|
||||||||
عرف الإنسان, منذ القدم, مساكن الأكواخ, والكهوف, وبيوت الطين المصنوعة من الطوب اللبن, والبناء بالحجر، أما أن يتخذ من الجبال بيوتًا فهذا الإعجاز بعينه, وأن ينحت في عمق الصخر، ليبني مساكن من الجبال تعد الأول من نوعها في تاريخ البشرية قاطبة. فلم يعرف العالم مساكن بهذه الروعة وتجليات الفن في قلب الجبال.. إلا في «مدائن صالح» شاغلة الناس والدنيا بداية من الإنسان البسيط وحتى عباقرة الهندسة، وكل محبي فن العمارة والبناء. تلك المعالم الشهيرة تظهر جليًا أن للفن الأصيل سمات عريقة تصل إلى الجذور الأولى للفن، وللرؤى أبعاد تحكيها أحجار مدائن صالح. فوراء كل حجر قصص، وحكايات، وأخبار، وحضارة نقشت على الحجر، لتحكي للأجيال المقبلة قصة هؤلاء القوم، وكيف استطاعوا أن يصنعوا تلك المعجزة المعمارية. تعد مدائن صالح موقعًا أثريًا بارزًا تحولت فيها الجبال إلى منازل ومدافن في تكويناتها الصخرية، حيث نحت الإنسان الجبل، وترك بصماته الفنية على وجه الصخر، ليسجل حضارته، وتفاصيل حياته الشخصية. لابد أن يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى بمجرد مشاهدة المكان سؤال ملح: ما الآلات التي استخدمها ذلك الإنسان.. الذي تحدى الصخر؟ وما المعارف والثقافات السائدة في ذلك العصر؟.. أسئلة كثيرة ستدور في رأسك، وتشغل بالك، وتفكيرك وتراودك بين الحين والآخر تبحث لها عن حل وإجابة، وسوف تجد نفسك فجأة، سواء كنت تدري أو لا تدري ذاهبًا إلى المكتبة، لتبحث عن كل هذه الأسئلة التي تملأ رأسك، وحار فيها عقلك. وعندما تطالع كتب التاريخ، وتقرؤها سيكون هناك حنين من نوع خاص بينك وبين تلك المدائن. وربما يتساءل بعضنا: لماذا لا يقام مهرجان للفنون التشكيلية والعمارة في هذا المكان، ويكون تحت رعاية الهيئة العليا للسياحة، وبرعاية الخطوط الجوية السعودية والترويج لهذه المعجزة المعمارية التي تأبى أن تكون مجرد حدث عادي في سجل التاريخ؟ فإنها تدعو عشاق الفن، والعمارة، والهندسة، والديكور أن يسلتهموا منها إبداعاتهم الفنية، وستكون سخية معهم بكل ما لديها من كنوز فنية متناثرة على الجدران وجنبات المكان. إننا بذلك نحكي عن قيمة معمارية تثير الدهشة، فأي التحام كان بين الإنسان والطبيعة، أم أنه تحدٍ من نوع خاص استطاع فيه الإنسان، ولو لمرة واحدة في التاريخ، أن يثبت ريادته وتفوقه الفريد في هذا العالم؟ إنها ملحمة تاريخية أبطالها الإنسان، والحجر، والأرض، والزمان.. ظلت باقية وشاهدة على براعة الفن والبنائين القدماء. وبالرجوع للمصادر التاريخية، خصوصًا في الفترة الممتدة ما بين نهاية الألف السادس، والألف الثاني قبل الميلاد نجد أنه قد انتشرت حضارتا العبيد ودلمون في المنطقة الشرقية من المملكة، وبلاد الرافدين، حيث ظهرت العمارة الحجرية في مختلف أنحاء الجزيرة العربية، وامتدت لتشمل بلاد الشام وصحاري النجف. ودلّت المكتشفات الأثرية على مدى التقدم الحضاري في جميع المجالات المعيشية، وقد دلت البقايا الأثرية العائدة إلى فترة العبيد على تفرد شخصيتها الحضارية لا سيما الفخار العبيدي المميز بالدقة المتناهية في صناعته وزخرفته. وظهرت في مختلف الجزيرة العربية أشكال متنوعة من العمارة الحجرية السطحية والمكتشفات الأثرية المرتبطة بها الأدوات الحجرية، والفخار. ومن أهم أمثلة العمارة الحجرية في تلك الفترة المدافن الركامية، والأحواض، والمصائد