شخصيات معاصرة |
![]() |
|
وإذا كان معهد المخطوطات التابع للجامعة العربية في القاهرة كرمه بإصدار كتاب خاص به فقد سبقه إلى هذا التكريم المملكة العربية السعودية، إذ خصص مهرجان الجنادرية منذ عدة أعوام له يوماً كاملاً للاحتفال به، والتنويه بأعماله وأفضاله وجهوده، وتكلم في ذلك اليوم رجال العلم، وأساتذة الجامعات، وصحف المملكة وإعلامها المرئي والمسموع، وكذلك خصصت مجلة اتحاد الكتاب العرب بدمشق عدداً خاصاً للغرض ذاته.
ولم تكن الجنادرية أول من انتبه إلى وجوب تكريم هذا الرجل الفذ، فلقد سبقها الملوك السعوديون إلى تكريمه، وتنفيذ كل ما يطلبه من عون لأداء عمله، كما سبقت المجامع العلمية العربية وغير العربية للإشادة بفضله، وجهده، وعلمه، وإخلاصه في تحري الحقــيقة، وخلقه العالي الذي هو خلق العلماء المخلصين.
رحلة علمية
إنه ولد في قرية (البُرُود) من إقليم (السِّرّ) في المملكة العربية السعودية سنة 1329هـ/ 1911م، وفي قريته حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، وأكمل تحصيله في الرياض، ثم رحل إلى مكة المكرمة طلباً للعلم في المعهد السعودي، وبعد تخرجه عمل في سلك التعليم، والقضاء، وإدارة المعارف بجدة. سافر بعدها إلى مصر، وانتسب إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة، ولما عاد عُيّن مديراً لكليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض، (وهاتان الكليتان هما نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فيما بعد).
أسس (صحيفة اليمامة) وأنشأ داراً للطباعة سماها (مطابع الرياض)، وطبع فيها أول الأمر (مجلة اليمامة) التي سميت فيما بعد باسم (اليمامة) وكانت قبل إنشاء هذه المطبعة تطبع في مصر، ثم انتقلت طباعتها إلى مكة المكرمة، ثم إلى لبنان، إلى أن استقر بها النوى في الرياض.
للشيخ الجاسر بحوث لا تكاد تحصى في جغرافية الجزيرة العربية، وتاريخها، وشـعرائها، وعلمائها، ولغوييها.. وله مؤلفات وتحقيقات مطبوعة زادت على العشرات، نذكر منها على سبيل الاستشهاد لا الحصر: (أبو علي الهجري وأبحاثه في تحديد المواضع)، (بلاد ينبع - لمحات تاريخية وجغرافية)، (مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ)، (البرق اليماني في الفتح العثماني للنهروالي)، (بلاد العرب للأصفهاني)، (القسم الخاص بشمالي نجد من المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية)، (في شمال غرب الجزيرة .. نصوص، مشاهدات، انطباعات)، (في سراة غامد وزهران) و(مجلة العرب) التي بدأت شهرية تصدر في رجب سنة 1386هـ/ أكتوبر 1966م، وما تزال تصدر شهرية منتظمة.
إن الذي رفع من مكانة أعمال الشيخ الجاسر اطلاعه الواسع على التراث العربي، ولا سيما قديمه، وولعه البالغ بالمخطوطات، ودراستها، وتحقيقها، بخاصة إذا كانت ذات صلة بالجزيرة العربية، وترحاله المستمر عبر الصحاري والفيافي ومختلف مناطق المملكة، ركوباً بالسيارة أو على ظهر بعير، أو سيراً على الأقــــــدام، بغية التثبت من موقع، أو التأكد من اسم، أو معرفة حدود منطقة بشكل دقيق.
ومثل هذا المنهج المدعوم بالتطبيق العملي يرفع من قيمة الأبحاث التي تصدر عن هذا الرجل العالم، وليس من المستغرب أن نقول: إن دراساته صححت كثيراً من المعلومات السائدة المغلوطة عن الجزيرة العربية، ودفعت أعضاء المجامع العلمية العربية إلى أن يرفعوا من شأنه وشأنها.
ونضرب على ذلك مثلاً بثلاثة كتب: واحد في الجغرافية، والثاني في التاريخ، والثالث في التـــراجــــم والســير لنتبين منهجه العام في التحقيق والتأليف الذي نال به إعجاب العلماء.
الكتاب الجغرافي: اسمه "بلاد العرب" للحــسن بن عـبداللّه الأصفهاني (من أبناء القرن الثالث الهجــري) وهذا الكتاب يحدد أجزاء كثيرة من منازل القبائل العربية التي كانت تقطن وسط جزيرة العرب متجاورة.
ويحاول المؤلف فيه أن يحصي ما للقبائل من مناهل وجبال وأمكنة، وما فيه من أسماء كثيرة، وما ورد منها في الشعر. كذلك يضم طائفة من المعلومات المتعلقة بالقبائل من أنساب وأسماء شعراء، وما في قلب جزيرة العرب من معادن.
