رحلة محمد بن عمر التونسي إلي "دارفور"
تشحيذ الأذهان.. بسيرة بلاد العرب والسودان


بقـلم أحمد محمّد محمود*
ولد الرحالة - محمد بن عمر التونسي في تونس عام 1204 هـ -1789م من
أب تونسي وأم مصرية ، نشأ في مصر وتلقي تعليمه في الأزهر وبدأ
رحلته عام 1803م وهو في الرابعة عشرة من عمره ليلتحق بوالده الذي
كان قد استوطن السودان، ودارفور منها خاصة. وعندما لحق بوالده قضي
في دارفور 7 سنوات ونصف، ومنها إلي "وداي"، حيث قضي بها 18 شهراً
وعاد منها إلي تونس عام 1813م، ومنها إلي القاهرة، حيث اشترك في
حرب - المورة - عام 1827م وعاد للقاهرة حيث اشتغل في تنقيح الترجمة
العربية لكتب الطب، وكان في أواخر أيامه يلقي دروساً في الحديث في
مسجد السيدة زينب حتي وفاته بالقاهرة عام 1274 هـ -1857 م.
يعد كتاب " تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان " من أوفي ما
كُتب في حقبة الرحالة عن - دارفور - مما يلقي الضوء علي واقع هذا
البلد وتطوره السياسي واحواله الاجتماعية والاقتصادية والادارية
والسياسية والحربية وعلاقته بجيرانه " وقد مكنته عروبته وإسلامه أن
يتغلغل في أسرار مجتمع - الفوروقبائلها - أكثر مما توافر لأي رحالة
من غير العرب والمسلمين، ومكنه تحدث أكثرية سكان دارفور بالعربية
من التخـاطب مع جمـيع الفئات لجمع معلوماته التي ضمنها رحلته، واضافت
مكانة والده لدي ملوك دار فور ثقلاً آخر في تذليل العقبات
لسبر أسرار المجتمع وعاداته وأحوال طبقاته،
ويشرح الرحَّالة سبب وجود والده بدارفور، مشيراً إلي جده الذي أدي
فريضة الحج وتعرض لضائقة إثر غرق سفينتهم في الطريق للحج، وفقد
ثروته وأموالاً ائتمنه عليها تجار من تونس، ولقيه ببندر جدة أناس
من أهل سنار رغّبوا له التوجه معهم - ليحصل له هناك العز والفخار-
ولما وصل معهم إلي ملك سنار وعلم مكانته العلمية - أنعم عليه
بجارية مكادية - نسبة لمكادة وهي من الأحباش النصاري - فتسراها جدي
وولدت له غلاما وجارية، ولما توفي أرسل عمي "غير الشقيق
لوالدي" وهو في تونس يخبره ويطلب منه الحضور إلي سنار، (فاستجاب، وتركني
والدي وأنا ابن سبع سنين مع خالي، ورحل للقاهرة حيث تعلم في
الأزهر، وضاق به فيها سبيل العيش مما جعله يفكر في والده، فسأل
قافلة قدمت من دارفور عن من يعرفه منهم، وبالمصادفة كان فيها صديق
حميم له التزم بإيصالي إليه).
"أقلعنا من الفسطاط إلي المنية وفيها جماعة من - الغز - وهم من
المماليك- عملهم نهب المسافرين، غرّموا قافلتن، ومنها إلي منفلوط
فأخذنا منها ما نحتاجه، وتأهبت القافلة في بني عدي وخرّزوا أسقيتهم
وصنعوا زادهم، وجيء بالمطي فحملت أحماله، وواصلت سيرها في مفازة
قاحلة مروراً بالخارجة، ابيريس وهي بلدة استولي عليها الخراب من
ظلم حكامها ، وبولاق التي درست معالم أكثره، المقس التي تمزق شمل
أهلها ولم يبق فيها أحد، عين شب، بئر سليمة، لقية، بئر الزغاوي وهو
بئر النطرون وبينه وبين دار فور مسيرة 10 أيام، فأقمنا فيه 11
يوماً نتقوي علي قطع المفازة التالية، وواصــلنا السير فوصلنا بعد
(11يوماً) إلي - المزروب - في أول حدود دارفور، ومنها إلي الســوينة التي يتوقف فيها التجار حتي يأتي إذن دخـولهم من سلطان
دار فور، وسافرنا إلي - سرف الدجاج - وسرف في لغة الفور تعني
بركة، وهي قرب كبكابية - وفيها بت بأنعم ليلة.
