في وادي لجب والحدائق المعلقة

جازان تزهو بطبيعتها

بيئة خلابة تتفيأ بالشلالات المتساقطة والجبل الأسود يعلو بهامته إلى ألفي متر.

• استطلاع:

سعد بن عبدالعزيز الشبانات

علي بن عبدالمحسن الحماد

§       الوادي يتوسط جبلي شقرا وزهوان
§       يغلب على الصخور اللون الأحمر
§       الجبل الأسود اشتق اسمه من كثافة أشجاره
§      
يحفل الوادي بتنوع الأشجار العطرية

تمتاز المملكة العربية السعودية بتنوع مناخها البيئي، لما حباها الله من طبيعة خلابة تقاسمت سحرها بين مخاطبة البحر للصحراء وعناق الوادي مع الجبل، وعندما تشد الرحال إلى أحد أقطابها، لا تفتأ الحاجة اللاهثة إلى التمتع بمعالم الجمال عن التزود بفيض المعرفة لإحداثيات تلك الأماكن الرحبة.

إمارة جازان.. تزهو بمفاتن بيئتها الساحرة، ووادي لجب والجبل الأسود بعضٌ من نماذجها.

سبب التسمية

«لجب» في اللغة، اختلاط الأصوات, فالولوج في الوادي يكاد يمنع صاحبه سماع صوت رفيق الرحلة بسبب لجة أصوات الطيور المختلفة، وخرير الشلالات الجارية، فاشتق مسماه من صفته.

يقع الوادي بين جبلين شامخين من سلسلة جبال «القهر» هما جبل «شقرا» من جهة الشرق، وجبل «زهوان» من جهة الغرب، يفصل بينهما «وادي لجب» ذي الأرضية الصخرية شديدة الوعورة، تحول دون تقدم الزائر في مركبته، وإنما يتابع جولته سيرًا على الأقدام. منحدر السيل بين الصخور وغدران الماء والجداول الجارية والشلالات المتساقطة تضفي على الأجواء، مع ترانيم الطيور المغردة، موسيقا طبيعية تجعله يتمادى في المشي دون حسبان للوقت. في لفتة رائعة تطالعه الصخور ذات الألوان المموجة بتدرجات اللون الأحمر الجميل، بدت وكأنها قوس قزح. أما مجرى الوادي الضيق فيتسع في بعض المواقع إلى ما يقارب المئة متر تكبر معه مساحة الدهشة بجمال طبيعة الوادي الغناء وألوان صخوره وغريب تكوينه، الذي يهيب بالنفوس حب التوغل بين مساقط شلالاته وحدائقه المعلقة وغدران مياهه الصافية العذبة التي تعيش فيها أنواع الأسماك الصغيرة، يمكن مراقبة حركاتها وكأنها من شدة نقاوة الماء وصفائه تحت صرح ممرد من قوارير.

والوادي يأتي بين الجبلين الشاهقين، عميقًا ضمن ارتفاعين يقارب كل منهما الـ300 متر عن أرضيته، تكاد قمتيهما تختفيان في عنان السماء، وقد نبت على جانبي الوادي أنواع مختلفة من الأشجار والنباتات الغريبة، سيما تلك التي أرسلت بجذورها العارية عبر سفح الجبل كالحبال بحثًا عن الماء والغذاء مشكّلة لوحات جميلة طبيعية يندر مشاهدة مثلها في غير هذا المكان، توافق لفيف الأشجار الوارفة على قمتي الجبلين وجوانبهما وكأنها حدائق معلقة تسحر لب الناظر إليها في مناخ لطيف يميل إلى البرودة، إذ يرتفع الوادي عن سطح البحر بأكثر من 1000 متر. ويكاد الوادي يكون منسترًا عن أشعة الشمس إلا في منتصف النهار عندما تكون الشمس عمودية في السماء.

ساعات تمضي في تجوال المسافر بعيدًا عن الملل، تلتئم بها جراح التعب للراحة والتأمل في عظمة إبداع الخالق.. وفي درب العودة، تحلو المتعة عبر الطريق الوعر في تسلق الصخور الضخمة التي تدحرجت وسط الوادي، لتعيق استمرار السير. بيد أن جمال الطبيعة ينسي العناء، فحينًا تطالع محبها بنوع من الطيور محلقة فوق الوادي إلى آخر يداعب أغصان الأشجار، وأما الأسماك فتلهو في غدران المياه الرقراقة النقية. في ظل ظليل والنيروز يدغدغ الوجنتين، يقف الذهول مقام صمت أمام مفاتن الوادي، وما زالت الجوارح تناشد النزهة مزيدًا من التعمق في غياهب الجمال.

قرب موقف العربة تستيقظ الرؤيا الحالمة مقابل خزان مائي بني على صخرة من سفح جبل «شقرا»، مد إليه أنبوب يأتيه من نبع ماء يخرج من عرض جبل «زهوان»، تهنأ لذته في شربة عذب زلال، وقد قام ببناء خزان الماء أحد المحسنين. وأطلق على النبع اسم درب كان يصعده الناس سابقًا وهو «درب معري»، ولقرب النبع من الدرب سمي بـ«نبع معري». ويقع النبع والدرب في نقطة التقاء واديي «ريدان»، و«وادي علثم» مع «وادي لجب»، وليس للدرب ملامح واضحة، إذ هو في عرض جبل «زهوان» قائم الحافة كالجدار، ولكن الأهالي سابقًا كانوا يصعدون معه عندما يرغبون في زيارة أقاربهم في قمم جبال القهر. ولا يستطيع تسلق حافة الجبل القائمة إلا رجل لديه خبرة ومهارة في تسلق الجبال، وهم يصعدون مع تلك الحافة الشاهقة دون حبال، وقد سمي «درب معري»، لأن صاعد هذا الجبل الشاهق يتجرد من أكثر ثيابه، لكي لا تكون عوقًا له في عملية الصعود، وخوفًا من أن تتسبب الثياب في سقوطه من الجبل.

وبحسب الشيخ مطري مفرح السلمي، وهو من أهالي المنطقة، كان يعبر هذا الدرب دائمًا، ويستغرق قطع الوادي بطوله، عندما يدخله في الصباح، وقتًا طويلًا فلا يخرج منه على «وادي بيش» إلا بعد الظهر.

ومن القبائل التي تسكن في محيط المنطقة قبيلة آل سلمان، والعزي، والصهلولي، والنجادي، وأكثر أبناء المنطقة ممن ينتمون لقبائل خولان العربية، وقد قال مزاحم العقيلّى يذكر جبال القهر التي فيها وادي لجب:

أليْسَتْ جِبَالُ القَهْرِ مَكَانهَا  وأكنافُ عَرْوَى والوحَافُ كما هيَا

ومن جهة أخرى، فإن الوادي يزدان بأنواع كثيرة من الأشجار منها: الصومل، والظرف، والتالوق، واللبخ، والشطب، وهو من أنواع النخيل القزمية غير المثمرة، والخيفان، والريع، وكان أهل المنطقة يأكلونه عند الحاجة إليه، والعصم، والنشم، وشجرة الغراب التي يستخرج منها مادة معقمة لطلي جلود الحيوانات التي تصاب بالجرب. أما شجرة الرضف فيستخلص منها مادة طبية يعالج بها من تعرض إلى لدغة ثعبان، يطلى بها موقع اللدغة ويشرب منها المصاب، ومن الأشجار ذات الروائح العطرية: الطاروق، والشيح، والخزام، والكادي، والريحان، والبعيثران، والضرو.

أما الطيور التي تجوب فضاءات «وادي لجب» فهي: النسور، والرخم، والصقور، والغراب، وطائر كبير الحجم من أنواع النسور يسمى قطر، والعقاب، وطير الواوي المغرد بالألحان الجميلة، ولونه غامق جميل بحجم البلبل تراه دائمًا يقفز على الصخور في جماعات، والجفر وطائر البالي، وهي من الطيور المغردة.

وفي إطار الرغبة بزيارة هذا المعلم السياحي الجميل، لا بد من اتخاذ بعض الاحتياطات التي تندرج بضرورة دخول الوادي في وقت مبكر، ليتمكن من المشي فيه، واستغلال فرصة التمتع بجماله قبل الغروب، حيث يبدأ الظلام بإرخاء سدوله معلنًا قدوم الليل، فتصعب بذلك عملية التصوير والعبور. كما ينبغي الابتعاد عن ولوج الوادي في الأوقات المطيرة، فربما يأتي السيل من مسافة بعيدة، ولو لم يهطل المطر على أرض الوادي. لذا يجب الحذر والانتباه وأخذ الحيطة من سرعة جريان السيول في المناطق الجبلية، وكذلك لبس حذاء مناسب للتسلق والمشي، وعدم المجازفة بالنزول أو الصعود مع الدروب الخطرة والبحث عن سبل أخرى. لذا يجب توافر مرافقين للزائر، وأن يكون مشي المجموعة متقاربًا، ودون حملهم لأشياء تعيق حرية المسير. بالإضافة إلى أهمية الاعتناء بالنظافة، وعدم رمي الفضلات والمخلفات في مجرى الوادي، وأخذها في كيس بلاستيكي، ورميه في المكان المخصص للنفايات، ليبقى الوادي الجميل محافظًا على جماله محتفظًا بحيواناته وطيوره وأشجاره البهية، فينطبق قول صاحب المثل «اترك المكان كما تحب أن تراه».

الوصول إلى «وادي لجب»

وفيما يتعلق بكيفية الوصول إلى وادي لجب، فإنه يقع شمال شرق محافظة «الريث» بمسافة 15 كيلومترًا, وتبتعد «الريث» شرقًا عن محافظة «بيش» بـ65 كيلومترًا، وهي شمال محافظة «صبيا» بـ30 كيلومترًِا.

الجبل الأسود

عبر طريق ترابي متفرع من الخط الإسفلتي القادم من محافظة «الريث»، تبلغ الأقدام موطئها في الجبل الأسود الواقع جنوبًا من «جبال القهر», وتمر هذه السبيل الملتوية بعدة مواقع سكنية وقرى صغيرة متناثرة على سهول وسفوح الجبل، تصعد إلى قممه تارة، وتنحدر تارة أخرى بين التلال والوديان. فالطريق حتمًا يحتاج إلى عربة من نوع الدفع الرباعي للسير فيه بأمان لوعورته، فضلاً عن ارتفاعه الشاهق الذي يناهز الـ2000 متر عن سطح البحر. ويقع «الجبل الأسود» شمال شرق محافظة «الريث» بما يقارب سبعة كيلو مترات.

الجبل الأسود لا يحتضن تربة سوداء، بل هو أقرب إلى بيئة «جبال عسير» وتضاريسها، إلا أن ضخامة أشجاره وكثافتها جعلته يلبس حلة سوداء من ظلال الأشجار وخضرتها التي كادت تغطي أرضية الجبل، وأضفت على ردهاته ظلمة حالكة. ومع التجول في سفوح الجبل يمكن مشاهدة المدرجات المستصلحة للزراعة، وكأنها تقاسيم ملعب أوليمبي أو معبد روماني يدل على نشاط أهل المنطقة وقوة عزيمتهم في الصراع مع الطبيعة من أجل العيش. وتلتقف تلك المدرجات مياه السيول، لتسقي المحاصيل الزراعية التي يزرعها الأهالي من الذرة، والدخن، والقمح، وغيرها من الأشجار المثمرة.

كما توجد شجيرة المجرى التي يتغذى عليها النحل، ليأخذ العسل اللون الأبيض. ومن اللافت للانتباه، وجود خزانات ماء أرضية حفرها السكان القدامى، وقاموا ببناء جوانبها بالصخور، وطليها بمادة الآجر، لتقاوم تسرب الماء قبل أن يعرف الإسمنت ثم سقفوها بجذوع الأشجار، وينزح الأهالي الماء من تلك البرك لسد حاجاتهم منه. أما الخزانات فتتلقف ماء المطر من مجاري الشعاب، ثم يمر بحفرة صغيرة يصفو بها من الشوائب قبل انصبابه في خزان البركة, ويأتي حجم بعض هذه البرك بما يقارب عشرة في خمسة أمتار.