علوم وتقنية

 

 

بقلم: د. خضر محمد الشيباني *

من أبرز أدبيات (الخيال العلمي) رواية (حرب الكواكب) للروائي البريطاني المعروف هـ.ج. ويلز (H.G.wells)، التي نشرها في عام 1898م، وفيها تخيّل غزو بريطانيا من قبل مخلوقات قادمة من كوكب المريخ مدججة بأسلحة فريدة من نوعها، من أبرزها أجهزة تولّد شعاعاً حرارياً رهيباً قادراً على تدمير كـــل ما يعترض طريقه.

 

وبعد تلك الرواية بستين عاماً استطاع العلم أن يجسّد ذلك الشعاع حقيقة ملموسة وواقعاً حياً حيث بدأ السعي الحثيث في الخمسينيات من القرن الماضي للاستفادة من المعطيات العلمية لتوليد شعاع ليزري فاهتمّ به حشد من العلماء، وكان منهم الأمريكي (تشارلز تاونز)، والروسيان (بازوف) و(بروخروف)، وتسلّم الثلاثة جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1964م لأعمالهم في هذا المجال.

 

وأما الفيزيائي الأمريكي (ثيودور مايمان) فقد حظي بقصب السبق عندما تمكّن من صنع وتشغيل أوّل ليزر باستخدام الياقوت لإنتاج شعاع ليزري أحمر، وأما (شعاع الليزر) فهو الشعاع الذي يمكن أن يـكون شعاعاً للموت والدمار كما تخيّلته الرواية، ويمكن أن يكون - أيضاً- شعاعاً للحياة في تطبـيقات حياتيــة لا حصر لها تفيد البشرية، وتحقق منافع شتى ينعم بها الإنسان، وبذلك أصبح (شعاع الليزر) من المفردات العصرية البارزة حيث تتناقل أخباره وتطبيقاته وتأثيراته وسائل الإعلام المختلفة، وأصبحت (صناعة الليزر) تقدر ببلايين الدولارات.

 

ولعــله من المناسب أن نســـأل: (ما هو الليزر؟ وما طبيعة هذا الشعاع العجيب؟ ومن أين ينبعث هذا الشعاع؟ ولماذا ينبعث؟ وما خصائصه؟)، ومن المناسب أيضاً أن يكون مدخلنا للإجابة عن هذه الأسئلة عبر فهم طبيعة شعاع (الضوء العادي).

طبيعة الشعاع العادي

 

(شعاع الليزر) ضوء ذو خصائص مميزة ومختلفة عن خصائص (الضوء العادي)، ولكي نفهم هذا الأمر لابد أن تبدأ رحلتنا مع شعاع الضوء الذي يصــــدر من المصابيح التقليـــدية، وهو ضوء ينطلق من الذّرة، ولذا نستطيع أن نقول بأن (الذرة هي مصنع الضوء)، وإذا وضعنا هذه الذرة في ظروف خاصة، فإنــها تصــبح (مصنعاً لأشعة الليزر) أيضاً.

 

كيف ينبعث الضوء العادي من الذّرة؟

تقوم ذرات المادة في الظروف العادية باحتلال مستويات الطاقة المنخفضة، فإذا امتلأ مستوى أدنى من الطاقة، احتلّت الذرات المستوى الأعلى الذي يليه، وهلم جرا، وهذا هو المتوقع في أية حالة طبيعية مثل تعبئة البيض في صندوق حيث تتراصّ البيضات في طوابق البيض الدنيا، فإذا امتلأت انتقلنا إلى تعبئة الطوابق الأعلى.

 

وهكذا نجد أن أكبر عدد من ذرات المادة في الظروف العادية تحتل مستويات الطاقة الدنيا، ويتناقص العدد الذي يحتل المستويات الأعلى لنحصل على توزيع هرمي للذرات على مستويات الطاقة المختلفة.

 

ولكن.. عندما يتم تهييج هذه الذرات واستثارتها عبر التسخين الحراري أو بواسطة طاقة كهربائية، فإن بعضها ينشط وينتقل إلى مستويات أعلى، ولكنها لا تستطيع أن تظل هناك فترة طويلة، فهي سرعان ما تفقد تلك الطاقة لتعود إلى الأماكن الشاغرة في المستويات الدنيا، وهي تفقد طاقتها تلك على شكل طاقة ضوئية، فتتوهج الذرة وينبعث منها الضــوء، وهذا هو ما يُعرف بـ(الانبعاث التلقائي).

 

ولتوضيح الصورة أكثر نجد أن هذا الحال شبيه بعملية كرات تتدحرج تلقائياً من أعلى إلى أسفل لتملأ المواقع الشاغرة في المستويات الدنيا؛ فإذا امتلأت المواقع السفلى بدأت المواقع التي تليها بالامتلاء وهكذا دواليك، ولكي نرفع كرة من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى، فإننا نحتاج إلى طاقة، وعندما نفلت الكرة، فإنها تتدحرج إلى أسفل لتحتل الموقع الشاغر في المستوى الأدنى، وبالتالي تفقد الطاقة التي اكتسبتها.

