§ عرف عن المسلمين تسامحهم مع السجناء المرضى والاستشفاء بشم الرياحين
§ المسلمون قدموا أروع الأمثلة في العناية بالسجناء ومعاملتهم
§ عرف الغرب أهمية السجون الإصلاحية في القرن التاسع عشر الميلادي
§ المواثيق الدولية المعاصرة توجب وجود هيئة طبية في السجونمرضى.
لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات من حالات يُحتاج معها إلى معاقبة الخارجين عن الأنظمة، المعتدين على الآخرين بالإساءة إليهم في أنفسهم وممتلكاتهم وحقوقهم الأخرى، ومن هذه العقوبات التي شرعها الإسلام السجن.
غير أنه ليس له الصدارة والأولوية بين الأنواع الأخرى من العقوبات التعزيرية، لأن له كثيرًا من النتائج والآثار السلبية على الدولة والمجتمع، لذا بدأت كثير من الدول المعاصرة تبحث عن بدائل لعقوبة السجن.
الرعاية الصحية للسجناء
على أن ما تقدم لا يمنع من القول بأن الإسلام يدعو إلى تتبع أحوال السجناء الصحية، وتقديم رعاية خاصة للمرضى منهم، ومعالجتهم، والعناية بهم، بل إن الثابت في تاريخ المسلمين الاهتمام بالسجناء المرضى، وتفقدهم، وتشخيص أمراضهم، ومداواتهم، ومعاملتهم معاملة خاصة تقديرًا لظروفهم الصحية والنفسية، وبيان هذا على النحو التالي:
في العهد النبوي
ثبت في كتب السنة النبوية والتاريخ الإسلامي أن بعض الصحابة أمسكوا أسيرًا يقال له ثمامة بن أثال، وأتوا به إلى المسجد النبوي فربطوه في سارية من سواريه وكان مريضًا عليلاً، فلما خرج النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة رآه، فجلس إليه وآنسه وكلَّمه، فعرف أنه زعيم قبائل بني حنيفة في اليمامة، فأمر أصحابه أن يحسنوا إليه ويعتنوا به ويقوموا على تمريضه ورعايته، وأن يقدموا له أحسن ما عندهم من الطعام والشراب، ففعلوا، وقاموا إلى ناقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، «القصواء» فحلبوها وسقوه، وصار يؤتى إليه بالناقة إلى باب المسجد صباحًا ومساءً فتحلب، ويسقى هذا السجين المريض من لبنها.
في عهد علي بن أبي طالب
تذكر الروايات التاريخية أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كان يزور سجن الكوفة، ويتفقَّد المسجونين عمومًا، ويسألهم عن أحوالهم، ويتتبع شؤونهم، ويطمئن على سلامتهم... وإذا كان هذا نهجه مع السجناء العاديين، فلا شك أنه كان يخص المرضى منهم بالزيارة، والسؤال عن أحوالهم، وبذل المعالجة لهم، والتوصية بهم، وإلا فما معنى تفقده للسجناء وفحص أحوالهم والسؤال عن سلامتهم، إن لم يكن منه رعاية واهتمام خاص بالمرضى منهم!
في عهد عمر بن عبدالعزيز
اشتهر عمر بن عبدالعزيز الخليفة الأموي، رحمه الله، بالعدل بين الناس وكثرة الرفق بهم، حتى إنه لكثرة صلاحه وعدله ورفقه بهم، لقب بخامس الخلفاء الراشدين وقد ذكر ابن سعد في كتابه: «الطبقات» أن عمر كتب إلى الأمراء والولاة يقول: «انظروا من في السجون، وزوروا المرضى وتعهَّدوهم». والتعهّد في لغة العرب: التردد على الآخرين وتفقدهم، وتجديد العهد بهم.
في عهد المعتضد العباسي
حكم المعتضد الخليفة العباسي في سنة 279هـ (903م)، وقد ذكرت المراجع التاريخية أنه خصص من الميزانية مبلغ 1500 دينار ذهبي في الشهر الواحد لنفقات السجون، ومن مشمولات هذه النفقات: الرعاية الصحية والطبية، وتغذية السجناء المرضى، وصرف الأدوية لهم.
في عهد المقتدر العباسي
حكم المقتدر الخليفة العباسي في بداية القرن الرابع الهجري «أوساط القرن العاشر الميلادي». وتذكر الروايات التاريخية أنه حين حبس خصمه ابن مقلة الوزير، وساءت أحواله واشتد مرضه، أدخل إليه الطبيب المشهور ثابت بن سنان ابن قرة، فترفَّق به، وداواه وعالجه، وفصده بإخراج الصديد والدم الفاسد من جسمه.
وفي زمن الخليفة المقتدر، أيضًا، كتب الوزير علي بن عيسى الجرّاح إلى سنان بن ثابت بن سنان بن قرة «الابن»، وكان قد ولاه على إدارة مستشفيات العراق، يقول: فكرت، مد الله في عمرك، في أمر السجون ومن فيها من السجناء، وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم، أن تنالهم الأمراض وهم معوَّقون عن التصرف في منافعهم، ولقاء من يشاورونه من الأطباء فيما يعرض لهم، فينبغي عليك أن تُفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم، وتحمل إليهم الأدوية والأشربة، ويطوفون على سائر السجون، ويعالجون فيها المرضى، ويزيحون عللهم وأمراضهم، بما يصفون لهم، وأمر أن تقام لهم المزورات «غرف المعالجة الخاصة» لمن يحتاج إليها منهم. ففعل سنان ذلك بقية إدارته، وكانت حوالي عشرين سنة.
