هيئــة التحريــر
لم
يحظ أدب السيرة الذاتية و الذكريات بالكثير من الاهتمام إلا بعد
توسع التعليم في بلادنا، وامتداد تجارب المبتعثين إلى أنحاء
العالم، والاحتكاك بالآداب الحديثة التي أولت هذا الموضوع ما يليق
به من اهتمام، ولعل "صور وذكريات" لرائد الصحافة السيد عثمان حافظ
-رحمه الله-،
و"سقيفة الرصاص"
للأديب الراحل ـ حمزة بوقـري -رحمه الله ـ وسيرة عزيز ضياء
الذاتية، وتباريح أبو عبدالرحمن
بن عقيل الظاهري، من أولى الزخات
في وادي هذا اللون من الأدب، والتي أطلقت
مياهها في نهر كان جافاً إلى حد كبير، تأليفاً ونقداً
وتاريخ أدب، حتى أن
الكثير من النقاد والدارسين للأدب وتاريخه لم يعيروه كبير اهتمام
فيما ينشر في أدبنا باللغة العربية.
ويضيف اليوم الأديب، الأكاديمي، ذو الحقائب الوزارية العديدة
"الدكتور عبد العزيز الخويطر" إلى هذا اللون من الأدب السعودي ما
يثريه، ويوسّع مجراه، ويحيي موات تربته:
بكتبه التي ألفها عن ذكرياته
بعنوان ـ وسم على أديم الزمن ـ لمحات من الذكريات بلغت حتى
الآن أربعة مجلدات، آخرها خصصه لذكرياته في مكة المكرمة.
لقد جاءت ذكريات الدكتور الخويطر هذه، تلتقط واقع العاصمة المقدسة،
والتي كانت بالإضافة لكونها قبلة المسلمين في العالم، فهي قبلة
طلاب العلم من السعوديين من مختلف أنحاء المملكة، ومنها "عنيزة"
التي جاء منها الطالب عبدالعزيز الخويطر، في نهاية عام 1356
للهجرة.
وكان ترتيب مواصلات
الرحلة في ذاته بداية اندهاشات تملكت الفتى البالغ يومها 13 عاماً،
اندهاش من "السيارة" التي يستقلها مع أسرته لأول مرة، "وهو اندهاش
مجلل بالمتعة، ومجموع السيارات يومئذ في عنيزة "سيارتان" كان كل
شيء يخص السيارة مدهشاً لنا، تكوينها الحديدي، مقاعدها الوثيرة،
نوافذها الزجاجية، عجلاتها، مكينتها التي إذا وقفت فتحت حتى تبرد،
وشنطتها التي في الخلف، والقربتان على جناحيها ـ الرفرفان -،
والبقاء مدة طويلة في السيارة وهي تنهب الأرض وتترك وراءها سحائب
من الغبار، ننظر من النوافذ فنرى الأرض تمر مسرعة خلفنا، ولا يقطع
متعتنا إلا ـ مطب ـ مفاجئ أو منحنى حاد".
ومما اندهش له الفتى
"الشخص الذي يقود السيارة، يصرفها يميناً ويساراً وإلى الأمام وإلى
الخلف أحياناً، يتحدث ولا يشغله ذلك عن القيادة، تناغم بين حركات
يديه وقدمه، مدهش بالإمساك بعنان هذا العملاق الذي يحمل ما يحمله
عدد من الجمال"!.
وفي
الشرائع على مشارف مكة المكرمة كانت أولى اندهاشات الحضارة
الحديثة، فقد رأى عند رئيس المركز عبدالعزيز الحمد العبدلي، "ما
بهر عقولنا، وما فغر أفواهنا دهشة عندما رأيناه، وكأننا في حلم،
رأينا "صندوق الغناء" المسمى أحياناً (الشنطة) وهو "الجرامفون"
الشهير، ورأينا كيف يملأ "زمبلك" هذا الصندوق، ثم توضع عليه
السماعة، وفيها إبرة توضع على الاسطوانة المسجل عليها الأغنية، ثم
تدور فيأتي صوت الأغنية منساباً، وكان مما أطربنا أغاني أم كلثوم ـ
على بلدي المحبوب وديني، وفريد الأطرش ـ يا ريتني طير لأطير حواليك،
والكويتي عبد اللطيف، وأغاني عدنية".