 

الفوتونات

 

إن الطاقة الضوئية التي تنطلق من الذرة عبر عملية (الانبعاث التلقائي) عندما تسترجع الذرات أوضاعها المعتادة بعد تهيّجها، يمكن أن نعبّر عنها -علمياً- بما يُسمّى (الفوتونات)؛ فالفوتون هو (الوحدة الأساسية للاشعاعات الكهرومغناطيسية، وهي إشعاعات ذات مدى واسع يحتل الضوء منطقة ضيقة منه، وتنطلق الفوتونات على شكل دفقات منتظمة ومنفصلة ذات طاقة محددة تنتشر في الفضاء وفق سلوك موجي وكأنها بذلك جسيمات ضوئية عديمة الوزن وحاملة للطاقة حيث تزداد طاقة كل فوتون كلما قصر طول الموجة).

 

مما سبق يتضح أن كل مصادر الإضاءة التقليدية ابتداءً من ضوء الشمس والمصابيح الكهربائية ومصابيح النيون بألوانها المتنوّعة، وانتهاءً بضوء الأخشاب المتوهّجة والشــــموع المتألقة والفحـــم المحترق، كلها تنبعث من الـــذرات على هيئة (فوتـــونات) عبــــر عملية (الانبعاث التلقائي).

 

 

ما الذي يجعل شعاع الليزر مختلفاً عن الشعاع العادي؟

تصدر (الفوتونات) المنبعثة من المصابيح التقليدية بواسطة (الانبعاث التلقائي) بشكل إفرادي وعشوائي، وفي إيقاعات زمنية متفاوتة، وتنطلق في اتجاهات مختلفة حيث لا يوجد أي ترابط (زماني) أو (مكاني) بين طاقات هذه (الفوتونات)، أي أن للموجات ألواناً مختلفة، وأطوال موجات متباينة، وبالتالي نقول إنها (موجات غير مترابطة)، ونتوقف هنا أمام مفهوم (الترابط) بين الموجات لأنه المدخل إلى (شعاع الليزر)، وهو يمثل الفرق الجوهري بين شعاع (الضوء العادي) و(شعاع الليزر).

 

في الوقت الذي نجد فيه أن أشعة (الضوء العادي) هي أشعة عشوائية حيث تنطلق فوتوناته من داخل الذرة بشكل إفرادي غير مترابط زماناً أو مكاناً مع غيره من الفوتونات، فإن (شعاع الليزر) هو على عكس ذلك تمــــاماً، فهـــو (أشعة مترابطـة ومنسجمة، يقوّي بعضها بعضاً، مما يكسبها خصائص مميزة).

 

كيف يتحقق الترابط بين فوتونات أشعة الليزر؟

خــلافاً لما يحــدث في عملية (الانبعاث التلقائي في (الضوء العادي) حيث تنطلق (الفوتونات) نتيجة لعودة الذرة تلقائياً إلى وضعها المستقر بعد تهيّجها، فإننا في حالة (شعاع الليزر) نستبق الأحداث في الذرة المتهيّجة، وقبل أن تعود الذرة تلقائياً إلى حالتها المستقرة نقوم بحثها على الهبوط إلى المستوى الأدنى لتبعث فوتوناتها، وتتم (عملية الحث) بواسطة إسقاط فوتون آخر عليها، فيصطدم بها ويحثها على الهبوط إلى المستوى الأدنى لينطلق منها في هذه الحالة فوتونان مترابطان زماناً ومكاناً: أحدهما الفوتون الساقط، والثاني الفوتون المنبعث من الذرة نفسها، وتتحقق (عملية الحث) بواسطة ضخ طاقة إلى (جهاز الليزر) لاستثارة الذرات واستخدام تقنيات تحقق شرط (الترابط) بين (الفوتونات) وتضخيم أعدادها.

 

وهكذا تتكرر هذه العملية بين بلايين الذرات لينتج عن ذلك حزمة ليزرية على شكل موجات مترابطة لها خصائص مميزة وقدرة عالية، ومن هذا الواقع كانت ولادة مصطلح (الليزر)، فهو كلمة مشتقة من الحروف اللاتينية الأولى من كلمات الجملة التالية:

Light Amplification of Stimulated) .(Emission of Radiation

وهي تعني: (التكبير الضوئي بواســـطة الانبعاث المستحث للإشعاع).

 

وهكذا نجد أن الليزر هو: (جيش منظّم من الفوتونات المتجانسة في إيقاعاتها الزمنية، والمترابطة في طاقاتها المكانية مما يمنحها قدرة عالية على التأثير والفاعلية)، أما شعاع المصباح التقليدي فهو: (زحام عشوائي من الفوتونات تتحرّك دون تنظيم أو تجانس أو ترابط).