الحيوانية، والمواقد. كما زخرت البيئات الساحلية لجزيرة العرب بآثار النشاط البشري المتمثلة في أكوام الأصداف والمحار، وتم اكتشاف دلائل متنوعة تشير إلى الإنجازات الفنية المتمثلة في رسوم الكهوف والرسوم الصخرية. حضارة الأمس يرجع تاريخ هذه المدائن إلى حضارة اللحيان والأنباط، وتعد آثار الحجر من أهم المواقع الأثرية في المملكة العربية السعودية، حيث تدل المقابر المنحوتة في الصخور وعلى واجهات الجبال على وجود حضارات قديمة مزدهرة في فن العمارة والهندسة والنحت. فكل واجهة تمثل مقبرة لعائلة ما، وبعض المقابر تكون فردية وأخرى منقوشة أبوابها بشكل متصل. وتقع مدائن صالح على بعد 22 كم شمال شرق مدينة العلا التي تتبع منطقة المدينة المنورة، وهي مدينة تاريخية قديمة، حيث كانت تسمى بوادي القرى، كتب عنها التاريخ كثيرًا، وتغنى بها الشعراء، ويسميها الأثريون بعاصمة الآثار. وتعد «الحجر» من المناطق المشهورة عبر التاريخ، نظرًا لموقعها على طريق التجارة القديمة الذي كان يربط جنوب الجزيرة العربية والشام. ويبدو أن توافر الظروف المناخية والبيئية المناسبة كان العامل الأساسي في استقرار السكان في هذه المنطقة، وبالإضافة إلى موقعها الجغرافي تتوافر فيها التربة الصالحة، والمياه العذبة، والبيئة الطبيعية التي تحميها من الأخطار المتمثلة في الصخور الكبيرة التي تنتشر على أطراف الموقع. مدافن عريقة ولعل أهم ما يميز الموقع الآثار التي تعود لعهد الديدان واللحيانيين الذين سيطروا على الحجر بعد أن قضوا على الديدانية. وآثارهم تعود لفترة حكم الأنباط، وتتميز بوجود عدد كبير من المقابر، ففي هذه المنطقة الأثرية نجد 131 مدفنًا منها 32 مدفنًا عرف تاريخها، وتقع في الفترة الممتدة بين العام الأول قبل الميلاد وحتى عام 75م. كما تمتاز آثار الحجر بالصخور الهائلة في حجمها وأعدادها، حيث حددت العوامل المناخية التي مرت عليها شكلها النهائي، بالإضافة ليد الإنسان الماهر الذي تفنن في رسم النقوش والنحت عليها، لتشكل واجهات المدافن، وهي اليوم على شكل بقايا مبانٍ كانت مطمورة تحت التراب لم يكشف منها إلا القليل، وكذلك النقوش والنحت على الصخور، ويزخر الموقع بآثار للمباني على شكل بيوت، وقصور، وأسواق تجارية، وشوارع رئيسة، إضافة إلى المباني الدينية والعسكرية. ويوجد في الحجر عدد كبير من الحجرات، ليست سوى قبور منحوتة في جوف الصخور المنتشرة في السهل، والمنحوتة واجهتها بطريقة فنية تظهر فيها روح الإبداع، وتزينها الزخرفة. وتتميز كل مقبرة عن الأخرى بالنقوش التي تغطي واجهتها. كما تتميز بعض المدافن بوجود نصوص نبطية توضح فيها ملكية المقبرة وتاريخها. ويمكن مشاهدة المقابر النبطية موازية إلى مناطق ووحدات مشهورة، وهي الخزيمات، وقصر البنت والديوان، والكهف، والعجوز، والفريد. وهناك واجهات منحوتة تختلف عن المقابر كديوان أبي زيد، ومحاريب وقنوات منحوتة، وكهوف لحفظ المياه. وهذا دليل مادي على بلوغ سكان مدينة الحجر درجة عالية من التمدن والحضارة، وإلى جانب نحت الصخور لدفن الموتى نحتوا أماكن للعبادة و آبارًا استخرجوا منها الماء. وتدل الكتابات القديمة في الحجر على أن مدائن صالح كانت متطورة إبان الازدهار السياسي والاقتصادي لدولة الأنباط. تعاقب الحضارات تعاقبت على حكم «الحجر» ممالك عديدة، حكمها الديدانيون، ثم اللحيانيون، فالأنباط، ثم الرومان الذين سيطروا على شمال شبه الجزيرة