f
فنون |
|
||
|
||
بقلم: أ. د. أحمد عبد الكريم* الحركة التشكيلية في مدينة الرياض، نشاط ثقافي يستحق التقديم والتقدير، وذلك لوجود أكثر من جماعة ومجموعة فنية مسؤولة عن الحراك الثقافي طوال العام، ومن أهم هذه الجماعات مجموعة الرياض التشكيلية، وهم لفيف من الأصدقاء والفنانين يترأسهم الفنان الرائد الأستاذ علي الرزيزا لما له من دور مهم في حركة الثقافة السعودية عامة والفنون التشكيلية خاصة، وذلك من منطلقات جمالية وإنسانية ومشاعر طيبة تجعل منهم مجموعة واحدة. وتتميز مجموعة الرياض بالتنوع والتناغم بين أفرادها من حيث الأساليب والتقنيات وفلسفة كل منهم في طرح المحتوى الجمالي على سطح العمل الفني، كما أن التفاوت في أعمارهم يؤكد أن للفن سحراً خاصاً ولغة جمالية تذيب بين طياتة الفوارق ويصبح صوت القيم الجمالية والعمل الجماعي هدفاً أسمى للمجموعة، ومجموعة الرياض تقع أعمالهم بين محورين: ( استلهام التراث السعودي، واستثمار التجريب من أجل الخصوصية التشكيلية.
إرث ثقـــــــافي
التراث هو ذلك الموروث الثقافي المستمد من عمق التاريخ الإنساني والتراث، وإن كان لابد من استلهامه فلا بد أيضاً من إعادة قراءته ليس فقط للنقل والتقليد بل لدفعه إلى الأمام من خلال قنوات للاستلهام يحملها الفنان المعاصر بكل ما لديه من خبرات حياتية وفلسفية وتقنية، الأمر الذي يضمن له استمرارية روح التراث مع واقعه الحاضر المعاش، وكثير من الفنانين قد يقعون داخل حلقة التراث ويظل الواحد منهم سجيناً له كثقل حضاري لا يستطيع الفكاك منه إلا إذا استطاع استلهام روحانية التراث كفكر فلسفي له جذوره التي تستطيع استيعاب المناخ الحضاري الجديد، فينبت منه إرث ثقافي جديد، وقد استطاع المفكر والفيلسوف "زكي نجيب محمود" و "محمد عمارة" وغيرهما إنتاج تلخيص بليغ يحمي المفكرين والفنانين والشعراء المتعاملين مع التراث من مغبة الوقوع على أعتاب التراث الثقافي مستسلمين له دون عناء، وينقسم النقاد والدارسون في مجال الفن التشكيلي حول جدوى استلهام التراث بين مؤيد ومعارض ويرى المؤيدون أن الإنسان لابد أن لا يتخلى عن عبق الماضي مع اصطحابه إلى الحاضر، ليظل موجوداً في المستقبل، وبدفاعية هؤلاء المؤيدين يظل التراث واقفاً صامداً لأجيال كثيرة قادمة والفريق الآخر يرى أنه لابد أيضاً من تقديم التراث الحديث متضافراً مع نسيج الحياة المعاصرة بكل ما فيها من أحداث نعيش فيها لتكون بمثابة الشواهد التراثية الحديثة للأجيال القادمة وأنهم صانعو تراث المستقبل وليسوا مستهلكين لأحداث وتاريخ الماضي السحيق، ويرى (كاتب المقال) أن كلاً من الفريقين على حق، فالفنان لابد أن يكون له فكر خاص به يدافع عنه بأعماله، والقيمة الجمالية المنبثقة فيه هي الإثبات الشرعي لوجوده. ونرى أيضاً أنه لابد أن يكون هناك فريق ثالث لديه الجرأة والجدية في البحث عن روحانية التراث لتكون هي السند الذي يستطيع من خلاله اكتساب شرعية الوجود والممارسة.
ومن بين الفنانين الذين استلهموا التراث في مجموعة الرياض نرى كلاً من: علي الرزيزا و د. فواز أبو نيان، وسمير الدهام.
التراث وجهات نظر
استثمر الفنان علي الرزيزا تراث الوحدات الزخرفية الشعبية بألوانها الزاهية بين الألوان البنية المذهبة مما يؤكد على انجذاب الفنان بكل ما لديه من حواس تذوقية إلى استشفاف شخصية التراث التي لا تقبل الجدل ولا تخرج عن الجدية في العطاء.
ويطرح الفنان الدكتور "فواز أبو نيان" قضية التراث من وجهة نظر زخرفية لها دلالات رمزية دالة عن مكونات تزدحم بها أفكاره التشكيلية، حيث يعتمد بناء اللوحة لديه على كل من البعد الأول والثاني، ويتحقق المنظور إيهامياً من خلال عنصر اللون الداكن والفاتح، ويمتلك د. فواز أبونيان مداخل متنوعة للسيطرة على التكوينات الزخرفية الشعبية ببساطة ويسر دون افتعال، كما أن اختياراته للعائلات اللونية المتنوعة تنقذه من عامل التكرار بل تؤكد تنوعه، والدلالات الرمزية في بعض أعماله تؤكد وتفصح عن مشاعره الداخلية من خلال توظيف الوحدات المجردة ذات المعاني التعبيرية التي لها صلة بالواقع الذي يعيش فيه مثل لوحة "ليلة العمر" ويثير "د. فواز أبو نيان" قضية: هل الزخرفة تعبير أو وحدات ذات دلالات بصرية فقط ؟ وهذه مسألة تحتاج إلى دراسات أخرى.
