|
||||||||
لدى دخولك إلى أسواق صيدا القديمة، يلفتك غزارة ما تختزنه هذه الأسواق من منشآت ومعالم أثرية وتراثية وتاريخية، سواء الخانات أو الحمامات أو الزوايا ودور العبادة من جوامع وكنائس، بالإضافة إلى القصور التاريخية والمقاهي والقلاع. وتستوقفك الأحياء الشعبية المنتشرة داخل الأسواق المتميزة بعمارتها القديمة المبنية بأحجار رملية تعيدك مئات السنين إلى الوراء, والمتزينة أيام المناسبات والأعياد بالأضواء والزينة الملونة والفوانيس الرمضانية، فتبدو الشوارع بأبهى حلتها، وكأنها في عرس يمتزج فيه الحاضر والماضي، ليشكلا أروع لوحة جمالية تجعل المدينة أميرة تتربع على عرش القرى الجنوبية. وتنتشر الأسواق الشعبية في مختلف أرجائها وأشهرها سوق السمك التي تعجّ بالناس منذ ساعات الفجر لشراء الأسماك الطازجة التي ينزلها الصيادون من مراكبهم إلى طاولات «الهناغرة» «تجار السمك»، بالإضافة إلى محال الحلويات ذات الشهرة الواسعة التي لا يستطيع الزائر سوى تذوقها. أما أسواق الخضار والفواكه الطازجة، خصوصًا الحمضيات فتغري الناظر إليها بينوعتها المحلية... كلها تجتمع لتشكل المرافق الحيوية البارزة للتجارة الصيداوية ذي الأسعار البضائعية الزهيدة. وتعد زيارة القلعة البحرية، وخان الإفرنج من البديهيات بالنسبة لأي زائر، وكذلك خان الرزّ، وقصر دبانة، والمسجد العمري الكبير، وعدد كبير من الحارات مثل: حارة اليهود، والقصّاص، والمسالخية، وزقزوق حمص، والزويتيني، حيث تنتشر فيها البيوت السكنية والمحال والزواريب ذو الهندسة العمرانية القديمة، والتي شهدت أعمال إعادة ترميم لعدد كبير منها. وللمدينة طابعها الإسلامي المميز خلال شهر رمضان المبارك، فرمضانها يختلف عن رمضان باقي المدن اللبنانية، إذ من عاداتها أن مطاعمها ومقاهيها تغلق أبوابها طوال النهار، وشوارعها تخلو من المارة قبل مغيب الشمس بساعتين. أما بعد الإفطار فتخرج الناس لزيارة بعضها أو للجلوس في المقاهي والاستراحات المنتشرة بكثافة داخل الأسواق القديمة وعلى الرصيف البحري. وتشهد الأسواق هذا العام تراجعًا في حركتها التجارية بعد أن سجلت في العام الماضي أهم حركة تجارية بين رمضان والأعياد مقارنة بباقي الأسواق اللبنانية في مار إلياس والحمرا وطرابلس. ويرجع البزري أسباب هذا التراجع إلى «الوضع الاقتصادي الآخذ بالتدهور وتزامن شهر رمضان المبارك مع موسم المدارس». صيدا في عيون أصحابها اشتهرت صيدا في العقود الماضية بأسواقها داخل المدينة القديمة مثل: سوق النجارين، وسوق «البازركان» «أي الثياب»، وسوق اللحامين، وسوق الخضار، وسوق الكندرجية، وسوق الحياكين، ولم يبق منها اليوم إلا ثلاث «الذهب، والثياب، والنجارين». وأما الباقي فلم يبق منها سوى الاسم المناقض للبضائع التي تحتويها. يتذكر الحاج السبعيني خضر كيلو اليوم سوق «البازركان» بعيون شاخصة نحو المجهول، يحاول أن يلتقط بها صورًا وذكريات قديمة عن «أيام عز السوق»، كما يقول، فكانت السوق تشهد حركة إقبال كثيفة من السواح اللبنانيين والعرب والأجانب شبيهة بسوق الحميدية. ومنظر الناس كان يوحي بأن هناك مظاهرة بسبب «عجقتها»، حيث تغص بروادها من كل حدب وصوب. ويتابع بتنهد: لا يمكن المقارنة بين الأمس واليوم، فالأسواق العصرية أثرت كثيرًا في هذه السوق، وفي الماضي تميزت السوق بتنظيمها، إذ يوجد لكل مهنة سوق خاصة، فهناك مثلًا سوق اللحامين، سوق الخضار، سوق البازركان.. وفيما يخص حركة هذا الموسم يتوقع كيلو أن تبقى حالة الركود كما هي، «نظرًا للوضع الاقتصادي والسياسي في البلد» ويتباهى بتراث السوق، وبفن عمارتها المبني من الحجر الرملي والذي يمتد إلى مئات السنين. ومن جهة أخرى، يفتخر محيي الدين البابا، صاحب محلات العرايس، حياكة جهاز العروس، بأن مهنته ورثها عن أجداده، وهذه العادة من العادات الصيداوية المحافَظ عليها، إذ إن سلالات عائلية كثيرة ما زالت تورّث أولادها وأحفادها المصالح التجارية التي عمل بها أجداد الأجداد. أما اليوم فيصب البابا جام غضبه على الوضع الاقتصادي المتراجع خلال هذا الموسم قائلًا: «لم يعد العمل له حلاوة اليوم، بل صار مملًا، ولو لم تكن هذه المحال ملكًا لنا لهجرت هذا العمل، لأن حركة السوق عديمة». ويشكو وسام السبليني، تاجر لانجري، من ركود السوق، وغلاء إيجار المحال، وخلو المحال