"ومنها مررنا بكبكابية - غربي الفاشر - وهي أشبه بريف مصر إلا أنها
أعمر وأخصب، وسوقها عامرة، ومنها إلي جبل مرة، ووصلنا أخيراً إلي -
حلة جولتو وهي من قري أبي الجدول المعروفة الآن بقرية - وواد -
التي بها والدي فاجتمع الشمل، وبعد ثلاثة أيام عنده جهزني وعمي إلي
الأعتاب السلطانية مقر السلطان عبد الرحمن الرشيد ولد السلطان
محمد بكر، في تندلتي - وهو اسم قديم للبحيرة التي قامت عليها مدينة
الفاشر، وكل محل سكنه السلطان يسمي فاشراً - بهدايا منه إليه وإلي
وزيره الشيخ محمد كرا وهو من الفلاتة الذي كساني وأمر لي بجاريتين
وخادم. وتوالت عليّ الهدايا من أصدقاء والدي فأخذنا الجميع وتوجهنا
مسرورين إلي والدي، وبعد شهر رمضان قرر والدي العودة لتونس لرؤية
والدته وأخويه وتركني لرعاية ممتلكاته في دارفــور، وجمع خراجها
والانــتفاع بزرعه.

أيام رخاء
وكانت سلطنة الفور مستقلة عن دول الأرض كلها لا تدفع جزية لأحد، ما
عدا (الحرمين الشريفين) فقد كانت تخدمهما بتجهيز - صرة مالية -
سنوياً ترسل مع الحجاج وتشمل: الريش وسن الفيل والصمغ وغيرها من
خيرات الأرض فتباع و بثمنها نقود الصرة لفقراء الحرمين.
"ويقول نعوم شقير: إن سلطنة الفور من أصل عربي والذي عليه البعض
وتدعيه سلالتهم أنهم من بني العباس، فبعد انقراض دولة العباسيين
ببغداد عام 823 هـ - 1421م هاجر شقيق منهم إلي جبل مرة - الذي يقول
سكانه أنه سمي بذلك لأنه لم يخلق مثله، وملكها يومذاك: شاودورشيث
من سلالة ملوك " كيرا "، فأعجبه عقل الرجل العباسي فعهد إليه تدبير
مملكته وزوجه ابنته فولدت له سليمان الذي نودي به ملكاً بعد وفاة
جده عام 848 هـ - 1445م فكان أول سلالة السلاطين العرب الذين تـولوا
دارفور وظلوا يحكمونها نحو 443 سنة".
قبائل الفور
وينقسم - الفور - سكان دارفور إلي ثلاثة بطون: الكنجارة -
الكراكريت -التموركة. ومن قبائل دارفور: الفلاتة، بنوفزارة وهم
رعاة إبل من قبيلة جهينة، البرقد، الكبابيش الذين ينتمون لبطون
عربية من جهينة، الرزيقات وهم عرب، البرتي، البيقو الذين هاجروا من
موطنهم الأصلي فأقطعهم سلطان دارفور أرضاً سكنوه، المسيرية الحمر،
المسيرية الزرق، الداجو وهم من أقدم سكان دارفور، الفراوجية،
بنوحلبة، بنوعمران الذين هاجروا من صعيد مصر، الزغاوة وهم خليط من
الزنوج والتبو والليبيين، التنجور الذين يقال إنهم من بني هلال،
بنوجرار الذين يرتبطون بأواصر قربي بقبيلة فزارة، وقبائل- الفرتيت-
ومنهم دار رونحية -فنقرو -بندله بينحيه -شالا.، الحبانية، المساليط،
"ولملكهم السلطة التامة عليهم، يفعل ما يريد، وإذا عزل صاحب منصب
لا يُسأل لماذ؟ وإذا أمر بأمر لا يراجع فيه، لكنه إذا ظلم
يبغضونه، والملك عندهم وراثي ولا يمكن توليـة أجنبي عليهم، وإذا
تولي ملـكهم السلطة يجلس في بيته ســبعة أيام لا يأمر ولا ينهي،
ولا تقام بين يديه دعوي، ولكل منهم طائفة من العجائز يســمون -
الحبوبات - وهن طــائفة عظيمة ترأسهن - ملكة - يأخذن الســلطان عند
تولــيه ويطفن به البيت.