وأهم ما فيه ذكر مواضع تتفق في الاسم لكن ضبطها يختلف باختلاف القبائل التي كانت تسكن في تلك المواضع، وهذا من الأمور التي توقع اللبس والخطأ والخلط في تحديد كثير من مواضع الجزيرة مما لا تمكن معرفته إلا بمعرفة من يسكنها من القبائل، وهو أمر لم ينتبه إليه كثير من الذين كتبوا عن تحديد منازل القبائل في جزيرة العرب، ممن لم يدركوا أن الاسم الواحد قد يطلق على عدة مسميات.
وكتاب (بلاد العرب) للأصفهاني أقدم ما كتب عن تحديد منازل القبائل في قلب جزيرة العرب، وهو - في الوقت نفسه - وثيق الصلة برواة وعلماء وشعراء من أهل تلك البلاد ممن يفوقون الأصمعي وأمثاله خبرة ودراية ومعرفة بمواضع الجزيرة، وسكانها، ممن هم أساتذة الأصمعي وغيره، وممن قاموا بتدوين أخبار البادية، وما يتصل بها من معلومات.
أما الفهارس فقد أخذت من الكتاب أكثر من مائة صفحة، مقسمة إلى أحد عشر فهرساً في: (مباحث الكتاب)، (أسماء المواضع)، (المعادن)، (أسماء الجماعات)، (أسماء الشعراء)، (فهارس الأشعار)، (النباتات)، (الأيام الواردة في الكتاب)، (الكلمات اللغوية) و(المصادر) و(المراجع)، والكتاب التاريخي: اسمه: "مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ"، ويعد هذا الكتاب الأول من نوعه في التأريخ العربي، فقد جمع المؤلف معلوماته من ثلاثين مصدراً عربياً بين قديم وحديث، عدا الكتب والتحقيقات العلمية التي أصدرها المستشرقون عن الكتابات الحميرية، والحفريات التي قامت بها شركة الزيت العربية الأمريكية المعروفة باسم آرامكو.
ولقد ساعد الجاسر على إصدار مؤلفه هذا تخلصه من الالتزام بسرد أسماء الحاكمين الذين مروا على هذه القرية التي انقلبت إلى مدينة، فعاصمة للسعوديين في العصر الحديث. وبهذا التخفف من الأسماء التي يضل فيها المؤرخ اقترب من الموضوعية، وأصاب محز الدراسة العلمية والمنهجية.
التراجم والسيّر
وجاء الجاسر فعكف على التعريف به بإسهاب مبتدئاً بدراسة نسبته إلى هجر، وإظهار معالم شخصيته الإنسانية والعلمية، وعصره، وموطنه، ومن تلقى عنهم من الرجال والقبائل، وأهل المدن، ومن أخذ عنه من علماء المشرق والمغرب، ومنتهياً باستقصاء مؤلفاته، وشواهد منها، وما بقي من آثاره، ومواضعها، وأوصافها، وقد استغرق هذا البحث مائة واثنتين وسبعين صفحة، وزاد عدد المراجع العربية والغربية المذكورة في الهامش على خمسين مرجعاً.
منهج المؤلف يقوم على أخذ خبر من الأخــبار روي عن الهجري، أو رواه هو، فيـــعتصره الجاسر مســتنتجاً منه جميع ما يمـــــكن أن يســـتنتج، ثم يأخـــذ خبراً ثانياً ويفعل فيه ما فعل في الأول، ويضـــم معلوماته إلى ســابقه، وهكذا حتى يقيم من ذلك بحثاً سوياً.
ففي تحديد عصره سار البحث على الشكل التالي: قال الجاسر: (لا شك أن الهجري عاش في آخر القرن الثالث الهجري وفي أول القرن الرابع، ولكننا لا نستطيع تحديد الزمن الذي عاشه تحديداً دقيقاً، ونجد نصاً في كتابه (النوادر) يقول فيه: (أنشدني ابن الأعرابي) وابن الأعرابي هذا كما هو معروف توفي سنة 332هـ أو قبلها بيسير. فإذا صح أن ابن الأعرابي أنشده، ولم يكن في أصل الكتاب خلل، فمعنى هذا أنه ابن أول القرن الثالث الهجري، وأنه قبل وفاة ابن الأعرابي كان في سن تمكنه من الالتقاء بكبار علماء ذلك العهد، ومن أخذ عنهم). هذا هو القسم الأول. أما القسم الثاني من الكتاب فقد تناول أبحاث الهجري في تحديد المواضع في الجزيرة العربية، ولابد أن نربط بين هوى المحقق الجاسر في استقصاء هذه الأسماء وتحقيقها وبين عمله في الكتب التي تسير على هذا السبيل.
