|
||||||||||
§ تنامي الصناعات الحرفية قاعدة صلبة أقيمت عليها الأسواق تعد الأسواق القديمة دلالة واضحة على الازدهار الاقتصادي، الذي تشهده المدينة رخاء وثراء، وأصبح تصميم المدن يعتمد على أساس الوجود الجغرافي للأسواق التي استحوذت عبر التاريخ على أهمية كبيرة، حيث عُدّ إنشاؤها في المدن الإسلامية أحد محاور النهضة العمرانية، فكانت أبواب المدينة ترتبط بالطريق التجارية المؤدية لها، وغالبًا ما سميت بأسماء المدن أو الأقاليم التي تندلف منها القوافل. ارتبطت الأسواق بالمدن وبالطرق التجارية المهمة التي تمكنها من توفير احتياجاتها، وتصدير إنتاجها، ولا سيما أن المدينة لا يمكنها أن تعيش على الوظائف المحلية فقط، وقد ازدهرت كثير من المدن الإسلامية معتمدة على أقاليمها، كدمشق، وحلب، وبغداد، والقاهرة، وفاس، وطهران، وشيراز وغيرها. كما تطورت فيها مختلف أنواع الحرف اليدوية، وبذلك انقسمت التجارة فيها إلى نوعين: تجارة محلية، وتجارة كبرى قائمة على نشاط القوافل التجارية التي تورد البضائع إلى المدينة. ومن جهة أخرى، فإن أهم ما يميز الأسواق القديمة هو تخصصها، لتكون وجهة الزبون محددة، والبضائع متوفرة، حيث تمتد في الأسواق المحلات التجارية، وخلفها الخانات المخصصة لإقامة القوافل التجارية، فكان قانون العرض والطلب متعادلًا. بعض الأسواق كانت تقوم بدور المؤسسات الطبية الحديثة كالمستشفيات والصيدليات. ومن أشهر الأسواق التي عرفت بصيتها الذائع محليًا وعربيًا «سوق العطارين» بمدينة فاس، حيث كان يباع فيها مستلزمات العطارة ومشتقاتها، وأنواع عديدة من الوصفات الطبية العربية المتضمنة الأعشاب والسوائل الطبية. ويمكن القول بأن دكاكين العطارين كانت صيدليات، ذلك الزمن، يعرف العطار خواصها ومنافعها، ويتقن توليف الوصفة وتركيبها للحصول على مراهم وسوائل للمعالجات العادية. كما ضم دكان العطار المعاجين والمربيات والتوابل الغالية الثمن، وقد كان المرضى يتوجهون لسوق العطارين باحثين عن تشخيص حالتهم المرضية وآملين إيجاد العلاج المناسب. وكان معظم العطارين أو الصيادلة يعدون الأدوية في منازلهم ويهيئونها أشربة ومراهم، ومستحضرات، ثم يرسلونها إلى دكاكينهم، فيسلمها مستخدموهم مقابل وصفة طبية. وقد تمتع عطارو فاس بسمعة طيبة، استعان بهم أشراف المدينة للعلاج وتركيب العطور، وأُطلق عليهم البربهاريون، والبزارون، الذين يستخرجون الدهن من البذور. أما بعض الأسواق فقامت بدور التجمعات الصناعية، والحرف اليدوية، فازدهرت الصناعة الحرفية، وتوسعت الأسواق لكثرة الطلب، وأصبح لكل حرفة سوقها، وروادها، «كسوق الصباغين»، التي تنمنم في جنباتها مفردات الدباغة. وكانت السوق مشهورة بأرضيتها المزهوة بألوان متعددة نتيجة قيام الصباغين بغسل الجلود في أحواض صغيرة، تنسكب مياهها الملونة بالأصبغة المختلفة على البلاط فتحوله إلى ما يشبه اللوحة التشكيلية التي تنعكس عليها أشعة الشمس نهارًا فتولّد منظرًا جميلاً. أما«سوق النجارين» فيحوّل فيها النجارون الأخشاب إلى مفروشات ومواد وخزانات منقوشة وتحف، كما يحول خشب العصفيّة والأرز والأوكالبتوس إلى طاولات أو صناديق مطعّمة بالصدف والعاج، وتعبق من الأسواق رائحة خشب الأرز الطيبة، لكثرة ما يستعمله النجارون في تصاميمهم. وفي وسط السوق تزدان «ساحة النجارين» بأجمل نوافير المياه في فاس. وأما «سوق القيسارية» بمدينة الجديدة المغربية، فتعرض منتجات الحرير والأقمشة المطّرزة والدّيباج، وهي، أيضًا، مكان جيد للتمعن