ومن عادات ملوكهم أن السلطان لايسلم علي أحد إلا من خلال ترجمان،
وإذا أطال الجلوس روّحوا عليه بمراوح من ريش النعام، وإذا خرج
للصيد ظللوه بشمسية وأربع مراوح من ريش النعام، وإذا ركب جواده
فعثر وسقط من عليه رموا انفسهم جميعاً من ظهور خيولهم، وإذا تكلم
أحد بين يديه بدأ بالقول: سلم علي سيدنا.
"وخلال عروض الاحتفالات عندما يمر علي علية القوم يصيحون بصوت
واحد: برنس البلاد، حر السلاطين، أدّاب العاصي، فرتاك الجبال، وغير
ذلك، وإذا كان بعض الوزراء أو القواد غائباً وقت الاحتفالات ثم جاء
واتهم بغدر أو خيانة يسقي من ماء - كبلي - فإذا كان بريئاً يتقيؤه
في الحال وللملك مزرعة خاصة يزرعها في احتفال عظيم يقام في الموسم،
ويخرج فيها معه الفتيات المتجملات ما ينوف علي المائة منهن حاملات
آنية المأكل يغنين مع جوقة أخري من حاملي الحراب، وعندما يصل إلي
المزرعة يكون أول من يرمي البذور في الأرض، ثم توضع موائد الأكل
ويأكل الجميع قبل عودتهم إلي منازلهم.
"ومن تعظيمهم له:أنهم سموا المناصب في المملكة بأسماء أعضاء جسمه،
فمنصب رأس السلطان وظيفته أن يمشي بعساكره أمامه إذا كان مسافراً
أو في رحلة صيد، ومنصب رقبة السلطان وظيفته أن يمشي بجيشه خلف
الأول، ومنصب فقرات ظهر السلطان وظيفته أن يمشي خلف الجيوش فلا
يعقبه أحد، ومنصب ساعد السلطان اليمين ووظيفته أن يمشي مع عساكره
يمين السلطان، ومنصب الساعد الأيسر للسلطان وهو قرين الأول في كل
شيء، ومن المناصب منصب ملك الموحيه، ومسؤوليته الطرب والترفيه
والعاملون في الوظيفة من أفقر النـاس وحرفتهم السؤال ويهابهم الناس
لأنهم يمدحون من يعطي ويذمون من يمنع.
.وهؤلاء وعشرات غيرهم من أصحاب الوظائف الأصغر مرتبة لا يتقاضون
رواتب من السلطان، بل لكل منهم إقطاع من أفدنة كثيرة يزرعونها
دخناً وذرة وسمسماً وفولاً وقطناً.
"ومن رجال الإدارة المركزية: ملك النحاس، ملك دادات السلطان، ملك
خوال السلطان، ملك الفاشر أو محافظها بلغة اليوم، وملك الجباة وملك
الحدادين.
أما السلطان فله الزكاة، والهامل من رقيق وبقر وغنم وحمير تباع
ويأخذ ثمنه، وله الهدايا بمناسبة توليه، وله الخطية وهي مال يدفعه
الجاني للحاكم،
وقد اشتهر من ملوكهم - اليتيم- وهو السلطان عبد الرحمن
-1787-1801م، فحالما استقر له الأمر أبطل المكوس ورفع المظالم
وانتبه لعمارة البلاد ورفاهية الحال وحرّم شرب الخمر والزنا وأمن
الطرق حتي كانت المرأة تسافر من أقصي البلاد إلي أقصاها لا تخاف
شيئاً وكثرت التجارات وتتابع الخصب وأظهر العدل التام فكان لا يكرم
ظالماً ولا يُعينه ولو كان من قراباته، كما اشتهر السلطان محمد
حسين -1839- 1874م - بالكرم وتحدث عن ذلك علي بك الخبير من التجار:
(دخلت عليه يوماً ومعي هدية نفيسـة من تحف مصر تساوي 2000 قــرش،
فـأمر لي بـ 200 بعير من أكرم الإبل).
