مكة قلب المعمورة، على الحسن مقصورة، وفي حجال المجد
مستورة، أذّن بها الخليل، وسُحق بها أصحاب الفيل، بالطير
الأبابيل، اختارها علام الغيوب، فهي مهوى القلوب، وملتقى
الدروب، وقبلة الشعوب، هي أرض ميلاد الرسالة والرسول، كان
لجبريل بها صعود ونزول، منها ارتفع الإعلان والأذان
والقرآن والبيان، أذّن منها بلال بن رباح، وسُلَّت فيها
السيوف، وامتشقت الرماح، وأُعلن فيها التوحيد، وهو حق
اللّه على العبيد، وهي أول أرض استقبلت الإسلام، وحطّمت
الأصنام. |
 |
بها بيت الملك الأجل، والكعبة التي طاف بها الرسل، سوادها
من سواد المقل، وهي أرض السلام، وقبلة الأنام، يفد إليها
المحبون، على رواحهم يخبون، ويتجه إليها المصلون، ويقصدها
المهلّون، فهي قبلة القلوب، وأمنية الشعوب، وراحة الأرواح
ومنطلق الإصلاح، على ثراها نزلت الهداية، ومن رباها كانت
البداية، على رمالها مزقت الطغاة، وعلى ترابها سحقت
البغاة، ومن جبالها هبّت نسائم الحريّة، ومن وهادها كان
فجر الإنسانية.
تمنيت الحجاز أعيش فيه
فأعطى اللّه قلبي ما تمنى
سقى اللّه الحجاز وساكنيه
وأمطر كل رابيةٍ ومغنى
على بساط مكة ولد العرفان، وأكرم الضيفان، ومن معانيها رضع
الشجعان، وفي بطحائها هاشم وابن جدعان.
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم
لِتُطلب الأعذار بالعيدانِ
بل يشرقون وجوههم فترى لها
عند السؤال كأحسن الألوانِ
وإذا الغريب أقام وسط رحالهم
ردّوه ربَّ صواهل وقيانِ
وإذا دعا الداعي ليوم كريهة
سدُّوا شعاع الشمس بالفرسان
في مكة تثـــور شجون الحب، وتضج بلابل القلب، فيها التاريخ
يتكلم، والــــدهر يتبســم، والذكريات تتـــداعى،
والأمنيات تقــــبل تبـــاعاً، هنا خطوات الرســــــول،
وصهـــيل الخيول، منشأ الســـــــادات، منبـــــت القادات،
إقبال وفود، وانطــــــلاق جنــــود، وتزاحم حشود،
وارتفـــاع بنود، هدى وضلالة، علم وجهالة، وهنا كرم
وبســــالة، وحيٌ ورســــالة، عالم يمـــور بالعِبَر،
ديــــوان يزخـــر بالســـيَّر، دفتــــر للعظـــــــماء،
سجل للشــــــرفاء:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامرُ
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثرُ
|
أعظم أثر
في مكة رؤوس بالأنفة متزاحمة، وجيوش للثأر متلاطمة، أفكار
وحضارات، ونوادٍ ومحاضرات، وسِيَر وسَمَر، في ضوء القمر،
أنباء وأخبار، وقصص وأشعار، حتى كان النبأ العظيم، وهو
الرسول الكريم، فيصغر بعده كل خبر، وينسى من جاء ومن غبر،
فهو أعظم أثر، جاءت به السِّيَر.
نُسخت كلُّ دَوَاوين المَكَارم ما
خَطَّ الأنَام بِرَسم اللَّوح والقَلَمِ
فالشَّمسُ والقَمَرُ المُنشَقُّ قد خَضَعَت
لِنُورِ وَجهِكَ من حُسنِ ومن كَرَمِ
يوم بُعِـــــثَ اســتدار له الزمان، وأنصتَ له
الثقـــــلان، وتشـــــاغلت به الأقـــلام، ورحّبت به
الأيـــــام، وأنصــــــــت له الأنام، فهو ابن مكة
البـــــارّ، وبطلها المغوار، ورسولها المختار.
إذا أقبلت على البلد الحرام، فتذكّر ذاك الإمام، عليه
الصلاة والسلام.
مكة تذكِّرك البأساء والنعماء، والنور والظلماء، والسعادة
والشقاء.
مكة كتاب مفتوح، وسِفر مشروح، يجمع بين أحاديث النجاة
والخسران، والكفر والإيمان، والعدل والطغيان، تذكِّرك مكة
الشِّرك الكالح، والجهل الفاضح، والوهج اللافح، يوم كانت
الأوثان تُقَدَّس، والأصنام تؤسَّس، تسجد لها النفوس
الخاوية، والعقول الجافية، يوم غاب الرشد، وأفل السعد،
وغرب الميثاق والعهد، ويوم كان الإنسان كالبهيمة بلا قيمة،
والقلب في شباك الجريمة، وفي ظلمات وخيمة. |