وكان أهالي مكة ممن لديهم الشنطة، يحتاطون عند تشغيلها خوفاً من
"كبسة رجال الهيئة"، حيث كان عقاب من توجد لديه قاسياً "يحمل
الصندوق على رأس صاحبه من أعلى مكة إلى الحميدية مركز الشرطة
الرئيس"، حيث يحطم الصندوق أمام الناس بعد صلاة العصر، ويجلد صاحبه
ويحبس ثلاثة أيام. ولفت نظر الفتى انتشار الشنطة
بين سراة أهل مكة، وكان أغلب رجال الدولة يقتنونه ويتفاخرون
بعدد الإسطوانات ونوعها، في حين ينظر إليها البعض على أنها أداة
فسق وفجور، خاصة أن أكثر من يستعملونه من الشباب أهل الموضه، فقصة
الشعر عــــندهم ـ تواليــت ـ والثياب حــــــرير، أو ما يسمى لاس،
و"الكندرة" لامعة، و"غبانة" مكوية موضوعة على الكتف ولا يهم
المخبر، وكان الحكم آنذاك عند بعض الناس على المظهر، واستمرت
محاربة الشنطة حتى عام 1381 للهجرة، عندما سُمح بدخولها رسمياً من
منافذ الجمارك وأصبح مباحاً، وربما أخذ عليها جمرك.
كان الفتى القادم من مدينته الصغيرة إلى مكة مندهشاً لحظة دخوله
إليها ليلاً مما رأى من كثرة الناس، وكثرة الدكاكين، وفي بعضها
أتاريك تجعل ما حولها كأنه نهار، "والسيارة التي أقلتنا إلى الحرم
غير التي جاءت بنا من عنيزة، تلك فورت ـ فورد ـ وهذه بوكس، تلك
أضيق وهذه أوسع، تلك كلها حديد وهذه في جنباتها بعض الخشب، ودهشنا
كيف أن الناس لا يبالون بالسيارة وليس بينها وبينهم إلا شبر، أين
هذا مما كان في عنيزة، حيث يقف الناس بعيداً عنها، بل إن بعض الأسر
لا يخرجون من بيوتهم خوفاً منها".
وفي القشاشية شاهد الفتى قبل وصوله للحرم أربع سيارات تسمى "أبو
زفرة"، وبجانبها يقف بعض الحناطير، ومعها الخيل التي تجرها، وقيل
لنا مما زاد في دهشتنا فيما بعد، أن هذه الحناطير تستأجر في العصر
لزيارة السيدات لأقاربهن.
ولخص
الفتى انطباعه الأولي لحظة وصوله إلى مكة
هنا في مكة عالم آخر ولجنا إليه، ليس
فيه إلا مدهش، الدكاكين التي تبيع صنفاً واحداً متجاورة،
وكل سوق يكاد يكون مكتفياً بما فيه، تعدد اللغات التي يتخاطب بها
الناس، وكان دخوله وقت الحج ، حيث البيوت ملأى بالناس، والشوارع
كذلك. "دخلنا الحرم، فشُلّ تفكيرنا من المنظر المدهش
للأنوار المبثوثة فيه، ومن هذا البراح والفساح التي أمامنا، ومن
تنوع أرضه، هذا الرخام في المطاف، وهذا الحجر في المشايات
المستقيمة، وعلى جنباتها حصبات، ثم هذا الرواق الذي خيل إلينا أنه
لا نهاية له". أكمل طوافه وسعيه مع والديه، وشرب من ماء زمزم
ورأينا الأزيار والدوارق ومحاملها و- الطيس ـ وتبخير الدوارق
بالمستكا، والعناية التامة في تهيئة زمزم وتقديمه للشاربين.