بلاد دار فور زمان!
ويصف الرحالة بلاد - دار فور - وصف الخبير، فهي الإقليم الثالث من
ممالك السودان، والسودان يطلق قديماً علي الأقاليم شبه الصحراوية
من إفريقية، وتمتد جنوب الصحراء الكبري إلي المحيط الأطلنطي غرباً
إلي الحبشة شرق، والقادم من المشرق أول ما يقابله من أرضها مملكة
سنار، كردفال - كردفان - دارفور، والقدماء يطلقون علي بعض أهل
السودان - التكرور - ويعنون به أهل مملكة برنو في تشاد، وحد الفور
شرقاً - الطويشة شرقي نيالا ، وغرباً المساليت وشمالاً المزروب
وجنوباً الخلاء بين درفيت غربي بحر الغزال، ودرفيت أول بئر يعرض
لمن يتوجه إلي مصر، وتتبعها ممالك: الزغاوة، مملكة الميدوب ، مملكة
البرتي، مملكة البرقد، مملكة برقو، مملكة التنجور، مملكة ميمة.
ويتولي هذه الممالك سلاطين يوليهم سلطان الفور.
"ويحيط بجانبها الشرقي والجنوبي كثيرمن قبائلها: من عرب البادية
كالمسيرية الحمر والرزيقات والفلان، وبني حلبة، وهم أهل ماشية وبدو
رحل، ويبلغ طول دارفور من أول بلاد الزغاوة إلي دار رونحية: مسيرة
60 يوماً.
"ودارفور وإن كانت إقليماً واحداً ومملكة واحدة إلا أن مناخها
مختلف: وأصحها القوز لسلامة أرضه من العفونات، ويليه في الصحة بلاد
الزغاوة المسماة بدار الريح، وأردؤها هواء الصعيد خاصة : جبل مرة
وأردأ من ذلك المدن وأقواها في ذلك الفاشر، وأوخم بلادهم: سلا -
فنقرو -بينحيا - شالا لكثرة الرطوبة واستمرار هطول الأمطار "10"
شهور في السنة.
وتكثر الزوابع في فصل الصيف، ولا أعلــم أرضاً يكثر فيها السراب
والزوابع كالسودان.
"ودار فور منظمة تنظيماً محكم، وأبرز معالمها جبل مرة الذي يسكنه
أعجام الفور، وهو عدة جبال صغار وكبار، واراضيه طينية سوداء
ومواشيهم ترعي بدون راع ولوحده، وفي قبائلهم بخل، ويختلف عنهم
قبائل من دارفور فيهم كرم ونجدة ورقة طبع.
"وأعمردارفور شمالاً بلاد البرتي والزغاوة، والبرتي أرق قلوباً
وأحسن وجوهاً وأجمل نساءً، والمساليت نساؤهم جميلات، وأجمل النساء
في دارفور نساء العرب، بل ورجالهم كذلك، وأجمل أهل بلاد السودان
عموماً من مشرقها لمغربها- عفنو - غربي أغاديس - الواقعة علي طريق
القوافل بين السودان الأوسط وبلاد المغرب.
"وقد زرت جبل مرة عام 1220 هـ ، وحين رآني أهلها اجتمعوا علي
متعجبين من احمرار لوني، وأتوا إليّ أفواجاً أفواجاً فلم يروا
عربياً قبلي،
"والمطر دائم علي جبل مرة ويزرع أهله قمحاً لم أر له نظيراً إلا في
بلاد المغرب أو في أورب،" وهم لا يأكلونه بل يبيعونه ويشترون
بثمنه الدخن.
"ومن عوائدهم أن النساء لا يحتجبن عن الرجال، ومن عوائدهم أن
الصبيان والبنات لا يستترون إلا بعد البلوغ، ومن عادتهم عدم الترفه
والتفنن في الأكل، بل كل ما وجدوه أكلوه، وربما أحبوا الطعام المر،
ومن عاداتهم أن الشباب في كل بلد لهم رئيس يسمي - الورنانج - وكذلك
للنساء الشابات رئيسة تسمي - الميرم - ، ينظمان الاحتفالات في
الأفراح،
"ومن عاداتهم أن يأخذ العاشق شيئاً من حلي محبوبته ويلبسه افتخاراً
وتذكاراً لاسمه، وإذا أصابه هم أو عثر يقول: "أنا أخو فلانة وهي
تقول كذلك"، وقد اجتهد السلطان - اليتيم - عبد الرحمن: في منع
الخلوات غير المشروعة.