وتطل علينا أعمال الفنان "سمير الدهام" الذي يتناول التراث من منطلق اللاحدود بين مفرداته واللامركزية في نظم بناء التكوينات الخاصة به حيث إن اللوحة لديه لها أكثر من رؤية منظورية مثل لوحة "من الداخل" وعندما يختلف المنظور تتغير لديه اتجاهات الظل والنور الذي يسيطر عليه الفنان رغم كثرة نقاط هروبه كرؤية منظورية في اتجاهات متغايرة، وفي عمل بعنوان "بنات البادية" الأرضيات مختلفة فالمفردات الإنسانية منظورية الصياغة، أما الأرضية فهي فراغ تسبح فيه تلك الأجسام، فراغ يحتوي الأشياء ويتناسج بخيوط لونية تربط الصلات وتؤكد العلاقات بين الأشكال والأرضيات، ومفردات "سمير الدهام" تراثية حية تعيش في وجدانه فالمرأة والمنزل والنخل والأطفال هم أبطال لوحاته، كما أنه متناغم في تناوله للألوان من خلال إطار مرجعي خاص به، ويؤكد الفنان من خلال عمل باسم "العولمة" رفضه لهذه الفلسفة أو ذلك الاتجاه الذي يسوق العالم، فصراخ المرأة وحركة يدها والبؤرة البرتقالية والحركة الدورانية والزخارف الشعبية وحركة فرشاته على الحدود الخارجية تؤكد أنه ضد العولمة التي من المؤكد أنها ستغير الشعوب والحضارات، ويرى (كاتب المقال) أن نظــــرية العولمــــة لا تستطيع أن تمتد إلى مشاعر وأحاسيس البشر، وخاصة إذا كانت لديهم خصوصية حضارية إنسانية لها عمق في تاريخ العالم.
مداخل متنوعة للتجريب
واختيار "فهد الحجيلان" مفردات ذات خصوصية وهي القوارب النيلية التي لاتستقر حتى وإن كانت مكبلة على شواطئ النهر يؤكد قلق الفنان من تلك الرسائل، كما يؤكد على عدم استقرار فرشاته على سطح لوحاته التي لا تهدأ هي الأخرى، من حركات دائرية دوامية موجبة لا تسكن إلى أن يرفع الفنان يديه عن اللوحة، وهذه الأساليب التجريبية كثيراً ما تدفع الفنان دائماً إلى اللاحدود واللامكان واللاهدوء، الأمر الذي سيظل فيه الفنان "فهد الحجيلان" شاطئاً زمنياً لا تستطيع تحديده.
ويداعب الفنان "فيصل المشاري" أنامل الأطفال حيث يتخذ من خصائص ميولهم منطلقاً تجريبياً لمعظم أعماله، فترى الشفافية والتراكيب بين المفردات والحس التلقائي الذي يؤكد الأسلوب التقني، وتؤكده مجموعة أعماله المسماة "مسار في صحراء بياض اللوحة الخالي" التي تنم عنه بمفرداته الجمالية.
والمرأة والأطفال لهم دور في أعمال "فيصل المشاري" حيث يداعبهم في فراغ اللوحة بطائرة ورقية ملونة وزوجين من الكراسي المتحركة بحرية شديدة في تلك الفراغات، وهذا الحوار بين المرأة والطفل له دلالات في عمق الفنان تفصح عنها تلك الأعمال.
وكثيراً ما يدمج وحدات التراث بلغة المجرب، داخل أجسام آدمية لا يراها إلا من يتأملها، وتلك الشجيرات التي تتداخل بتقنية انطباعية مع كل تلك الرموز، والرموز المتكررة في معظم الأحوال هي الشكل الدائري سواءً كان مفرغاً أو ممتلئاً شمسياً أو ضبابياً، ويتمكن الفنان "الفارع" من إحداث التوازنات على السطح من خلال البقع الدائرية التي تأخذ وتلامس خطوطاً وألواناً متناغمة بأسلوب متنافر مع الأرضيات التي غالباً ما يعالجها الفنان بشكل لا تستطيع أن تفصله عن الأشكال، والفنان "ناصر التركي" في كل محاولاته يسعى دائماً إلى أن تتوافق أدواته وتقنياته وأسلوبه إلى حد التكامل، كما أن أعماله تفرض على الألوان الشمسية بدرجاتها الظليلة، والعمق الفراغي في أعماله يتأتى من حركة اللون من مركز محدد يفرض علينا التأمل والملاحظة، والتجريب اللوني للفنان "ناصر التركي" يعطي لتجربته مساحة عريضة في أعماله، وهي سلاح ذو حدين.. والتجريب من أجل الوصول إلى قيمة تشكيلية يمكن استثمارها في أعمال جديدة، والحد السالب هو أن تلك الأمور تفرض نفسها على الفنان ولا يستطيع الاقتراب منها خوفاً من فك حصارها على مسطح العمل.
إن العرض
السابق لمجمــــوعة الريــاض لا يقف عند هذا الحد بل إن تجوالهم بين عواصم
الفنون والثقافة تؤكد أن لديهم برنامجاً نشطاً يؤكد خصوصيتهم، وهو تأكيد
أيضاً للساحة التشكيلية السعودية، فقد تم عرض أعمالهم في كل من "تايبيه"
عاصمة تايوان، وبيروت والقاهرة وحالياً يتم عرض أعمالهم في مدينة أصيلة
بالمغرب العربي
* أستاذ أسس التصميم الإسلامي كلية التربية الفنية - جامعة الملك سعود |
© سبتمبر 2006 مجلة " أهلا وسهلا ". |