 

وهكذا تجري سنة الخالق عزّ وجلّ وتهيمن في وحدة وتناغم عبر أرجاء الكون وفي الأفراد والمجتمعات والأمم، كما هي في شعاع الليزر، ليكون الاتحاد قوة والترابط متانة والتمـــاســك فاعلية، وأما التشتت فهو سبيل الضعف، والتفرق هو طريق الاضمحلال.

 

 

أمثلة لفكرة الليزر

 

زخّات المطر:

يُمكن أن نفهم ما تتمتّع به أشعة الليزر من تأثير فعّال وقدرة عالية إذا قمنا بمقارنة هذا الوضع بهطول الأمطار، حيث تسقط قطرات المطر فرادى ليس بينها توقيت زمني واحد، مما يجعل زخّات المطر تهطل على الأرض والمباني والمشاة دون ضرر يُذكر. أما إذا افترضنا أن هذه القطرات قد ترابطت مع بعضها، وهطلت في لحظة واحدة فإن الذي سوف يحدث هو أن آلاف الأطنان من الماء سوف تسقط في نفس الوقت على المباني والمشاة مما سينتج عنه - بطبيعة الحال - أضرار جسيمة، ومــا موجات تسونامي المدمرة إلا قطرات من الماء تجمّعت فــي حركة ذات إيقاع مشترك لتــدمر ما يقابلها من حجــــر، وتهلك من يعترض مسارها من بشر.

 

 ضربة الكاراتيه:

كيف يستطيع لاعب الكاراتيه المتمرّس تحطيم لوح خشبي سميك بضربة واحدة؟. إن الذي يحدث هنا أن لاعب الكاراتيه يركّز طاقته العضلية والفكرية، ويوجهها، في ضربة واحدة خاطفة خلال زمن قصير جداً، إلى أصغر مساحة ممكنة من الهدف، فتتضاعف بذلك طاقته عشـــرات المرات، وتكون كافية لتحطيم اللوح.

 

خصائص شعاع الليزر

يحظى شعاع الليزر بخصائص مميزة نتيجة للترابط بين فوتوناته، ومن أهمها:

 

1- أحادية اللون، فهو شعاع نقي له طول موجة محدّد، ولذا فــإنه لا يتحلل إذا مرّ عبر موشور زجاجي كما يحدث للضوء الأبيض العادي الذي يتحلل إلى مكوناته السبعة.

 

2- تنطلق أشعة الليزر في حزمة ضيقة جداً وتنتقل في خطوط مستقيمة مما يجعلها قادرة على قطع مسافات طويلة دون تفرق أو تشتت أو فقْد كبير للطاقة. ولذا فإنه عندما تم بث شعاع ليزري إلى القمر، فإنه انتشر على سطح القمر لمدى كيلومترين فقط (أي أضاء كيلومترين فقط)، وكانت هذه دقة كافية لدراسة تضاريس القمر وتعيين مواقع وديانه وبراكينه وجباله، وعندما أجريت التجربة نفسها باستخدام موجات الراديو على سطح القمر، فإنها انتشرت على سطح القمر لمسافة ثمانمائة كيلومتر.

 

لذا استُخدم شعاع الليزر لقياس المسافة بين الأرض والقمر، كما تُســـتخدم هذه التقنـــية لتعقب الأقمار الاصطناعية وحساب ارتفاعاتها عن الأرض.

 

3- للحزمة الليزرية قدرة عالية جداً، فالطاقة فيها مركّزة تركيزاً عالياً، وعلى سبيل المثال نجد أن:

 

●● الطاقة اللازمة لسلق بيضة تكفي لتــدمير دبابة كتلتها ستون طناً، لأنها إذا سقطت على شكل شعاع ليـــزري، فإنها تكون في هذه الحالة عبـــارة عـن بلايين من الفوتونات التي تســـقط في اللحظة نفســـها على مساحة صغيرة جداً من الدبابة.

●● لمبة النيون التي قدرتها 60 واطاً تُصدر ضوءاً أبيض لا يؤذي العين، في حين أن شعاع ليزر قدرته واحد على عشرة آلاف من الواط يسبب العمى إذا نُظر إليه بشكل مباشر لمدة دقيقة واحدة.

 

وخلاصة القول إن الليزر غزا مختلف مجالات الحياة، وتعدّدت تطبيقاته، وتنوّعت أصنافه، وأصبح يوصف بأنه (الحلّ الذي يبحث عن مشكلة)، فدخل المستشفيات والمصانع ومعاقل البحوث وأجواء التسلية والترفيه ومراكز التسوّق وعالم الاتصالات ودنيا الحروب والتطبيقات العسكرية، وما زال يكتسح الساحة كل يوم بجديد مثير وأفق منير وتطبيق قدير

* كاتب وأكاديمي سعودي

 

  © ديسمبر 2006 مجلة " أهلا وسهلا ."