً مصنع كسوة الكعبة الشريفة المجهز بمعدات حديثة لإنتاج الكسوة التي تعد للكعبة كل سنة والتي تتميز بروعة ودقة الصنع، ويصنع ثوب الكعبة من الحرير، ويستهلك ما وزنه 720 كيلوجراماً من الحرير، ويزين الثوب الحزام والستارة اللذان تجللهما آيات قرآنية كريمة مكتوبة باليد ومطرزة بالقصب الفضي المموه بالذهب.

 

●  ومن المعالم البارزة في مكة المكرمة مكتبة الحرم المجاورة للمسجد الحرام ومركز المؤتمرات في منطقة أم الدرج.

 

●  وترتبط مكة المكرمة براً بالمدينة المنورة بطريق حديث طوله 425 كيلومتراً جرى تطويره إلى طريق سريع، كما ترتبط مع جدة بطريق سريع متعدد المسارات، وهناك طريق يربطها بالطائف ومن خلاله بالرياض، أما جواً وبحراً فإن جدة هي المنفذ الجوي والبحري للعاصمة المقدسة، ومطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة مجهز خاصة لاستقبال الحجاج.

 

مكة البلد الحرام

 

● روى عبدالله بن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الســـموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبــــلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا يُنفر صـــيده، ولا يلتقــــط لقطته إلا من عرفها، ولا يختـــلى خلاه". (صحيحا البخاري ومسلم).

 

●  وروى جابر بن عبدالله (رضي الله عنهما) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لأحدكم أن يحمل السلاح بمكة". (رواه مسلم).

 

● هكذا أراد الله سبحانه وتعالى لأم القرى أن تكون مدينة آمنة استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: {رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر}. "البقرة:126".

 

وفي ذلك أيضاً يقول الحق سبحانه وتعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون}. "العنكبوت:67".

 

● ولمكة المـــكرمة أسماء عـــــديدة، منـــها (أم القرى)، (بكة)، و(البلد الأمين)، وكلها جاء ذكرها في القرآن الكريم.

 

الحرم الشريف

 

وأهم أثر في مكة المكرمة هو المسجد الحرام الذي يفد إليه المسلمون من بقاع الأرض، ويشدون إليه الرحال، ويحتل موقع القلب في المدينة، فهو مركزها الرئيسي ومنه تتوزع الشوارع والطرقات الموصلة للأحياء.

 

وقد لقي المسجد الحرام من خلفاء المسلمين وملوكهم عناية عظيمة، وما زالت آثار العديد منهم واضحة في البنيان، تدل على ما بذلوا في سبيل الحفاظ على هذا الأثر الإسلامي الخالد وتوسعته وتجميله.

 

وكان المسجد في عهد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على حدود المطاف الآن، وأول من قام بتوسعته الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، ثم توالت عمليات التوســــعة والبناء في زمن الأمـــويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، حتى جاءت التوسعة السعودية عام 1375هـ، وقد روعي في تنفيذها الحفاظ على الطابع العمراني الأصـيل الذي يبرز العمارة الإسلامية بأجمل سماتها.

 

وضمن إطــــار التوسعة الســــعودية، تم هدم جميع المباني القديمة المحيطة بالحرم، وعــــلى أثر التوســعة أصبح طول المسعى من الداخل 394.5 متراً وعرضه 20 متراً، وأقيم له دور علوي على ارتفاع 12 متراً، كما جعل للمسعى الجديد ثمانية أبواب رئيسية تطل على واجهة الشارع العام من جهة الشرق، وفوق الصفا أقيم سقف مستدير مقبب بجواره منارة يبلغ طولها 92 متراً، كما جعلت للمسجد سبع مآذن جديدة.

 

 

ونتيجــــة للتوســـعة السعودية أصبح المسجد يستوعب 600 ألف مصل، وأصبحت مساحته 160 ألف متر مسطح بعد أن كانت سابقاً 29.127 متراً مسطحاً.

 

وتقع الكعبة المشرفة في وسط صحن المسجد يليها من الشرق مقام إبراهيم وبئر زمزم، وحرصاً من حكومة خادم الحرمين الشريفين على تأمين السقيا للحجاج من ماء زمزم، أقيم على جانبي باب السلام الكبير (سبيل) لتخفيف الضغط على البئر في موسم الحج.

 

وتحفل مكة وشعابها بالأماكن التي شهدت فصولاً من البعثة النبوية الشريفة، ومن أهم تلك المواقع، (جبل حراء) ، ويبلغ ارتفاعه نحو 650 متراً، ويطلق عليه (جبل النور)، وفيه الغار الذي كان يتعبد فيه الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قبل البعثة، ثم (جبل ثور) الذي يرتفع إلى 760 متراً، ومن الجبال المشهورة في مكة أيضاً (جبل أبي قبيس) و(جبل قعيقعان) و(جبل هندي) وغيرها، وهذه الجبال جميعاً مأهولة بالسكان عامرة بالبنيان

 

 
  © نوفمبر 2005 مجلة " أهلا وسهلا ".