سكن الفتى في منزل فوق ـ بازان المعلا ـ قرب منزل سمو ولي العهد
الأمير سعود بن عبدالعزيز وشاهد فوق المنزل "انتن" قيل إنه
للبرقيات، ذهبت خادمتنا في اليوم التالي لحارسه تطلب منه إخبار
أهلها برقياً بوصولها إلى مكة سالمة، مما كان موضع تندرنا، بدأت
الذاكرة الفتية اللاقطة تسجل ما يشاهده الفتى قريباً من سكنه"البازان"
الذي يستقي منه سكان الحي، والسقاءون يحملون الماء إما بالتنك، أو
بالقرب إلى البيوت، وشاهد الفتى نظام المحاكمات العلنية في مخالفة
السقاءين، والعقاب الذي يوقع على المخالف، وهو في الحقيقة رمزي
لردع المخالف حتى لا يعود، وردع للآخرين، وأكثره إيلامًا منع
السقاء من العمل لفترة معينة.
والتقت ذاكرة الفتى ما اصطلح على تسميته "بيت الحديد" للشيخ صدقة
عبدالجبار خلف قصر المحروق بين الغزة والمعلاة، وسمي بذلك لأن بابه
حديد على خلاف السائد من أبواب الخشب.
ولا ينسى البرحة التي كان يلعب فيها الأطفال، وهو جالس يتفرج، وممن
يذكرهم من لاعبي "الكبت" محمد بن عبدالعزيز العنقري والد وزير
التعليم العالي الدكتور خالد العنقري.
وتعرض ذاكرة الفتى نماذج من سكان الحي وأحياء مكة، فهذا "شيخ
الخياطين" تاج جلال جارنا الذي كان يخيف أولاد الحي عندما كانوا
يفسدون عليه أوقات الراحة برمي حجارة على خرابة قريبة من مكان
لعبهم محدثة صوتاً يظنه الأولاد الصغار من فعل الجني الذي يسكن
بيتنا، وقد أسر لي بذلك ورجاني ألا أفسد خطته، فوعدته ووفيت.
وهذا رجل من بارزي رجال الحي "سليمان بربري"، كان يصنع المكاييل،
وعمله فني مدهش ولا
يقتصر عمله على ذلك بل يسهم في مراقبة الحركة في الحي لكل داخل
إليه في النهار حتى يغيب عن الأنظار. أما ليلاً
فيأتي دور العسس ونظامهم الدقيق في مراقبة الحركة ليلاً،
وقد أدهشنا ما رأيناه من العسس الذي لم يكن موجوداً مثله في عنيزة.
ومما أدهش الفتى "الكناسون" وعملهم اليومي المنتظم، وقد وضعت لهم
بلدية مكة نظاماً، ونحن في عنيزة لا نعرف شيئاً اسمه بلدية، وكل من
يقوم بهذا العمل هم من أبناء البلد، كذلك من مسؤوليات البلدية
إنارة الطرق بالسرج ليلاً، بحيث إن السائر لا يمشي في طريق مظلم،
فنور السراج الأول يسلمه للسراج الثاني، وهكذا حتى يصل الشخص إلى
وجهته. وموازاة للبلدية ولتنظيمها، لفت نظر الفتى من مظاهر الحضارة
بمكة شيوخ الحارات،
وإجراءات اختيارهم، وعلى يد شيخ الحارة يتم إنجاز الأعمال، وإتمام
الصلح، ومنع الخلل قبل وقوعه، ولشيوخ الحارات سلطة تجعلهم يريحون
السلطات العليا، ويبدو أن هذا النظام موروث من عهد الأتراك.
ومما لفت نظر الفتى "شرب الدخان في مكة"، وهو أمر لم نعرفه في
عنيزة، فهو يباع علناً في دكاكين مكة ويشرب علناً في المقاهي
والدكاكين والشوارع، وتراه في الجيوب خاصة إذا كان الثوب خفيفاً ـ
شفافاً، ومن لا يدخن يتعاطى الشيشة، وهي ترى في المقاهي والبيوت.
ومما
لفت نظر الفتى أيضاً "البغال" في مكة، فلا يوجد في عنيزة بغال،
ولفت نظري ضخامة الحمير وعناية مالكيها بها، وتزيد العناية بها
وتزيينها مع اقتراب ذهاب ـ الركب ـ على الحمير والجمال إلى المدينة
المنورة، وكان الحمار هو وسيلة أهل مكة في التنقل داخلها وخارجها،
وقيل لي إن الشيخ عبدالله السليمان الحمدان وزير المالية، كان يركب
الحمار من بيته قرب قصر الحكم إلى قصر السقاف في المعابدة، حيث مقر
الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، في أول حكمه للحجاز، ومما أدهش الفتى
في مكة "الطواحين" وكان منظرها مفاجئاً لنا، وعملها غريباً علينا،
لأن الطحن في عنيزة كان في البيوت، وأذكر أنه كانت في شعب عامر
طاحونتان، وهناك معاصر للسمسم الذي لا نعرفه في عنيزة أصلاً ولم
نره. انتقالنا إلى مكة تسبب في دهشتنا في أمور كثيرة من الصعب أن
أحصيها الآن، أو أصف شعوري نحوها عندما رأيناها لأول مرة، أحدها
التي وقفنا أمامها طويلاً. "الأفران" في مكة وكثرتها، وأنواع
الخبز، ففي حين أن الأكل في نجد محدود والوجبات ليست منتظمة
غالباً، ففي مكة أمر الوجبات منتظم، ولكل وجبة ما يتلاءم معها،
وهناك أصناف يمكن أن تختار من بينها ما تشتهيه النفس أو يقدر عليه
الجيب.
وبهذه الملاحظة عن
الوجبات ينتقل بنا الدكتور عبدالعزيز الخويطر إلى مجال آخر غني من
مجالات ذكرياته في
المدرسة والدراسة، وزملاء الدرس، وأساتذة المواد. حيث "التحقت مع
أخي حمد بالمدرسة السعودية بالمعلاة، التي لا تبعد عن بيتنا أكثر
من مشي ثلاث دقائق، وقد أُلحقت بالسنة الثالثة تحضيري ـ الثالثة
الابتدائية اليوم،
كان من زملائي في الفصل : عمر فقيه، بسام المحمد البسام، محمد علي
بن صديق، عبد الرحمن مددين، سليمان طلاقي، سليمان معتوق، عبدالله
الضبيب، السيد عبدالله يحيى جفري، أحمد مخلص، علي هندية، شرف جمال،
أحمد نسيم، عبدالله ستر، معتوق شريف، معتوق جاوه، وكان "البرنجي"
الأول على الفصل عمر
فقيه وكنت "الإكنجي" الثاني، وبعد انتقالي إلى السنة الأولى
الابتدائية أصبحت الأول على الفصل،
ويتذكر الفتى مدرسيه ومنهم محمد محمود مرداد
الذي كان يدرسنا القرآن والتجويد، وكل ما أعرفه اليوم عن
التجويد هو مما تعلمته منه في تلك السنة، ولم يكن متقناً لدرسه
فقط، وإنما كان متقناً لتدريسه كذلك، وأستاذنا الثاني الذي لا
أنساه هو أحمد بن عبدالله حداوي، وهو فريد في تدريسه لمقرر السيرة
النبوية، وأعد حصيلتي اليوم في التاريخ هي من بقايا تلك القراءات
التي كان يقرأها علينا من أمهات كتب التاريخ
وخارج ورقات المقرر القليلة، وكان مدير مدرستنا علي جعفر
-رحمه الله - رجلاً مهيباً، لكنه محبوب، وكان مديراً ناجحاً،
وانتقل معنا إلى القلعة، عندما انتقلنا للثالثة ابتدائي يدرسنا
القرآن الكريم، ومساعده كان الأستاذ عبدالغني زمزمي، رجلاً حازماً
وإدارياً تنفيذياً مجرباً، ومن مدرسينا عمر حمام، الذي كان مدرساً
حازماً "يضبط الفصل" حتى ليشعر المرء فيه أنه ليس هناك غيره، وكنا
نحبه كثيراً، ومن مدرسينا السيد عبدالله شطا، وكنا نحبه حباً جماً
لأنه كان يمازحنا دون أن يفقد هيبته، وكنا نشعر أنه من أسرة كريمة
لحسن تصرفاته وحسن معاملته للطلاب. ولا ينسى الفتى
الشخصيات المساندة في المدرسة ومنها عم سلطان "بواب
المدرسة"، كان صديق الطلاب، يغطي على عيوبهم، فإذا زوغ طالب غطى عم
سلطان على تزويغه، وهناك "فراش المدرسة" وهو كذلك مراسلها، وهو
البشير بيده وسيلة الإفراح، وبيده خبر الحزن، وأهم ما يقوم به
متابعة غياب الطلاب، وكانت رؤيته بالنسبة للمخالف نذير سوء، وفي
مرحلة الطفولة والفتوة المتميزة بطلاب "مدرسة المشاغبين" كان
الطالب عبدالعزيز الخويطر حاضراً فيها، ظالماً أومظلوماً، فقد عوقب
مرة من أحد الأساتذة الذي عرف بعصبيته بغير ذنب اقترفه، بسبب وشاية
من زميل، لم يلبث أن رد عليه بوشاية مثلها فكان عقاباً بعقاب، ثم
يروي العديد من قصص شقاوة زملاء الدراسة في تلك السن المبكرة، ومن
ذلك ما فعله أخوه حمد الذي لم يكن يقبل ما يراه من أمور معوجة، فقد
ضربه أحد المدرسين مما اعتبره ظلماً، فأمسك مسطرة المدرس التي ضربه
بها وعض يده، فانقلبت الدنيا، ونشب عراك، وانتهى الموقف بما يبدو
أنه لوم الإدارة للمدرس، وبقشة أرسلها والدي ـ وكان مديراً للمالية
بمكة، وفي البقشة
مشلح وما إليه وصلح الأمر ومن بعدها صار حمد من أقرب التلاميذ لهذا
المدرس.
بعد إكمال الدراسة في المرحلة الابتدائية عام 1362 للهجرة، كان
أمام الخريجين: الالتحاق بالمعهد العلمي ومدة الدراسة فيه ثلاث
سنوات ثم فيما بعد زيدت إلى خمس سنوات، أو الالتحاق بمدرسة تحضير
البعثات. ومدة الدراسة فيها خمس سنوات، وبعد تردد اختار صاحب
الذكريات "المعهد العلمي السعودي"، وكان أساتذتنا في المعهد من
خيار المدرسين منهم: إبراهيم داود فطاني والذي- طال حديثه - عن
خصاله، وأدبه ونماذج من شعره، ومنه قصيدة تحاكي "البردة" في مدحه
صلى الله عليه وسلم، وأخوه حسين فطاني وهو كذلك أديب وشاعر كان
يدرسنا الأدب العربي وتاريخه، ثم ابتعث للدراسة في دار العلوم،
وكان يلقي بين يدي المغفور له الملك عبدالعزيز قصائد عصماء كلما
زار طلاب المعهد جلالته للسلام عليه في قصر السقاف، وإبراهيم بن
عبدالله السويل، وعبدالله عبدالجبار، وعمرعبدالجبار، وعبدالرؤوف
الأفغاني، ومحمد حلمي، وعباس أشعري.
ولا يمكن لدارس في مكة في تلك الحقبة إلا أن يذكر ويتذكر السيد
أحمد العربي مدير المعهد العلمي السعودي، ومدير تحضير البعثات في
جبل هندي، وكان رجلاً فاضلاً، وإدارياً ممتازاً وحازماً وكانت له
هيبة، وله تقدير من رؤسائه، ولا أدل على ذلك من وضعه مديراً
لمعهدين هما قمة التعليم في ذلك الوقت، كان شاعراً وخطيباً مفوهاً،
إذا ارتجل اشبع سامعيه مما هو يتحدث عنه، سمح الوجه، طلق المحيا
-رحمه الله- وكان معه كاتب أديب كذلك هو سراج خراز.
أما إبراهيم السويل، خريج دار العلوم، فكان ذكياً ومتميزاً في
دراسته، كان يدرسنا علم النفس ، ويبتكر أساليب جديدة في التدريس،
دخل الفصل يوماً وكتب على السبورة ـ الدحول ممتوغ ـ وطلب منا
طالباً طالباً أن نقرأها، فقرأناها ـ الدخول ممنوع ـ فقال: أنا لم
أكتبها كذلك، ثم قال درسنا اليوم "قوة الملاحظة ".
عبدالله عبدالجبار، كان يدرسنا التربية بقسميها النظري والعملي في
سنة المعهد النهائية، وكان متمكناً من عمله مثل بقية زملائه خريجي
دار العلوم، جاذبية درسه تأتي من أن المادة جديدة علينا ومهمة لنا،
ونحن نهيأ للتدريس فيما بعد،
ثم يصف لنا موقفه يوم قام بتدريس مادة المحفوظات كتدريب
عملي لزملائه من الطلاب، وكيف كان تجاوب الطالب حمزة بوقري
إيجابياً مع طريقته في التـدريس، وأخـذت النمـرة كـاملة، وأصـبح
حـــمزة -رحمه الله - بعد سنين زميلاً حبيباً، وكان يمن عليّ
دائماً بقوله : أنا الذي نجحتك، أنا الذي أنقذتك، ولم يكن أمامي
إلا أن أسلم، فقد كان صادقاً فيما قال.
وهكذا وجد الفتى نفسه وقد قضى ثماني سنوات في مكة، يعدد الدور التي
سكنها مع أسرته، متنقلين حسب وفرة المتاح من المنازل للإيجار، فقد
سكن في أجياد لبيت أظنه لصدقة كعكي، وسكن بيتاً في المسيال في
الطريق إلى المسفلة، وقريب من الطريق الوحيد الموصل إلى قلعة أجياد،
وسكن بيتاً في الصفا بجوار بيت الشيبي وفي الطريق إلى البيوت في
جبل أبي قبيس، وكان زميلنا يحيى شاولي يسكن هذا الجبل، وكنت
أحياناً أذهب لزيارته ونستمع عندهم إلى بعض العازفين على العود
والكمنجة في غفلة من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الذين يستصعبون الصعود إلى الجبل، وسكنا في الغزة بيتاً ملاصقاً
لبيت سمو الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، أمام زقاق "ربع أطلع"،
وبجوار الزقاق دكان ـ حمزة بصنوي، لديه ماطور وما أقلها حينئذ،
يملأ به بطاريات السيارات والرواديو، وسكنا في بيت في شعب علي
لصدقة عبدالمنان، وكان من ميزته قربه من الحرم والسوق، وقد تركت
مكة إلى مصر والأهل فيه.
والشيء بالشيء يذكر في حديث الخواطر والذكريات، ممن ساكنهم كجيران،
والمفارقات التي رطب بها في العديد من فواصل الكتاب، ففي أحد
البيوت التي سكنها وجد بيتاً كتبه ساكن قبلهم على الجدار:
نزلنا ههنا ثم ارتحلنا
وهكذا الدنيا نزول وارتحال
وفي هذا البيت الذي سكنه أول مرة يتذكر ابن خالته صالح بن إبراهيم
الضراب، وكانت والدته تنتقده في بعض الأمور التي لها علاقة
"بالموضة " عند شباب تلك الأيام، مثل ـ الكبك ـ بالكم، لياقة في
الثوب، وثوب اللاس وطوله، وقصـــــة الشعر ـ تواليت ـ وهي رحمها
الله من جيل قديم يجفل من هذه الأمور.