"
كما اجتهد في منع شرب الخمر فما أمكنه، وكان يأمر بشم أفواه من
يحضر مجلسه من الأكابر فاستعملوا لإزالة رائحته مضغ - الشعلوب -
وهو مزيل لرائحته، وهذه عوائد ارتكزت في طبائعهم فصارت عندهم
عادة متبعة،
ومن عادتهم أن الفقير إذا تزوج وجاء يوم الوليمة يعمد إلي مرعي
المواشي فيعقر منه ما يكفي لوليمته فــإذا بلغ الخبر صاحب الماشية
فإما أن يطلب ثمناً لها أو يسكت حتي يكون له عــرس فيفعل الشيء
ذاته، ولذلك يعمد أصحاب المواشي في مواسم الزواج إلي إبعاد ما شيتهم إلي الخلاء،
ومن عاداتهم المغالاة في المهور وربما تزوجت الوسـيمة بعشـرين بقرة
وجارية وخادم،
وإذا دعي أحد إلي وليمة عرس يأتي بـ: بقرة أو بقرتين أو ثورين أو
بشياه إعانة لصاحب الوليمة، وكذلك يفعل أقاربه من خارج بلدته،
ومن عاداتهم أن الرجل إذا خطب بنتاً وكان له سابق معرفة وتواصل مع
أبويها تذهب تلك المخالطة بمجرد الخطبة، فإذا ري الخاطب أحد أبوي مخطوبته في الشارع فرّ من الطريق وهما يفرّان مثله، وكذلك تفعل
البنت مع أبوي خطيبه، والأم إذا رأت خطـيب ابنتها: بركت علي الأرض وسدلت ثوبها عليها حتي يمر، وهو كذلك يفعل.
"ومن عاداتهم أن المرأة لا تأكل أمام زوجه، ولا غيره من الرجال،
وإذا دخل زوجها وهي تأكل قامت وفرّت، والعريس لا يأخذ عروسه إلي
بيته حتي تلد له ولدين وتبقي أثناء ذلك في بيت أبويه، "ومن
عاداتهم أن الزوجة لا تذكر اسم زوجها علي لسانها أبداً وتقول: قال
لي، فإذا سُئلت من قال؟ تقول: هو، حتي يولد لهم، فعندها تقول أبو
فلان.
ومن عاداتهم أن الزوج لا ينفق علي امرأته إلا بعد سنة من الزفاف،
ويصنع له والدا زوجته أثناء مقامه معهما أحسن الطعام مضافاً إليه
وجبة - ورَّانية - ليلاً لتقويته.
وأهل دارفور لا يستقلون بشيء من أمورهم عن النساء، فيشاركن في كل
شيء إلا الحرب، ولولاهن لما استقام لهم شيء.
"والأولاد الذين ينجبون من أبوين من سكان دارفور أطول أعماراً
وأقوي بنية، وكذلك أعراب البادية لا يموت الرجل منهم حتي يري من
ولده عدداً كبير، ولو تزوج عربي فورية أو فوري عربية تكون سلالته
ضعيفة، نحيفة لا يعيش منها إلا ما قّل، وهم يستعينون علي صحة الطفل
بأخذ الدم منه بعد أن يستكمل أربعين يوم، ويشرطون بطنه من
الجهتين حتي يسيل الدم.
وأعراب البادية منعمون لا يحتاجون إلا إلي الدخن والذرة والملبوسات
ويشترون حاجياتهم بما زاد عن كفايتهم من العسل والسمن والمواشي
والجلود.
ويعالجون ما يعرض لأطفالهم من أمراض بأعشاب ونباتات محلية،
والجراحة متقدمة عندهم لكثرة الفتن والحروب، فتراهم يخيطون الجروح
حتي إن من خرجت أمعاؤه يردونها ويخيطون عليها فيبر، ويداوون
الشجاج بأنواعه، ويعملون عملية - الكتراتا - في العين مع مهارة
تامة، وأطباؤهم مسنون والشباب بينهم نادر، ويعالج النقرس - مرض
الملوك - بوقوف المريض حافياً في إناء به سمن بقري حار.