|
 |
|
فَقُل للعُيون الرُّمدِ للشَّمس أعينٌ
تَرَاهَا بحَقِّ في مغيبِ ومَطلَعِ
وسَامَحَ عُيُوناً أطفَأ اللّه نُورَهَا
بأهوَائِهَا لا تستفيقُ ولا تَعي
وتـــــذكرك مكة يوم انفجر الفجر، وارتفع الذِّكر، ومُحِقَ
الكفر، يوم أنصتت الدنيا بأُذُن ســــــميعة، وأقبل
الدهـــــر بخُطىً سريعة، وانتفض الكـــــون للكلمة
الخالدة، واهتزّ العالم بالدعوة الراشدة، لا إله إلا
اللّه، ولا معبود بحق سوى اللّه، لا بقاء إلا للّه.
وتذكِّرك مكة بالوحي وهو يتنزل، والقرآن وهو يُرَتَّل،
وجبريل الروح، يغدو ويروح، وباب الرحمة المفتوح، والعطاء
الربـــــــاني الممنوح، فيا لها من ذكريات يهتــــزّ لها
الجسم ذرّة ذرّة، ويقوم بها الرأس شعرة شعرة، ويالها من
صيحة دوّت في العالم فاســـتيقظ بها كل نائم، واهتدى بها
كل هائم، ويا له من خبر طــــــــرق الكون فصَحَا، ومَحَقَ
الشِّـــرك ومَحَا. |
 |
توقف الزمان مُنصتاً، وسُلَّ سيف الجهاد مصلتاً.
هُنَا الأماني هنا الأمجَاد قد رُفعت
هنا المَعَالي هُنَا القُربَى هُنَا الرَّحِمُ
هُنَا القُلُوبُ استَفَاقَت من مَعَاقِلهَا
هُنَا النُّفُوسُ أتت للحقِّ تَزدَحِمُ
هُنَا رِوَاءٌ هُنَا فجرٌ هُنَا أملٌ
هُنا كِتابٌ هنا لوحٌ هُنَا قَلَمُ
التعبير يخون، والنفس فيها شجون، والذَّاكرة بالصور
موّارة، ونور الحديث قد نصب في القلب منارة، وإذا ذُكِرَت
مكة ذُكِرَ غار حِراء، والشريعة الغرّاء، والوحي والإسراء،
فكأن التاريخ حضر، وكأن الزمان اختصر، وكأن الدنيا كلها في
مكة محصورة، وكأن الأيام في أجفان مكة مقصورة.
مكة ملاعب الصبا والشباب، لصاحب السُّنَّة والكتاب، فيها
مسقط رأسه، وفضاء أنفاسه، فيها مراتعه، ومرابعه، ومهاجعه.
هَذي بلادي وهَذي مُنتهَى أملي
هذا التُّرابُ الذي أهديتُهُ زَجَلي
هذا المَكَانُ به ميلادُ قُدوتنا
هذا رياضُ الهُدى والسّادَةِ الأوَلِ
كيف نعبِّر عن أشواقنا، وقد سافر حبّه في أعماقنا:
في كَفِّكَ الشَّهم من حَبلِ الهُدى طَرَفٌ
على الصِّراطِ وفي أروَحِنَا طَرَفُ
هَيهَاتَ رحلةُ مسرَانَا جَحَافلِنَا
كما عَهدت وعَزمَات الوَرىَ أنفُ
وعلى رمضاء مكة ثأر وجراح، وعويل وصياح، حيث عُذِّب بلال
بن رباح، أما تقرأ على الرمضاء، ما كتبته الدموع والدماء،
يقرؤها كل عالم وجاهل، وقل جاء الحق وزهق الباطل. تفجّعٌ
صارخ يصعد إلى السماء، وصيحاتٌ ثائرة تشقّ الظلماء، أحدٌ
أحد، فردٌ صمد، على رغم من كفر وجحد، تطلق هذه القذائف
حنجرة بلال، فتهتز بها الجبال، وتنفض منها التلال.
أحدٌ هَتَفتَ بها لكلِّ مُعطل
أنتَ المُؤَذنُ للرّسول فَرَتِّلِ
واهزم بصوتك كُلِّ طاَغِ فاجرٍ
واسحَق بقَولِكَ كُلَّ زَحفٍ بَاطِلِ

البيت الحرام
وعلى جبين مكة قُبُلات المُحبين، وفي جوفها زجل المُسبحين،
وفي عينيها آية للسائلين، مكة أُمّ الخلفاء الراشدين، مكة
بلد العابدين، وميدان المجاهدين، وعَرين الفاتحين، وجامع
الموحِّدين، ومدرسة الحكام العادلين.
إذا قربت من مكة فتهيّأ للدخول، واستعد للنزول، والبس
الإحرام، عند عناق البيت الحرام، لأنك سوف تلج بيت
الدّيّّان، ومحطّ العرفان، ودار الرضوان، هنا المسلك
الأرشد، والمحل الأسعد، والحجر الأسود، هنا المقام الكريم،
والمطاف العظيم، وزمزم والحطيم، هنا العابدون والساجدون،
والعاكفون، والقائمون، والمســتغفرون. هنا تُسكب
العَبَرات، وتهمل الدمعات، وتنبعث الآهات، وتصعد الزفرات.
هنا تغسل النفس من الأدران، ويتخلص القلب من الأحزان،
وتنطلق الروح من العصيان، هنا تُرمَى الجمرات، وتحطّ
الغدرات، وتخلع الفجرات، وتغسل الســـــيئات، هنا يتجرّد
من الثياب، ويتهيّأ للحساب، فحبّذا هذه الرِّّحاب، وطُوبى
لهذه الشِّعاب، هنا تُناخ المطايا، وتُحَطّ الخطايا، وتكثر
العطايا، هنا السرور قد تم، والشمل قد التم، وذهب الهمّ
والغمّ

*
داعية سعودي
|