طب

 

 

 

 كلنا سمعنا تحذير بعض الناس وخاصة من لهم إلمام بالطب أو المعرفة الطبية من زواج الأقارب، علماً بأننا جميعاً نعرف بعض الأسر والقبائل التي لم تخرج المصاهرة عن أفرادها، وهم يتمتعون بمزايا جسمانية وعقلية وجمالية ظاهرة!. ومن ناحية أخرى نجد أن الأطباء -عند أخذهم التاريخ المرضي- يسألون المرضى هل هم أقرباء وهل هم من عائلة واحدة ويعطون تلك القرابة أهمية خاصة، مما يدل على أن في التزاوج بين الأقارب تأثيراً سالباً استدل عليه طبياً أو تعارف عليه الناس اجتماعياً.

 

والواقع أن كثيراً من الناس في الأمة الإسلامية يرجعون الخوف والتحذير من زواج الأقارب إلى ما روي من حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والذي فهموا منه أنه عليه الصلاة والسلام ينصح بزواج (الأباعد) مثل حديث "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" أو يرجعون ذلك إلى الأثر المروي أو المنسوب لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في قوله "اغتربوا لا تضووا".

 

وقد وقفت كثيراً أمام تخوف بعض الناس وخاصة الأطباء أو العارفين منهم من زواج الأقارب، التخوف المبني على ذلك الحديث المذكور سابقاً!، وفي الوقت نفسه قد أسفر بحث لي مختصر (عن انتشار حالات الزواج بين الأقارب في مجتمعنا) عن عدم وجود زيادة تذكر في نسبة الإجهاض أو موت الأجنة بين الأزواج الأقارب عن ما هو سائد بين باقي الأسر التي تزاوجت من الأباعد (وأنا لا أشمل أمراض الدم الوراثية هنا)، وأعترف أن هذه دراسات علمية قصيرة، ولكن تخوف الناس من زواج الأقارب قد أثار في نفسي التساؤل الكبير: هل فعلاً يجب أن نحذر من التزاوج من الأقارب؟، وكما هو معروف فإن التزاوج بين الأقارب في مجتمعنا العربي والخليجي بصفة خاصة بنسبة كبيرة وبخاصة بين الأسر المرموقة والعريقة، ولم يظهر بينهم أي من الأمراض الوراثيةالتي لفت النظر إليها؟. بل إن كثيراً من أبناء تلك الأسر يتمتع بصفات وراثية قوية. إذاً نعود إلى السؤال: هل يجب أن نحذر من التزاوج بين الأقارب؟.

 

موانع أساسية للاستدلال

 

وللإجابة على ذلك لابد من معرفة ما استند عليه كموانع أساسية لذلك: وهما: البعد أو (المانع) الشرعي والمانع الطبي.

البعد الشرعي: والواقع أنه إذا نظرنا إلى الناحية الشرعية في ذلك ونبدأ بالمصدر الشرعي الأساسي وهو القرآن ثم الحديث.. نجد أن القرآن الكريم لم يحذر من زواج الأقارب بل أشار إلى الزواج بين الأقارب، ففي سورة الأحزاب آية 50 قال اللّه تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء اللّه عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك..} الآية...، ومن هذه الآية نجد أن اللّه سبحانه وتعالى قد أحل زواج الأقارب بل وربما حبذه، إذاً وكما قال أحد الباحثين "لو كان في زواج الأقارب ضرر أكيد ما كان أحله اللّه تعالى لرسوله، وأشار إليه صراحة بالزواج من أقاربه (بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته).

 

وإذا عدنا إلى المصدر الآخر وهو السنة. نجد أن الحديث النبوي الأكثر تداولاً في هذا الموضوع هو الحديث المروي عنه صلى اللّه عليه وسلم "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس".. والواقع أنه عند بحثنا عن قوة هذا الحديث وسنده، نجد أنه ليس له سند، فعند سؤالي لأحد أعلام الحديث، وهو الشيخ خليل ملا خاطر أستاذ الحديث في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن قوة وسند هذا الحديث، وكذلك بالاطلاع على رأي العلماء الآخرين الذين قاموا بمراجعة سند هذا الحديث الذي يستند عليه البعض وهو حديث "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" وجدوا أنه حديث لم تثبت صحة إسناده إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولكن هناك حديثاً آخر في هذا الخصوص سوف يرد ذكره لاحقاً.

 

إذاً فموضوع زواج الأقارب يحتاج من الناحية الشرعية إلى إعادة نظر مبنية على حقائق علمية وفقهية ثابتة.

 

البعد الطبي: البعد الطبي في الواقع هو مبني على وجود دلائل طبية تشير إلى انتشار أكبر في الأمراض الوراثية بين المتزوجين من أقاربهم! ولكن هل هذا الانتشار عائد لكون التزاوج حدث بين الأقارب. أم أن للوراثة دوراً سواء أكان بين الأقارب أو الأباعد؟ فكما هو معروف فإن هناك أمراضاً وراثية أن لم يفطن إليها تنتقل بين الزوجين بغض النظر عن قرابتهما، ولعله من المفيد هنا أن نلقي نظرة على أسباب الأمراض الوراثية.

 

الأمراض الوراثية

 

لا شك في أن الأمراض الوراثية مشكلة وأنها منتشرة في كل المجتمعات وأنها تنتقل من الآباء والأمهات إلى أطفالهم وأحفادهم، وأن وجودها بين أطفال من زواج أقارب ربما يكون أكثر انتشاراً، وقد دل بحث علمي أُجري في الكويت (للدكتور شوقي إبراهيم والدكتورة صديقة العوضي) عن زواج الأقارب، دل على أن نسبة الأطفال المرضى من آباء وأمهات أقارب أكبر نسبياً منها في أطفال غير الأقارب!. وهناك دراسات أخرى أيضاً أثبتت ذلك، وإذا كان هذا صحيحاً، ففي رأيي أن السبب ليس ناتجاً أساسياً لأنه زواج بين الأقارب فقط، وإنما لكونه زواج لم يتخير الأزواج والزوجات فيه الشريك المناسب.