في دقة الحلي التقليدية، أو زُرقة منتجات الفخار المحلية. وقد اشتهرت هذه السوق بكثرة منتجاتها التي تسر الناظرين. كما عرفت سوق القيسارية ظاهرة حضارية تعد قمة فيما بلغه السلوك الأخلاقي في بعض الأحيان، إذ قدمت وقفًا خاصًا لقرض صغار المستثمرين من التجار والصناع، تشجيعًا لهم على مواصلة نشاطهم في بداية خطواتهم. وهكذا وضعت الدولة مبالغ من المال في صندوق بالقيسارية جعل رهن إشارة المحتاجين، يأخذون منه ما يشاؤون ويرجعونه عندما تنتهي الحاجة. لقد تمت هذه التجربة أيام السلطان المولى إسماعيل، جد الأسرة العلوية الحاكمة. بينما انفردت سوق اللبادين ببيع منتجات الصوف، و«اللبدة»، والتي تعني تشابك شعيرات الصوف فيما بينها ومزجها بالماء والصابون الأسود «البلدي»، ثم فركه بقماش مبلل بالماء والصابون حتى تصير جرزًا واحدًا أو قطعة واحدة. وبعد غسل المنتج الملبد يمكن أن يصبغ أو يحتفظ بلونه الأصلي بعد أن يعرض لأشعة الشمس ليجف. ولا يعرف بالتحديد أصل هذه المهنة، والتي يبدو أنها من مخلفات الحضارة العثمانية بدول جنوب البحر الأبيض المتوسط. وبالتالي فإن ممارسة هذه الحرفة تفوق 100 سنة من الأقدمية، وكان عدد الصناع في السوق يتجاوز ٦٠٠ صانع. ويستغرق مدة إنجاز لبدة واحدة يومًا واحدًا، ويغلب على هذا المنتج الطلب من طرف مستعمليه إماّ للصلاة كسجاد أو استعمالات أخرى كعنصر ضروري لصناعة السروج، أو الطربوش الأحمر في الزي الرسمي التقليدي المغربي. في حين اشتهرت سوق عين عَلُّو، بعرِض «البلغة»، وهو الحذاء التقليدي المغربي، بلونيه الأصفر الفاقع أو الأبيض الناصع، أو الرمادي مائلاً إلى الزرقة، كما تتباهى السوق بآلاتها الموسيقية. ومن جهة أخرى، تعد حرفة السراجة من أقدم المهن التي اقترنت بسوق السراج، لكونها ارتبطت بالفرس والفرسان. واشتهرت المدن التاريخية بهذه الحرفة كفاس ومراكش، والتي يعود أصلها للشرق العربي وتركيا بالنظر إلى طرق التطريز ونوعية المواد المستعملة كالحرير، والخيوط المذهبة، والتي تعرف في العامية المغربية باسم «الصقلي». وتعتمد هذه الحرفة على مواد أولية محددة ومميزة كالجلد المدبوغ بطرق تقليدية بمناطق تافيلالت، ونواحي وادي درعة، وتاكَونيت. ورغم الظروف التي تمر بهذه الحرفة، فإن الصانع يصر على اقتناء مواد جيدة لصناعة منتج رفيع. وقد عرفت تجارة السروج نشاطًا بعد موسم الحصاد، خصوصًا إذا كان الموسم الفلاحي جيدًا، حيث يكثر إقبال الفلاحين على اقتناء السروج لجيادهم، والتباهي بها في «المواسم» والمناسبات الدينية والحفلات رغم انحسار ألعاب الفروسية وعزوف الشباب القروي عنها. وتلون السروج بالأصفر والأزرق ومنها ما يُعمل من الدبل، ومنها ما يُعمل سيورًا من الجلد البلغاري الأسود ويركب بهذه السروج في السوق القضاة ومشايخ العلم. أما السروج التي تركب بها الجنود والكُّتاب فيُعمل للسرج ستة أطواق من فضة مطلية بالذهب والفضة. أما تجارة الغزل فتنسب إلى سوق الغزل التي ازدهرت في العصر العثماني، وكانت في العصر العباسي جزءًا من حرم دار الخلافة العباسية، وانتقلت عبر التجار الجدد لساحة بمدينة سلا المغربية. كما اشتهرت سوق الغزل كأفضل مكان لبيع الديكة الأصيلة المشهورة بالقتال فيما بينها ومبادلتها. ومع التطور المدني ازدهرت في السوق تجارة الحيوانات الأليفة، وكذلك المتوحشة مثل الكلاب، سيما الخاصة منها بالحراسة، والذئاب، والثعالب، والأفاعي، والفئران. ولا تزال تجارة الطيور النادرة تشهد ثراء في هذه السوق العجيبة