رحلة الشوق 

 

 

معالم إنسانية من "المدينة المنورة"

 

رحـلـة الشـوق..

في دروب العنبرية

 

هذا واحد من أبرز مثقفي المملكة - مسكون بحب دينه وأهله ووطنه، وفي مساحة الحب، الذي يملأ قلبه: مكان خاص لمحبة "المدينة المنورة" حيث ولد فيها عام 1373هـ، ونشأ وترعرع في أحيائها وحواريه، وتلقى تعليمه في الحرم، وفي مدارسها الابتدائية والمتوسطة والثانوية ثم انتقل للدراسة الجامعية، حيث حصل على البكالوريس من جامعة أم القرى بتفوق (مرتبة الشرف الأولي في اللغة العربية وآدابها عام 1396هـ)، ومنها واصل تعليمه العالي في جامعة "لانكستر" بالمملكة المتحدة، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة مانشستر عام 1406 هـ.

 يعمل حاليا أستاذاً للغة العربية في جامعة الملك عبد العزيز، ويملأ وقته بالتدريس لطلابه في البكارليوس والدراسات العليا.. وما تبقى من وقته يشغله بالبحث والكتابه والمشاركات الصحفية بالكتابات الموضوعية الرصينة التي ترسخ الاعتدال في النظر وتناول الأمور الدينية والحياتية بوسطية وتسامح.

ذلكم هو د. عاصم علي حمدان.. الذي قال عنه الأديب والصحافي المعروف محمد صادق دياب (هذا المدني الجميل المحير بثقافته الاجتماعية، ما حل بمدينة قط إلا وأصبح جزءاً من ذاكرتها الاجتماعية ونسيجها العام، ويجمع كل هذا في تناغم فريد مع مرجعيته المدينية، فلقد قصد مكة طالب، فغدا خلال سنوات معدودة خبيراً بأهلها وشعبها وحكايات رجاله، فإذا ما قرأت كتابه: أشجان الشامية، ظننته ذلك الأنيس الذي افتقده الشاعر في الزمن القديم بين الحجون وغليم، ذلك الأنيــــس الذي لفحـــته مكة برياح سمومه، فامتزجت في شخصيته رجولة أهل مكة ودماثة أهل طيبة).

"وتطوحه المعرفة بعيداً في بلاد الاسكتلنديين سنوات طويلة لكنه عاد بعقله وعقاله، فقد أخذ من الإنجليز والاسكتلنديين، علومهم تحت القبعة، ولم يأخذ القبعة كما فعل الكثيرون..

هذا ما صدرَّ به "الدياب" كتاب (رحلـــة الشـوق في دروب العنبرية) للدكتور عاصم حمدان وهو من مطبوعات نادي المدينة المنورة الأدبي عام 1425هـ، أما الكتاب فيبدأ بالإهداء الذي تذوب فيه الرقة وتجلله المحبة، فقد كتب المؤلف في إهدائـــه: (إلى التي شاركتنــي نصف عمــري، فكـــان معهــــا نصف العمر جميل، وشاركتني نصف همي فكان معها الهم قليـــل، والتي أحبها والدي وتحبها أمي، وسارة وسحر وأحمد وأسيل: أما أنا فكل هؤلاء).

الكتاب يتكون من 12 لوحة فنية، تركز على "العنبرية".. وهي مدخل المدينة المنورة الرئيسي قديماً للقادم إليها من مكة المكرمة وجدة وبدر وينبع، وهي المنفذ الرئيسي لأهل المدينة المنورة ممن يتجهون إلى وادي العقيق طلباً للفسحة والترويح.

وهي واحدة من أبرز وأهم الأحياء، حيث انتهت عندها "سكة حديد الحجاز" وهي امتداد لقطار الشرق السريع الذي أرادت له الدولة العثمانية أن يكون صلة الوصل، ووسيلة التلاقي والحوار مع "الآخر" حيث يربط قلب العالم الإسلامي مكة المكرمة والمدينة المنورة بأوروبا.

 

حياة العنبرية

ويتميز الكتاب باستعادته لشيء من تفاصيل حياة "العنبرية" وما يجري فيها من حركة، وما تتميز به من خصائص ومعالم إنسانية "هذه دكة الترجمان نسبة لأسرة عريقة بالمدينة، والتي كان الناس يقصدون هذا المكان لأمرين كان لهما دلالتهما الاجتماعية في تلك الحقبة الماضية، ففي الدكة كان يقوم كتاب المعلمة - زينب مغربل - رحمها الله، وكثير من سيدات المجتمع المدني اللاّتي تعلمن القراءة والكتابة وعلوماً أخرى على يد - المعلمة المغربلية - "وإلى جانب هذه الدكة، هناك - التكية المصرية، ومحطة سكة حديد الحجاز ومقر الجامعة الإسلامية التي كان السلطان عبد الحميد ينوي إنشاءه، ثم تحول مكانها مقراً لثانوية طيبة.