جمع حمد الجاسر مادة هذا القسم من كتاب (التعليقات والنوادر)، وما نسب إلى هذا الرجل من أقوال في (معجم ما استعجم) لأبي عبيد البكري، وما ذكره السمهودي في كتابه (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) منسوباً إليه.
نهج المؤلف في هذا القسم يقوم على ترتيبه أسماء المواضع ترتيباً ألفبائياً، وفق طريقة المعاجم الحديثة. مثال ذلك ما ورد في حرف الهمزة: الأبترة، أبلى، الأتم، أجأ، أدبى، الأجرد، الأحماء، أخطب، الأرصان، ذو الأرغاد، أرن، أسبيل.. ويورد الجاسر في كل من هذه المواضع ما قاله الهجري فيها، ولو اقتصر الجاسر على هذا لم يكن لعمله إلا فضل الجمع والترتيب، لكنه كان يضيف في الهــــوامش ما أورد غير الهجري في هــــذه المواضع، ويذكر المصادر، ويعلق برأيه على كثير من الأسماء، فيتحدث عن تطور الاسم ووضعه اليـــوم، أو عن خطأ القدماء فيه، وصحة تسميته معتمداً على معلوماته وخبرته العملية.
وفي خاتمة الكتاب نظم فهرساً كاملاً لجميع الأسماء التي دارت فيه مرتبة الترتيب الألفبائي نفسه، دالاً على مواضعها في صفحات الكتاب.
ذكريات لا تنسى
أقول: قد يمر جيل أو أكثر من جيل، ولا تلد الأمهات عبقرياً عالماً بمستوى هذا الرجل الذي فقدته الأمة العربية. رحمه اللّه وأسكنه فسيح جناته.
لقد عرفته شخصياً في العقد السابع من القرن الماضي يوم كان مكتبه في مبنى العازارية في بيروت، وكنت أتردد على مكتبة على الدوام، وأسأله عن كثير من المشكلات العلمية التي كانت تعترضني يوم كنت أحضر رسالة الدكتوراه عن "الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية"، في الستينيات من القرن الماضي، وكم كان يصوب لي كثيراً من آرائي، ويمدني بزاد من الأفـــكار والمعلومات، ما كنت قادراً على الوصـــول إليــها مهما عملت وبحثت.
وفي أيام الآحاد كنا نجتمع بهذا الشيخ الوقور الجليل علامة الجزيرة في منزل الأستاذ الدكتور العلامة إحسان عباس - رحمه اللّه - ومعنا المرحوم أنطون صادر - صاحب "دار صادر للطباعة والنشر" المشهورة، ذلك الرجل الذي أعاد طبع وتصوير معظم كتب التراث الإسلامي، وكان يبيعها بسعر التكلفة تقريباً- وقد منَّ اللّه عليه بفضله تعالى وبعمله الصالح بحسن الختام - وكانت منــازلنا متقاربة، ويظل البحث العلمي العميـــق بينــنا في اللغة تارة، وفي المخطوطات تارة أخرى، وفي المطبوعات وسواها، حتى يحين وقت الغداء، فينصرف كل منا في طريق.
حدثنا الشيخ حمد مرة عما ابتليت به بعض مكتبات الحرمين من سرقات في العهد الذي سبق نشوء "المملكة" وأن عدداً من مكتبات أوروبا وأمريكا وروسيا امتلأت خزائنها منها.. فنقلت هذه المعلومة بتفصيلاتها إلى رسالتي للدكتوراه، ولما اطلع أستاذي المشرف على هذا الاتهام الخطير، وأن تلك المكتبات ملأت خزائنها بكتب مسروقة بعلم أو بغير علم، حذرني من تسجيل هذا الاتهام، دون سند ودعم وبرهان ساطع، وقال: لا تستغرب أن ترفع جميع تلك المكتبات دعاوى قضائية في مستقبل الأيام تطالبك بالبرهان على ما قلت، أو تطالبك بغرامات فاحشة، أو تطلب سجنك، أو غير ذلك من عقوبات. فحكيت للشيخ حمد ما قاله أستاذي، فقال: أنا أتحمل مسؤولية هذا الكلام، وأنا سأبرهن على صحة ما تقول، وعندي ألف دليل ودليل على صدق كلامي، وكتب مقالة ضافية في هذا الموضوع، وبالتحديد في مجلته "العرب" في الجزء العاشر من السنة الثانية، فجعلتها سندي، وبمقالته أنقذني من القيل والقال وكثرة السؤال.
رحـــم اللّه الشــــيخ حمد الجاسر، وجــزاه
عن العلم والعلماء خير الجزاء، وأســـكنه فسيــح جنــــاته، وحشره مع
النبيين والصديقين والشـــهداء والصـــالحين، وحسن أولئك رفيقاً --------------------------------------------------- * عضو اتحاد الكتاب العرب - عضو اللجنة العالمية للغة العربية
|
|
|