العربية في عام 106م، وحولوا طريق التجارة إلى البحر الأحمر، الأمر الذي أفقد الحجر أهميتها الاستراتيجية من ناحية التجارة، وحماية القوافل، وتحصيل الضرائب، ويقال بأنها كانت مقرًا لقوم ثمود الذين جاء القرآن الكريم بذكرهم بأنهم رفضوا دعوة نبي الله صالح وعقروا الناقة التي أرسلها الله لهم آية، لكن مع ظهور الإسلام وانتشاره الكبير في مختلف أصقاع المعمورة عاد النشاط التجاري إلى سابق عهده، وأصبحت الحجر محطة من محطات الحجاج، وممرًا للقوافل القادمة من الشام والمتجهة نحو المدينة المنورة ومكة المكرمة. توجد في مدائن صالح مجموعة من تجاويف الأضرحة، وواجهاتها على الصخور الحجرية.. ويعتقد العرب بأن هذه التجاويف والحجيرات قد نحتها قوم ثمود في عصر النبي صالح، عليه السلام، ولهذا السبب أطلق على المستوطنة اسم مدائن صالح.. ومن ناحية أخرى، فإن التاريخ الحقيقي قد دل على أنها تعود إلى عهد أقرب بكثير، ربما إلى العصر النبطي. ويتراوح ارتفاع أعلاها بين السبعين والثمانين قدمًا، وتبدو عريضة نسبيًا.. ويوجد تشابه كبير في مظهرها العام، إلا أن هناك اختلافًا شاسعًا في التفاصيل.. وتحديدًا يوجد فيها، جميعًا، مدخل واحد له أعمدة مستطيلة الشكل وناتئة على كل جانب، وكذلك مثلث فوقه، وهذه موضوعة على «الوجهة»، والتي هي الأخرى بها أعمدة مستطيلة ناتئة على كل جانب، ومحاطة بمجموعة من الأفاريز المشكلة. ويوجد في القمة شيء ثابت يشبه الزخرفة، وتشاهد مثل واجهات هذه القبور بكثرة في البتراء عاصمة مملكة الأنباط، ويتضح بأن لها مميزات ذلك النوع نفسه. ووجدت كتابات منقوشة على بعض واجهات الأضرحة في كشف غموضها وترجمتها، وبينوا بأن تلك القبور كانت أماكن دفن لمختلف الأسر النبطية. ويكون تجويف القبر الذي يفضي الباب إليه في شكل فجوة مستطيلة الشكل حجمها ليس بالكبير، ولا يزيد ارتفاعها كثيرًا على ارتفاع قامة رجل متوسط الطول.. وتوجد في الجدران تجاويف صغيرة وكثيرة، أو فجوات مستطيلة الشكل.. وعمق العديد منها قليل لا يناسب وضع التابوت، أو حتى جسدًا مجردًا.. وتوجد فجوات أكبر وأعمق في نهاية التجويف في بعض الأضرحة. وعادة ما تكون الأضرحة الأصلية مفروشة ببعض أكوام النفايات التي ربما يوجد بينها العديد من العظام البشرية، وأطباق طعام خشبية، وأجزاء من أغطية القبور، وكتل من مادة راتنجية والتي، دون أدنى شك، تكون بعض البخور والتوابل الأخرى التي كان النبطيون يتاجرون بها. وكانوا يحنطون موتاهم.. ودومًا ما يلفت تجويف القبر الانتباه بصغره، وغرابته، تحديدًا، في انخفاضه مقارنة بارتفاع الواجهة الخارجية، ولكن المفارقة كانت في وجود حفرة في سقف أحد القبور. وقد أفضت هذه الحفرة إلى تجويف علوي، ويقال بأنه وجد بداخله بقايا أربعين أو خمسين جثة بشرية.. وإن كان ذلك صحيحًا في حال ضريح واحد، فيبدو من المعقول افتراض وجود ذلك في الأضرحة الأخرى، ولو ثبتت صحة ذلك، فإن إجراء توضيح معقول ربما توصل إلى تبيين عدم التناسب بين ارتفاع الواجهة الخارجية وارتفاع التجويف السفلي للقبر داخله. خلاصة ما سبق ذكره، أن مدائن صالح تزخر بالعديد من الكنوز الفنية والأثرية النادرة، وهي بمنزلة تحدي الإنسان.. للحجر، وتفوقه عليه حتى إنه طوّعه له، ونقش عليه حياته ومعتقداته الدينية، وتعد تلك المدائن دعوة مفتوحة لعشاق الآثار، ليتعرفوا على هذا الصرح المعماري الصخري النادر في عالم العمارة. |