"خطوات محدودة تفصل بين دكة الترجمان وذلك البناء المتواضع المشرف على - السيح - مجرى سيل (أبي حيدة) في ذلك المكان تلقى الفتى (عاصم حمدان) دراسته الأولى في كتاب الشيخ محمد صالح البيحاني، من حفظة القرآن الكريم، وكان يؤم الناس في مسجد الغمامة، أو المصلى مع الشيخ سيف سعيد رحمه الله.

"لم يدرك الفتى فرن العم حجازي الذي كان في حي العنبرية، فقد انتقل صاحبه إلى حارة الأغوات، وهناك عاش بقية حياته وحيداً بعد أن فقد رفيقة حياته وهي في ميعة الصبا.

"أزقة العنبرية"، أحواشها: ومنها الراعي، الجوهري، ابو ذراع، أبو جنب، سنان، مرمه، الهاشمية، السلطان، يسكنها بعض المنتسبين إلى قبيلة حرب العريقة وبعض من أتباعهم، وكانوا يعاملون هؤلاء الأتباع معاملة إنسانية سامية، كان الطفل ينادي الحليف أو التابع باللغة المدينية الرفيعة الدارجة (أبوي ) والرقة في المدينة شيء متجذِّر، من عهد النبوة، فلقد ذكرت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: قدمنا المدينة وما فيها بيت إلا وينشد فيه الشعر، أو كما قالت رضي الله عنه، وكان ضرب الدف في حشمة ووقار هو سلوة الناس في زمن البراءة والطهر، وكان الإنشاد في مجالس القوم هو دواء القلوب الكليمة.. حسين بخاري وعبد الستار بخارى، ومحمود نعمان والسيد عمر عينوسة، ومن بعدهم عقيل توفيق وابراهيم وعيد صبّاغ والسيد حسين ياسين والسيد إدريس هاشم. كانت الأصوات الخاشعة والمتبتلة في محراب الحب والصفاء والنقاء، وعندما تقترب أيام الحج، ويذهب من يذهب من أهالي المدينة وتخلو المدينة من سكانها ويبقى فيها "الخليف" تتردد على آذانهم أصوات السواني من بساتين مثل الحجارية في التاجوري، وأم هاني في السيح، والزاهدية في قباء.. في هذه الأيام خرج ولد الشيخ إلى العنبرية حيث يحلو السمر البرئ مع الخلان، وعندما بلغت قدماه إلى حلقة اللعب لم يجد جماعته من أهل الساحة، وتفرّس في الوجوه فلم يجد عيال الرباط ومفاليحه، ورأى نظرات ترمقه شزر، ولكنه الضيف على أهل الحي الذي يمتلئ بأهل الشهامة والنخوة من أمثال حمزة لبان، والدوي، وعبد الله الرجال، وعندما رفع المعلم صوته "بزومان".

"غريب ولا لي جماعة

في وسط بشكة وداعة

 ابتسمت وجوه القوم له وتحلقوا حول الفتى،،" إن حياة أهل المدينة تدور حول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً وحزناً وها هو الفتى بعد انتهاء المدرسة يتجه لأداء صلاة الظهر ويشارك المصلين الصلاة على الميت، ويخرج من باب جبريل أملاً في اتباع الجنازة إلى مثواها الأخير في البقيع، ولأن الصغار كانوا يمنعون من دخوله (وفجأة رأى الفتى الشيخ محسن الحيدري الذي كان صديقاً لوالده ومن سكان العنبرية ومن - حوش مناع - فطلب أن يدخله البقيع، فاستجاب لطلبه وأمسك بيده وتجاوز به الحارس الذي كان يرد الناس برفق، اليوم يا صديقي يدفعك البعض دفعاً ويرفع صوته محذراً كأنك قادم من عصر الجاهلية، بددت الرهبة وجوهاً مألوفة لدى الفتى: مثل العم أحمد عسيلان صديق حسين شويل، وجميل عبده وحمزة ألفت، وإبراهيم صباغ، رحم الله تلك النفوس البريئة.. وأدرك الفتى وجوهاً نضرة من آل البري منهم محسن بري وشقيقه أبو الهدى بري، وعبدالجليل بري وعبد الغني بري، وأيمـــن بري ولا ينسى الفتى الخالة آسية رحمها الله، فهي تجيــد إلقاء الحكاية الشعبية على ضوء القمر وهـــدوء الليل، وعلى سطح المــنـزل المطل على مجرى سيل أبي حيدة لطالما استمع إلي حكاياتها التي تبدأها بالقول (وحدوا الله - واللي عليـــه ذنب أو خطيَّة يستغفر الله) ثم تبدأ في سرد حكاياتها.. وتختلف خاتمة الحكاية، فبعضهـــا له نهاية سعيدة وبعضها نهاية محزنة، والبعــض ليس لــه قفلـــة..