من البضاعة. وعن الزبائن يقول: «الزبائن لم تعد تأتي لتشتري، بل يأتون فقط لمشاهدة المعالم الأثرية في الأسواق منها قصر دبانة، والجوامع، التاريخية، والحمامات». أما لينا بشارة، موظفة في محل ألبسة شرقية، تتذمر من حركة الركود لا سيما أن بضاعتهم تعتمد في مبيعها على السواح العرب والأجانب. الحرب قضت على موسمنا ونحن لا نرى أية بوادر أمل لموسم الأعياد، لأن أولويات الناس شراء الأكل، وحاجياتها الضرورية بدلًا من الكماليات. والحاج محمد العجلوني، صاحب الملحمة الوحيدة في سوق اللحامين، لا يشكو قلة البيع قائلاً: «لأن الناس تستطيع أن تستغني عن كل شيء إلا عن الأكل». وعن سبب وجود ملحمته فقط في سوق اللحامين يشرح العجلوني بأن «اللحامين فضلوا هجرة السوق عندما هجر سكان صيدا مدينتهم القديمة بفعل الزلزال والحرب الأهلية». وفيما أجمع معظم أصحاب المحال التجارية عن تراجع حركة الشراء في هذه الأسواق أكد أصحاب المقاهي ازدياد هذه الحركة تصاعديًا، نظرًا «لانتشار صيتها في المدينة الجديدة والقرى والبلدات المجاورة»، كما يشرح أحد أصحاب المقاهي. وتنتعش ليالي المدينة الصاخبة بروادها فتستقبل أعدادًا كبيرة من العائلات التي تضيق بها المقاهي في الداخل، وتعجز عن استيعابها، خصوصًا في فترات رمضان والأعياد فيمتد هذا التجمع البشري، ليشمل كل المقاهي المنتشرة على الرصيف البحري خارج الأسواق. وقد تنبهت البلدية لهذه الظاهرة الحيوية في المدينة، فقامت بخطوات عملية لتشجيعها عبر السماح لأصحاب هذه المقاهي بأن تتمدد في الساحات وعلى الأرصفة وعبر تقديم الخدمات السياحية لها. إلا أن بعض أصحاب هذه المقاهي يشكو من النقص على صعيد البنى التحتية. فخيرو رفاعي، صاحب مقهى بمحاذاة خان الإفرنج، يتذمر من الإنارة غير الكافية من قبل البلدية، والتي لا تتلاءم مع هذا الحشد الضخم من الزبائن، وفيما يخص الأسعار يشرح رفاعي بأن الزبائن تشكو من غلاء الأسعار رغم أسعارنا المقبولة، إلا أن الناس تتحسس نتيجة وضعها الاقتصادي المتدهور. ووفق رئيس بلدية صيدا الدكتور عبدالرحمن البزري، فإن أهم الخطوات التي قامت بها البلدية لتأهيل المعالم الأثرية توقيع بروتوكول مع البنك الدولي بتمويل إيطالي للحصول على مبلغ يقارب 980 ألف دولار للبدء بترميم القلعة البرية المهددة بالانهيار، وسينفذ هذا المشروع بعد سنة تقريبًا، وقد استطاعت البلدية أن توقع، منذ بضعة أشهر، اتفاقية أخرى مع البنك الدولي يقدم الأخير بموجبها مبلغ مليون دولار، لتبليط الواجهة البحرية، والتي سينتهي العمل بها خلال مدة سنتين كأقصى حد. كما تقوم البلدية بتأهيل الطريق التراثي السياحي الذي يربط أسواق صيدا القديمة ببعضها، وصولًا إلى خان الإفرنج، ويبلغ طوله 1700 متر، والتأهيل يتم بمساعدة البنك الدولي ومجلس الإنماء والإعمار، وتصل كلفة تأهيله حوالي ثلاثة ملايين دولار. كذلك تم التوقيع على اتفاق مبدئي مع الحكومة الإيطالية من أجل إعادة تأهيل خان القشلي، قدمت بموجبه مبلغ مليون ومئتين وثمانين ألف دولار. ويلفت البزري إلى أن هدف هذه المشاريع هو: «تحويل صيدا إلى ما يسمى العاصمة الحرفية وعاصمة الارتيزانا وإحياء بعض النواحي الثقافية، لتتحول عاصمة لكل المنطقة والجنوب، ولتكون نوعًا من مركز ثقافي كبير بإدارة بلدية صيدا، وسيتم تحويل خان القشلي إلى متحف لتجميع الحرف بعد سنة تقريبًا». والإنجاز الأكبر الذي تشهده المدينة هو أعمال التنقيب التي يقوم بها المتحف البريطاني قرب مدرسة الفرير بمحاذاة الأسواق القديمة، والتي ستُظهر عند الانتهاء منها تسلسلًا وتعاقبًا حضاريًا موجودًا في هذه المدينة يعود لأكثر من ستة آلاف سنة موجودة في بقعة لا تتجاوز مساحتها الكيلو متر ونصف الكيلو. ويعتقد بعض خبراء المتحف البريطاني بأن هذه الحفرية من أهم حفريات المتحف في التاريخ المعاصر. نودع صيدون وأسواقها، ونتركها مسترخية على شاطئ البحر بانتظار أن تعي الدولة يومًا أهميتها وتنصفها بمشاريع التنمية لاستخراج معالمها وجماليتها من غبار الحرمان الذي لا يليق بمدينة منحها التاريخ لقب «سيدة البحار». محطات هجر السكان الأصليون مدينتهم «صيدا القديمة» على ثلاث موجات: الأولى:كانت بعد الحرب العالمية الأولى. أبرز المعالم الأثرية والتاريخية في صيدا القديمة : • القلعة البحرية، والقلعة البرية. |