ثم تحدث في كتابه عن مفارقات اللهجة العامية في القديم، ويروي قصة
عن العم سليمان الطجل الذي سكن بجواره في شعب عامر، فقد "جاء رجل
من عنيزة معتمراً أو تاجراً فرآه العم سليمان فدعاه للعشاء، وبعد
صلاة العشاء جاء الضيف على الموعد، ودخل حوش المنزل ونادى : أبو
صالح، فرد أبوصالح : اطلع، فقال الضيف : طلعت كبدك وكبد الذي يقبل
دعوتك، فأدرك العم سليمان الخطأ وأرسل في إثره، فقد نسي أنه لا
يعرف لهجة أهل مكة، فاطلع بلهجة أهل عنيزة ـ اخرج، وكان عليه أن
يقول ـ ارق.
وها نحن
نقترب من نهاية عطرة لكتاب الذكريات خصصها للحديث عن الحرم المكي
الشريف، وأفضاله الكثيرة، الروحانية التي تحلق بالإنسان في أجواء
البهجة، ولأنه المحل الأول المضاء بالكهرباء، لهذا فإن إقبال الليل
لا يمنعنا من المذاكرة فيه، وفيه تعرفنا على أشخاص توطدت العلاقة
معهم، ممن كانوا يأتون للحج مع الملك عبدالعزيز ومنهم : عثمان
الناصر الصالح، وعثمان التويجري، ومحمد العبداللطيف القضيب، وموسى
الكليب، وصار لنا أصدقاء من أهل الحرم من أغوات وكناسين وزمازمة.
ولابد من وقفة عند باب السلام "وهو معلم ثقافي ومن أهم أبواب
الحرم، وفيه بضاعة الفكر من كتب وقرطاسية وأقلام، كما أن مظهراً
آخر، هو "حمام الحرم" مما يدهش له القادم لأول مرة من نجد، وهو يرى
في كل مكان، وأكله محرم، وله أوقاف تدر مبالغ تُشترى بها حبوب له.
أما الحج، فقد كان صاحب الذكريات يحج سنوياً مع والده، وكان الحج
كله على الجمال إلا قليلاً ممن يحج على رجليه أو بالسيارات، وكنا
ممن يحج بالسيارة، ولم يكن بالمشـــــاعر زحــــام لقلة عدد
الحجــــاج 3500 في بعض الســــنوات، وكنت ترى النــــاس في مني
غير متزاحمين، ولم يكن بين مخيمنا بجانب مسجد الخيف والجبل خيام
حجاج، وكان الناس في عرفه لا يضيعون لقلة الازدحام وفي النفرة يحدث
ازدحام طفيف تسببه "الشقادف" والجمال، وكنا نبـــقى يومــاً
إضافياً في مني حتى لا نزاحم الناس في الدخول إلى مكة، لأن المدخل
إليها ضيق من جوار قصر السقاف في المعابدة "أم عابدة".
وفي مكة ظاهرة "الخليف" ممن يتخلفون عن الحج ، ويقال إن بعض
الحارات تصبح في أثناء الحج موحشة، وإن السائر فيها من الرجال في
خطر، والخطر عليه يأتي من النساء، لأن النساء يأخذن حريتهن على
أساس أن الرجال كلهم في الحج، فإذا فوجئوا برجل انقضوا عليه، يحدث
هذا في بعض الأحياء.
أكمل الشاب وزملاؤه مرحلة الثانوية، متخرجاً من المعهد العلمي
السعودي، وفتح الملك
عبدالعزيز - رحمه الله - باب الابتعاث للطلاب، امتداداً لبعثات
سابقة كان فيها السيد أحمد العربي، السيد محمد شطا، أحمد عبدالغفور
عطار، حمد الجاسر. فسافر صاحب الذكريات ضمن البعثة للدراسة في
القاهرة، وبهذا انتهى هذا الكتاب المخصص أساساً لذكريات مكة
المكرمة
المــرجــــــــــع:
وسم على أديم الزمن ـ
لمحات من الذكريات ـ المؤلف : الدكتور عبد العزيز بن عبد الله
الخويطر ـ ج 4 ـ ط أولى 1427 للهجرة ـ 2006
م
.
|