كما تروي كتب التاريخ أن هذا الخليفة العباسي كان يأمر بإرسال الوقود والفحم في الشتاء إلى المرضى العاديين في عامة المستشفيات، وبناء على هذا الخبر فليس من المستبعد أن هذا الأمر شمل السجناء عمومًا، والمرضى منهم خصوصًا.
رعاية القاضي السُبكي
يعد تاج الدين السبكي من أبرز كبار القضاة المسلمين المتنفذين، كان إصلاحي النزعة، مسموع الكلمة، لقب بقاضي القضاة، وهو منصب يوازي في أيامنا منصب وزير العدل، وتوفي في سنة 771هـ (1395م). كان حريصًا على إصلاح السجون، وتحسين أحوال السجناء، ومساعدتهم على التعجيل في إصلاح أحوالهم وتعديل سلوكهم، ومما أُثر عنه أنه كثيرًا ما كان يوصي بالترفق بالسجناء المرضى، ورعاية أحوالهم الصحية، وتقديم العون لهم، وتخفيف آلامهم، وبذل الأدوية والعلاجات لهم.
في عهد قانصوه الغوري
يعد قانصوه الغوري أحد الأحكام المماليك الأقوياء المشهورين، الذين حكموا البلاد المصرية في عام 919هـ (1543م). وقد ذكرت الروايات التاريخية أنه كان يكرِّر زياراته لسجون مصر ويتفقدها، وأنه أمر ببعض الإجراءات الإصلاحية فيها، ومن ذلك رعاية السجناء عمومًا ومعالجة المرضى منهم على وجه الخصوص، كما أمر بصرف الأدوية لهم، ومتابعة أحوالهم الصحية وأن يتردد عليهم الأطباء بين الفينة والأخرى.
تسامح المسلمين مع السجناء المرضى
بعد استعراض العديد من الحالات والنماذج في عناية المسلمين عبر تاريخهم ورعايتهم للسجناء المرضى، تجدر الإشارة إلى شيء آخر، وهو: أنهم كانوا يحظون أيضًا بمزيد من التسامح والتساهل في المعاملة، نظرًا لظروفهم الصحية، ولضعف أبدانهم، وتراجع قوتهم وعافيتهم. فقد ذكرت المراجع التاريخية أن إدارة السجون في زمن هشام بن عبدالملك الخليفة الأموي كانت تتساهل معهم، فلا تفتش حجراتهم، بل تُمسك عن تفقد موجوداتها، رفقًا بهم، لئلا تضطرهم إلى الاستيقاظ من النوم، والقيام من الفرش، وحمل الأمتعة والحاجات، مع ما فيهم من مرض وضعف وعجز.
كما أنه كان من غير المسموح به، وضع القيود في أيدي السجناء المرضى حال انتقالهم من مكان إلى آخر، بل كان من المعمول به تمكينهم من أسباب النقاهة والشفاء، والسماح لهم بالتجول في ساحات الحبس وبين أطرافه، وقطف الزهور والرياحين، والاستشفاء بشمها، ما دام ذلك سببًا لاسترداد عافيتهم، وعونًا لهم على التماثل للشفاء.
في السجون الأخرى
في الوقت الذي كان المرضى في سجون المسلمين يلقون كل رعاية طبية وعناية صحية، بحسب ما سبق بيانه، كان العديد من السجون عند غيرهم أشبه بمقابر جماعية، يلقى فيها السجناء أكداسًا، ويتركون فيها على أفظع الحالات وأقذرها، كما تذكر الموسوعة البريطانية وغيرها. وكان بعض هذه السجون أيضًا مكانًا لمرضى الأعصاب والمجانين، بحجة أن لعنة السماء حلَّت بهم، وعقوبة لهم على آثامهم، فكانوا يحبسون في غرف مظلمة، ويضربون وهم مقيدو الأيدي والأرجل، وظل الحال كذلك حتى أواخر القرن الثامن عشر للميلاد.
بل إن الشمس لم تكن تنفذ إلى غرف سجن «الباستيل» في باريس، لأن كثيرًا من زنزاناته بنيت تحت الأرض، ولازمها الظلام، وانتشرت فيها الرطوبة، وأحاطت بها روائح القاذورات المتصاعدة من المياه القذرة التي تصب في الخندق المحيط بالسجن.
إصلاح السجون
ظلت أحوال السجون والسجناء كذلك حتى أواخر القرن الثامن عشر، حين نشطت حركة إصلاح السجون في العالم، وبدأ الغرب يتعرف إلى وظيفة السجن الإصلاحية، فاهتم بالإشراف الصحي والطبي على السجناء وبخاصة المرضى منهم، وفرضت النظافة في السجون، وانتشرت فيما بينهم العناية بأحوالهم الصحية والعلاجية.
وتابعت الحركة الإصلاحية العالمية جهودها وسعيها لرفع مستوى السجناء عمومًا، واعتبارهم أمانة عند الحكومات، تسأل عنهم وتحاسب عليهم، حتى توّجب تلك الجهود باتفاق دولي عقد في جنيف سنة 1955م، وأقرت فيها مجموعة قواعد الحد الأدنى لمعاملة السجناء ورعايتهم، وقد تضمن ذلك الاتفاق الدولي وجوب وجود هيئة طبية في كل سجن، وتنظيم الخدمات الصحية والطبية اللازمة للسجناء، وبخاصة المرضى، كما تضمن منع حبس المصابين بالأمراض العقلية، ونحو هذه المعاني الإنسانية التي سبق الإسلام والمسلمون إلى تقرير مبادئها والعمل بها، منذ قرون عديدة.