 

 معالم إنسانية

وفي ثنايا الكتاب، تتدافع خواطر المؤلف عن الأشخاص والأحياء والشوارع والبيوتات، والقيم والمثل، فلا ينس أن يذكر قيماً اندثرت بوفاة من عرفوا به، ويا صديقي: لقد كان الحب يجمع الناس على مختلف مشاربهم في بلاد الحب والأمان، أترى وارينا الثرى ذلك التسامح والحب والوداد هنا في الربوة? أم تراه تبخر في السماء وأضحى ذرات تائهة? اليوم يا صديقي يرفض أحدهم أن يلقي السلام على أخيه في الدين لأنه يخالفه في مسألة، ونسوا أن الإمام البخاري روى عن كبار علماء المعتزلة مثل عمرو بن عبيد، وأن الإمام علي رفض تكفير الخوارج وقال إجابة عن سؤال: "من الكفر فروا" وأن الإمامين الجليلين ابن تيمية والسبكي اختلف، فلم يكفر أحدهما الآخر..

"إننا بحاجة إلى كثير من التروي والتفكير العميق البعيد عن التجهم والغلظة والقسوة والجفوة، نحن بحاجة إلى حسن الظن بالآخرين قبل أن نلقي التهم جزافا.

"لم يكن القوم يعرفون الابتسامة الصفراء، ولا تلـون الوجـوه، ولا تناقض المواقف، ولا ازدواجية السلوك"

"لقد أعطينا هذه الحضارة المادية من الثقة العمياء فيها والركون إليها ما لم يعطه الإنسان الذي ساهم في صنعها وأضعنا في هذا الطريق الطويل كثيراً من براءتنا وصفائنا".

"أنظر إلى خاتمة - حمزة عوض - الذي كان يمشي مع الناس لزيارة سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيبكي ويُبكي، وضع الرجل جبهته ساجداً في صلاة جماعة بالمسجد الشريف، فلم يرفع رأسه إذ توفي على ذلك الحال، انظر إلى خاتمة رجل قضى حياته متأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انظر إلى بعض قوم يفتخرون بأنهم جاوروا المسجد والروضة ولكنهم لم يقفوا على قبره صلى الله عليه وسلم مسلِّمين، وإذا حاورتهم بفعل السلف والخلف وزيارتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ارتفعت أصواتهم: إن محدِّث العصر لم يفعله وأن صاحب الرسائل منعه وزجر عنه، ومن يكون هؤلاء بجانب علماء الأمة من أولها إلى آخره، أو ليس فعل الصحابي حجة، وفعل علماء السلف قدوة، فليخلص هذا البعض نفسه من هذه الجفوة، وليحسن الظن بعقائد الناس كما فاضت بذلك كتب السنة..

 

لحظات وداع

ويختم الدكتور عاصم حمدان كتاب (رحلة الشوق في دروب العنبرية) بوداع والده يوم انتقاله للرفيق الأعلى "حانت لحظة الوداع، كنت أشبه بالحال التي ترتخي فيها الأهداب، ويداعب الكرى فيها الأجفان، كانت السبابتان مرفوعتين إلى أعلى، والوجه منك يا أبتاه كقطعة قمر، كنت أسمع منكم وكبار القوم في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم تتحدثون عن حسن الخاتمة التي يكرم الله بها جيرانه وجيران نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانت لحظة وداعك هي البرهان والدليل، " ويوم صعد منك السر الإلهي إلى عالم الملكوت كان الأذان يرتفع من جوار الروضة الطاهرة والضريح المبارك والمحراب الذي خلدته آيات الوحي على سيد ولد عدنان، صلى الله عليه وسلم، وآل بيته والصحابة رضوان الله عليهم أجمعـــين، رحمــــك الله يا أبتاه، وأسـكنك فسيح جناته وجميع موتى المسلمين".

ويتحدث الدكتور عاصم حمدان في كتابه عن " وجه مضيء " دخلت عليها - الوالدة - الغرفة، رحبت بي كعادته،لكنها انصرفت برهة لتغلق على نفسها باب غرفتها الصغيرة تذكرت عبارتها يوم حملوا إليها نبأ رحيله - رحمه الله - قالت بلسان الفطرة - طاح الجمل - وحبست دموعها طوال اجتماع الناس حولها فهذا هو الصبر عند الصدمة الأولى، ويوم تفرق الجمع من حولها تركت دموعها تسح واطلقت العنان لخياله، الزمن يقرب من نصف قرن لقد تركت وراءها شجرات النخيل، ومضارب الخيام، وتركت السماء الصـــافية والجـبال الشامخة وقوماً يبيعون متاعهم إذا لم يجدوا في منازلهم ما يقدمونه للضيف النزيل، وصاحب الحاجة، وجاءت لتســــكن في الأرض التي يقصدها الناس من كل مكان في هذا الوجــــود، تسمــــع الأذان ندياً والقرآن مرتل، والحارة يملؤها الحب، وتكاد تنطق منــــازلها بالرحـمة، الناس أسرة واحدة لا يفـــرقهم فرح أو حزن، ولا تسـاوي المادة في حياتهم شيئاً..

"بعد نصف قرن بقيت على عادتها معه (رحمه الله) كما لو كان حي، من هذا الذي يلوم نفساً وفيّة وقلباً صادق، ولساناً لا يعرف الزيف أو الكذب أو التلجلج!

 

 * أستاذ الأدب بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة