اقتصاد

كانت سيارة الجيب اللاندروفر تقطع صحراء النفود بكثبانها الحمراء وبتشكيلاتها البديعة في ضحى أحد الأيام الأخيرة من فصل الشتاء، كانت الشمس تُسقط على الكثبان أشعتها الدافئة التي جسدت بها تلك التشكيلات الرائعة من الرمال بتعاقب الظلال والأشعة ما جعلها للرائي لوحة من لوحات الطبيعة الأخاذة، لم يكن سائق الجيب يسلك طريقاً واضحة في تلك الصحراء اللامتناهية التي تتماثل فيها المواقع، فاعتمد في مسيره على خبرته في الإرشاد عندما كان دليلاً معروفاً قبل أن يتعلم السياقة. لقد بدا للركاب الذين معه، وهم عائلة صغيرة، مثل ملاح غامض محترف يقود سفينته في بحار تبدو لغيره مياهاً وأمواجاً متكررة التشابه.

فجأة في خضم ذلك البحر من الرمال ظهر أنبوب طويل يشق طريقه ملتوياً أحياناً ومدفوناً في الرمال أحياناً. بدا وكأنه ثعبان عظيم لا تكاد تُرى نهاية طوله، كان بني اللون صديئاً، وعندما اقتربت السيارة منه، نزل من كان فيها إلا المرأة. 

قال الأب لابنه بعد أن مسح الرمال من على سطح الأنبوب: ضع أذنك هنا.

كان الأنبوب دافئاً، وعندما وضع أذنه عليه سمع صوت هدير اندفاع السوائل المتلاطمة في داخله، كان مبهوراً به مع شيء من الخوف ولكنه ما لبث أن أحس بالراحة والطمأنينة عندما شعر فيه بنبض الحياة المندفعة في صمت تلك الرمال الحمراء الموحشة. وتساءل: من أيـــــن أتى؟ وإلى أين يــــذهب؟ وما شكل هذا النفط الذي بداخله؟ ولكنه في حيرته تلك، ما كان يعلم أنه بعد ثلاثــــين عاماً سوف يُقدّر له أن يدير أنبوباً آخر أكبر حجماً وأحدث تقانة وســــــوف يعتبــر في حينها أنه أضخم خط أنابيب لنقل النفط الخام في العالم.

كان الأنبوب الذي أدهش الصبي هو خط التابلاين أو ما كان يعرف بخط أنابيب نقل النفط عبر البلدان العربية، وكان طوله 1700 كيلومتر تقريباً وبقطر متزاوج قدره ثلاثون وواحد وثلاثون بوصة، وكان يعبر في طريقه بأربعة بلدان عربية ابتــــداءً من مصدر النفط الخام في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية ثم يعبر المملكة الأردنية الهاشمية ثم يمر على مرتــفعات الجولان بالجمهورية الســـورية إلى أن يصل ميناء الزهراني جنــــوب مدينـة صيدا بالجمهورية اللبنانية.

بدئ العمل في إنشاء خط التابلاين في يناير 1948م وانتهى الإنشاء في سبتمبر 1950م  وكانت طــاقته ثلاثمائة ألف برميل يومياً، وبعد أن مد العالم بما يقارب ملياري برميل (1.86مليار) من النفط الخام السعودي في سبع عشرة سنة من عمره القصير، توقف عن العمل وتفككت أجزاؤه و(تشلّحت) أنابيبه في بعض البلدان التي كان يعبرها مساره بسبب ما تعرضت له منطقة الشرق الأوسط من تغييرات حدودية وسياسية كان من الصعب استمرار تشغيله فيها، لقد كان الغرض من إنشائه هو تصدير النفط السعودي مباشرة إلى البحر الأبيض المتوسط لإمداد أوروبا التي كانت متعطشة للنفط الخام، فنشأت فيها سوقاً مربحة للنفط في مرحلة إعادة بناء القارة التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، ولقد كان من مميزاته أنه اختصر المسافة والزمن الذي يستغرقه النفط الخام لوصوله إلى أوروبا، بالإضافة إلى توفيــــر تكلفة الرســـــوم العالية التي كانت تدفعها ناقلات النفــــط من أجل المرور في قناة السويس.

النفط في المملكة

وبرغم عمره القصير إلا أنه كان أسطورة من أساطير صناعة النفط في المملكة العربية السعودية التي فيما بعد في العام 2006م سوف يكون معروفاً أن أرضها تحتوي على احتياطي من النفط الخام المؤكد يبلغ قدره  261.5 مليار برميل أو ما يساوي ربع احتياطي النفط الخام المؤكد في العالم، وسوف يكون في أرضها حقل الغوار الذي يبلغ ما تبقى من الخام فيه حوالي سبعين مليار برميل، والذي يعتبر أضخم حقل نفط على اليابسة في العالم، كما أنه سيكون في مياهها حقل السفانية وهو أكبر حقل نفط مغمور في العالم والذي يبلغ ما يحتويه من الخام حوالي خمـــــسة وثلاثين مليار برميل.

عندما تم التفكير في إنشاء خط التابلاين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان إنتاج النفط الخام في المملكة لا يتجاوز عشرين ألف برميل يومياً. أين ذلك من إنتاجها الحالي الذي يتجاوز تسعة ملايين برميل يومياً؟ وكيف نجري المقـــــارنة بالأرقام القياسية التي ذكرنا بعضها هنا أو التي لم نذكرها بالأرقام التي كانت في ذلك التاريخ؟  

أشرنا آنفاً إلى أن ما تبقى من النفط الخام في حقل الغوّار العملاق يساوي سبعين مليار برميل. وأما نوعية خامه فهي ما يسمى بالعربي الخفيف، وتوجد في المملكة خمسة أنواع رئيسية من النفط الخام هي: خام العربي الثقيل، خام العربي المتوسط، خام العربي الخفيف، خام العربي الخفيف جداً، وخام العربي الخفيف الممتاز، وتأتي هذه الأنواع من حقول المرجان والسفانية والغوار والبري والشيبة والحوطة وغيرها، وكما هو ملاحظ أن المسميات متقاربة جداً مما قد يتسبب في شيء من التضارب والغموض، وعند نشأة هذه المسميات في بداية مرحلة النفط في المملكة، لم تكن هناك مشكلة لأن الخام المكتشف حينها كان إما خفيفاً أو متوسطاً أو ثقيلاً. أما بعد تحول شركة أرامكو إلى شركة سعودية خالصة، مما أهلها للاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز خارج مناطق الامتياز المحددة للشركة القديمة، وباكتشاف خامات حقلي الحوطة والشيبة، ومن قبل خام البرّي الخفيف جداً، فقد أصبحت المسميات تكاد تكون متداخلة، وسوف تكون مشكلة لو تم اكتشاف خام خفيف جديد بكثافة نوعية جديدة، وحيث إن خامات النفط في جميع أنحاء العالم لها بصمات فريدة بحيث إن لكل خام بصمته الخاصة التي لا يمكن أن يماثله فيها خام آخر، ففي رأيي أن تسمية الخامات بأسماء حقولها - كما هو متبع عالمياً- كان أولى ويرفع أي غموض حولها بالإضافة إلى عدم محدودية المسميات، فتكون خامات نفوطنا على سبيل المثال كالآتي: خام الغوار وخام الشيبة وخام السفانية وخام المرجان وخام الحوطة وغير ذلك، كما أن من ميزة هذه الطريقة في التسميات أنها تتيح الفرصة لعدة أنواع من خامات النفط في منطقة واحدة لأن تأخذ مسميات مختلفة ومحـــددة كأن يقال مثـــلاً: خـام الغـوار (1) وخام الغوار (2) وخام الغوار (3) وهلم جرا.

سيقول قائل: إن تلك المسميات متعارف عليها عالمياً ومن الصعب تغييرها. ويمكن الرد على ذلك بأنها لن تكون أصعب من تغيير نطق اسم العاصمة الصينية من "بيكين" إلى "بيجين" أو تغيير اسم مدينة "سانت بطرسبيرق" إلى "لينينقراد" ثم العودة إلى الأصل، كما أنه بالإمكان الأخذ باقتراح وسط بحيث يتم الإبقاء على الخامات الثلاثة الأقدم، وهي خامات العربي الخفيف والعربي المتوسط والعربي الثقيل وتغيير الخامات الأخرى لتكون منسوبة لحقولها، ثم اتباع هذه الطريقة لكل ما يستجد، ومن البديهي ضرورة وضع حد للمسيات بحيث تكون الرئيـــسية منها لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، وأن يتم اختيارها على أسس ومعايير معينة وصـــــارمة قد ينـــدرج فيها حجم الحقل وأهميته وتشابه الخامات التي يمكن انضمامها تحت مسماه وإلا ســوف يكون من العبث تسمية أكثر من ثمانين حقــلاً واعتبارها جميعاً بنفس الأهمية.

حقول ضخمة

وقد تم اكتشاف حقل الغوار في عام 1948م. إلا أنه نظراً لضخامته فقد استكمل اكتشاف أجزائه في الخمسينيات الميلادية، وهناك من يقول بأن استكشاف حقل الغوار كاملاً وبكل تفاصيله قد استغرق خمسة وأربعين عاماً. ويبلغ طوله 280 كيلومتراً وأما عرضه فيبلغ 30 كيلومتراً، ويبلغ إنتاج هذا الحقل بمفرده أكثر من نصف إنتاج المملكة من النفط الخام، حيث تقول أرامكو السعودية إنها تنتج منه حالياً حوالي خمسة ملايين برميل يومياً. ويعتبر هذا الإنتاج أعلى إنتاج لحقل نفط في العالم ولا ينازعه حقل نفطي سواه، حيث إنه يسهم بمفرده بأكثر من ستة في المائة من إنتاج النفط في العالم. فلو حسبنا هذه الطاقة الإنتاجية السنوية لحقل الغوار، لوجدنا أن مقدارها مليار وثمانمائة وخمسة وعشرون مليون برميل سنوياً، ولو استمر الإنتاج على هذا المعدل العالي فسوف يستمر عطاؤه لمدة ثمانية وثلاثين عاماً بإذن الله. إلا أن هناك إمكان لإطالة عمر الإنتاج إلى أربعين أو حتى خمسين عاماً قادماً بتعزيز الاحتياطي المؤكد وباللجوء إلى التقنيات الحديثة في الحفر والاستكشاف وبتخفيض مستوى الإنتاج، فهذا حقل واحد يوازي تقريباً كل ما لدى روســـيا من احتياطي النفط الخام الذي يبلغ اثنين وسبعين مليار برميل. 

وأما حقل السفانية وهو أكبر حقل مغمور في العالم، فيبلغ ما تبقى فيه من النفط الخام المؤكد خمسة وثلاثين مليار برميل أو ما يساوي من حيث الكمية احتياطي ليبيا من النفط الخام، وقد تم اكتشافه في عام 1951م. ويبلغ طوله 50 كيلومتراً وعرضه 15 كيلومتراً ويبلغ إنتاجه - حسب ما تقول أرامكو السعودية -  1.2 مليون برميل يومياً، أما نوعية نفطه فهو من الخام العربي الثقيل.

لقد تطرقنا في هذا المقال إلى أضخم حقلين للنفط في العالم، الأول حقل اليابسة العملاق (الغوار)، والثاني حقل المياه المغمورة العملاق (السفانية)، وكما لاحظ القارئ أنهما حقلان تم اكتشافهما قديماً ولكنهما ما زالا يمدان العالم بالنفط الخام. فبعد ما يقارب ســـتين عاماً منذ اكتشــــافه، لا يزال حقل الغوار شاباً في إنتاجه، بل وســـجل أرقاماً قياسية في الإنتـــاج لم يبلغها أي حقل آخر في العالم.

ولكن القصة لن تنتهي هنا لأن المملكة لم تصبح ـ في السنوات الأخيرة ـ عقيماً في اكتشاف الحقول النفطية الضخمة، ويكفي للدلالة على ذلك أن أجود الخامات النفطية قد تم اكتشافها واستخراجها ووصلت إلى الأسواق العالمية في الفترة التي تلت تملك المملكة بالكامل لشركة أرامكو، ويكفي أن إنتاج خام حقل الشيبة الذي يبلغ معدل إنتاجه حوالي ستمائة ألف برميل يومياً وإنتاج خام حقل الحوطة الذي كانت منطقته خارج منطقة امتياز الشركة القديمة والذي ينتج مائتي ألف برميل يومياً يصل الأسواق العالمية عند شروق شمس كل يوم.

وسوف نتطرق - بإذن الله - إلى الاكتشــــافات الحديثة وغيرها في مقال قادم

-----------------------------------------

* أديب وشاعر سعودي

مختص بالشؤون البترولية