وللنباتات في بلادهم خواص يذكرونها ويعتقدونها: منها ما يستخدم
للمحبة والقبول فيمسح المحبوب بشيء من جذوره علي محبوبته فيكون
بينهما تقارب ومحبة، ونبات يستعمل لقتل العدو ويغرز في رأس المراد
قتله فيلتهب المخ في الحال فإن لم يتدارك سريعاً مات، ومنها جذور
نباتات خاصيتها جلب النوم يستعملها اللصوص عند سرقة البيوت.
هكذا يتعاملون
أما كيف يتعامل ويتبايع سكان دارفور: "في العاصمة يتعاملون بخواتيم
القصدير يشترون بها ما يحتاجونه من لحم ودجاج وطيب وحطب وخضروات،
والأمور العظام عملتها: الرقيق، ولا يعرفون القرش ولا الفرانك ولا
شيء من معاملات أهل المدن سوي الريال الفرنسي المسمي عندهم، أبا
مدفع، .ويتعامل بعضهم بالخرز، ويتعامل بعضـهم بالملح، وبعضهم
بالدخان ويسمونه - تابا - ويتعاملون بالقـطن، والبصل وبالحشــاشات
وهي قطـع حديد، ويتعاملون بأسورة النحاس، وبالدخــن، والملك لا
يحـكم عليهم بإجراء معاملة واحدة في جمـيع الأسـواق، بل أبقي كل
قوم علي ما اعتادوه.
"ولأن بلادهم حارة، يلبس أغنياؤهم الثياب الرقيقة جد، ويلبس
الفقراء ثياباً خشنة، ويلبس السلطان والوزراء والملوك كل منهم
ثوبين رقيقين جداً وسراويل، ولا يتميز السلطان عنهم إلا بما يلبسه
زيادة علي الثوبين، وذلك بأن يضع علي رأسه شالاً من كشمير، ويتلثم
بشاش أبيض، بحيث لا يظهر منه إلا الأحداق، كما يتميز بسيف مذهب
وبالمظلة إن كان راكباً وبالريش والسروج المذهبة وبالركاب وعدة
الجواد التي لا يضعها أحد غيره علي جواده، وإذا جلس للناس لا يتلثم
ولا يتلثم أحد بحضرته،
ويلبس أواسط الناس - الشوتر - وهو لباس مصبوغ بلون أزرق، ويلبسون
القداني الذي مع سواده يري في لونه حمرة، ومن عجيب ما رأيته أن
لابسه "النيلة" تدخل مســام جسمه حتي تؤثر في صدره.
والنساء يلبسن- الفردة - وهي مئزر في وسطهن، وتلبس الأبكار فوطة
صغيرة علي صدورهن، يقال لها - الدراعة - والبنات يلبسن - الكنافيس-
وإذا تزوجت البكر لبست - الثوب - وهي ملاءة تلتف بها ويتفاوت
الفقراء والأغنياء في قماشها.
ويتطيب النساء بالسنبل والمحلب وكعب الطيب ويعرف في مصر بالبنفسج،
وخشب الصندل والظفر وهو شيء كالمحار، ويتكحلن بالكحل ولكن لا يضعنه
علي أعينهن بل علي الأجفان السفلي والعليا من الخارج والشابات
والشباب في هذا سواء، ويتطيب الأكابر بالمسك وثمر شجر - الدايوق -
زكي الرائحة،
ويختم الرحالة بالحديث عن السحر وضرب الرمل عند السكان في ذلك
الزمان ويروي ما سمع وما شاهد من ذلك، ويقول "وإنما ذكرنا نبذة
صغيرة عن ذلك ليكون للناظر لرحلتنا هذه إلمام بما كان يحدث هناك.
واللّه أعلم .
*
كاتب سعودي
المرجع: تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان. للرحالة: محمد
بن عمر التونسي، وملحقين بالرحلة عن الأمير أبي مدين ابن سلطان
دار فور لـ - بيرون، وتاريخ سلطنة دارفور من- أول نشأتها إلي الفتح
المصري لمؤلفه، نعوم شقير.
الناشر: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر. عام
1965م - القاهرة.