 

أي إنهم لم يتخيروا لنطفهم وينكحوا الأكفاء، وهو ما أوصى به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.. ففي حديث صحيح في هذا المجال روى ابن ماجة وصححه الحاكم ورواه البيهقي عن السيدة عائشة مرفوعاً أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :"تخيروا لنطفكم أنكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم"، ففي هذا الحديث أمر النبي "بالتخير" في كل زواج ولم يحذر من زواج الأقارب، والجدير بالذكر هنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد تزوج من ابنة عمته زينب بنت جحش.

 

إذاً فالأمراض الوراثية سوف تنتقل من آباء وأمهات إلى الأبناء والحفدة، في كل الحالات فإن كانت تلك الأمراض أو بعض منها موجوداً بين الأقارب فإن انتقالها يكون أكثر، وإن كانت الأسرة المكونة من أقارب أسرة سليمة وخالية من الأمراض الوراثية فإن الخروج عنها والزواج من الأباعد قد يعرض الأجنة المنتظرة إلى أمراض وراثية أكثر والعكس صحيح.

 

والأمراض الوراثية عادة تحدث نتيجة لوجود خلل في عامل وراثي موجود في الخلية، والعامل الوراثي الذي يسبب المرض إما أن يكون عاملاً وراثياً (سائداً) وهذا له القدرة على إحداث المرض في الجنين بمفرده، أي ليس للزوج الآخر دخل في حدوثه (سواء كان الزوج الآخر من الأقارب أو من الأباعد) وإما أن يكون العامل الوراثي الناقل للمرض عاملاً (متنحياً)، وفي هذه الحالة لا يستطيع بمفرده نقل المرض، إنما يحتاج إلى عامل آخر من الزوج الآخر، ومن هنا إذا اجتمع زوجان وكل منهما يحمل عامل مرض وراثياً متنحاً فإنه سوف يكون ضمن أجيالهم أطفال مصابون بمرض وراثي ظاهر، وصحيح أنه قد يكثر بين الأقارب وجود هذه العوامل الوراثية المتنحية فتظهر في الأطفال، لكن أيضاً قد لا تكون بين الأقارب أي عوامل وراثية مرضية، وبالانتقال إلى الخارج للزواج من غير الأقارب فُتح باب للعوامل غير السليمة، كما أنه بالبعد عن الأقارب قد يكون في ذلك فقدان لبعض العوامل الوراثية الحسنة والطيبة والمرغوب فيها، مثل صفات الجمال أو الذكاء أو الطول أو البنية السليمة، وغير ذلك من الصفات المرغوبة.

 

إذاً فالحل الأمثل في هذا الموضوع هو الرجوع إلى الهدي النبوي والذي مع الأسف نحن المسلمون في غفلة عنه وإن كان الغربيون والدول المتقدمة اهتدوا علمياً إلى هذا الهدي، الهدي الذي وصلنا منذ أربعة عشر قرناً قبل وصول العلم الغربي إلينا وهو "التخير الوراثي قبل الزواج"، ففي الغرب يستفيدون -الآن- من الاستشارات الوراثية قبل الزواج والتي قد أمرنا بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين قال :"تخيروا لنطفكم" والتخير في عصرنا الحاضر قد يكون بالفحص في العيادات الاستشارية للأمراض الوراثيـــة وذلك لمن يشك في أن شريكة حياته أو شريك حياتها قد يكون ناقلاً لعامل وراثي متنــــح، هـــذه الاســتشارة مطلوبة ســــواء في الزواج من الأقارب أو الـــــزواج من الأباعد.

 

 

خلاصة القول

 

إن الزواج بين الأقارب منتشر في المجتمعات العربية هذا ما دلت عليه دراسة مبدئية قمت بها في المستشفى الجامعي -قد وجدت  أكثر من 05% من المصاهرة بين أفرادها- أن زواج الأقارب وإن كان يؤدي دوراً في إظهار بعض الأمراض الوراثية المتنحية إلا أنه يؤدي دوراً كبيراً في إبراز بعض الصفات الجيدة المرغوبة.

 

إن الإسلام قد أباح زواج الأقارب ونص عليه، وأن الرسول قد أمرنا بحسن الاختيار سواء كان ذلك من الأقارب أو من الأباعد، وأن حسن الاختيار هو العامل الأساسي فيه لتلافي الأمراض الوراثية وتجنبها.

 

والاعتقاد أن زواج الأقارب - بحد ذاته - يزيد من الأمراض الوراثية في الذرية اعتقاد مغالىً في صحته، والاعتماد على الحديث المنسوب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" حديث لم تثبت صحته، ولا ما روي عن عمر بن الخطاب "اغتربوا لا تضووا"، وإنما الصحيح هو الهدي النبوي الكريم وهو ما يعمل به الآن في الأوساط العالمية!. (تخيروا لنطفكم أنكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم) أي أنكحوا من تثبت صحته الوراثية سواءً بالتحري والسؤال كما كان يحدث في القديم، أو بالفحــوصات المعملية كما هي الحال اليوم

 

* عميد مؤسس لكلية الطب والعلوم الطبية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة -  أستاذ أمراض النساء والولادة

 
  © أغسطس 2006 مجلة " أهلا وسهلا ".