حتى الآن. وفي سوق «رحبة الزرع» أو «سوق الرحبة» التي كانت تتوسط المدينة، تقام عدة نشاطات تجارية كبيع الحبوب، والتمور، والزيوت. ومن الرحبات المعروفة في مكناس، التي يذكر المؤرخون أنها كانت مركزًا للقوافل التي تأتي من مختلف الأنحاء محملة بالبضائع، فقد أصبحت اليوم سوقًا لبيع الملابس ومكانًا مفضلًا للمطاعم الشعبية الشهية بوجباتها. وقد تفرعت عنها أسواق أخرى صغيرة، لم تصل لشهرتها «كسوق العصر» التي كانت قبلاً تسمى «سوق الجمعة»، وتشتهر بتنوع الخضار والفاكهة واللحوم والأقمشة، والفواكه المجففة، وعادة ما تكون أسعار هذه السوق معتدلة مقارنة بغيرها. وأما مدينة سلا فتستنير بسوق الشماعين المعمورة بحوانيت الشموع الموكبية والفانوسية والطوافات التي تحيي الليل بأنوارها. وقد خرب معظمها، ولم يبق منها إلاّ نحو خمسة الحوانيت، بعد ما كانت تزيد على العشرين، وذلك لقلة ترف الناس، وتركهم استعمال الشمع. وكانت تعلق بهذه السوق الفوانيس في موسم الغطاس فتصير رؤيتها في الليل من أنزه الأشياء، وكان بها في شهر رمضان موسم عظيم يزدان ببيع الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منها عشرة أرطال فما دونها. ومن المزهرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يحمل على العجل، ويبلغ وزن الواحدة منها القنطار وما فوقه. وقد أحيت الحكومة المغربية هذه السوق للحفاظ على مآثر سلا، وظل المغاربة يحافظون على طقوس السوق العتيقة، ويحيون ذكراها في كل عيد للمولد النبوي الشريف. تلي سوق الشماعين سوق أخرى للدجاج كان يباع فيها أنواع الدجاج والأوز، وكذلك العصافير التي يبتاع الناس فيها العصفور بفلس، ويعتقونها أملًا في دخول الجنة. وفي كل يوم جمعة تعرض أصناف العصافير من القماري والهزارات والشحارير والسُّمّان. ويشاع أن من السُّمَان ما يبلغ ثمنه المئات من الدراهم، وكذلك بعض الطيور التي تجاوز سعرها الألف، ويتنافس لاقتنائها الكثيرون ممن يطلق عليهم غواة الطيور، سيما الطواشية، فإنه كان يبلغ بهم الترف أن يقتنوا السُّمَان، ويتأنقوا في أقفاصه، ويتغالوا في أثمانه فقد بيع طائر من السمان بألف درهم فضة يومئذ، وهو ما يوافق نحو الخمسين قطعة من الذهب. كل ذلك لإعجابهم بصوته، وكلما كثر صياحه تصاعدت المغالاة في ثمنه. قد يندهش الزائر لكثرة الأسواق، وروعة التنظيم والدقة والتخصص. فهناك سوق السيوفيين بمكناس، وسوق الحريريين في فاس، وسوق القفيصات في آسفي، وسوق القشاشين بمراكش. وعلى صعيد آخر، لم تهمل الأسواق القديمة جمال المرأة العربية، ووفرت لها ما توفره المؤسسات الحديثة من منتجات متعددة الاستعمالات، والمستوردة من العديد من البلدان. ومن أشهر الأسواق التي اهتمت بالجمال النسائي سوق الحناء بمدينة فاس، التي تتضمن متاجر صغيرة على الجانبين يستعملها خزفيون وعطارون، يتوفر فيها الحناء على أنواعه والكحل الأسود والرمادي، أي ما تتزين به النساء المغربيات منذ قرون، والعكر الفاسي لتحمير الشفاه، والغاسول البلدي للعناية بالبشرة، ويمثل ولوج سوق الحناء المطلة على ساحة صغيرة مُدخلًا إلى عالم فن العناية بالجمال على الطريقة الشرقية. والحديث عن الأسواق المغربية لن تختزله صفحات، فدلالاتها ورموزها الحضارية والتاريخية، وتنوعها الجغرافي تشيد بحضارة المغرب الاقتصادية القديمة، وتبين الدور الذي لعبته في تأسيس دعامات الاقتصاد المتخصص الحديث وتتبيثه كبصمة شرفت تاريخ المغرب، وسلطت الأضواء على مدن ظلت لقرون بوابات عالمية.
|