الاهتمام بالشرق بدأ بداية مستوحاة من الفكر الأوروبي

أوائل جسور الاتصال بين العرب وأميركا

المؤلفات عن العرب ساعدت في إشاعة جو من الاهتمام وحب الاطلاع بين الجمهور الأميركي عنهم.

 

§       أول تاريخ أميركي مهم حول العرب قد نُشر عام 1830 بعنوان حياة محمد»

§       ردد أوائل الكتّاب الأميركيون أفكار نظرائهم الأوروبيين وآراءهم حول العرب

§       المشرق العربي هو  تاريخ العالم، البقعة الأصلية لنافذة الإنسان نحو الغامض

§       الاستشراق الأميركي عبّر عنه الكتّاب الخياليون والمفكرون والشعراء في بداية المطاف.

 

ورثت أميركا عن أوروبا كامل أدبياتها (وما رافقها من أفكار ومفاهيم وتصورات) حيال الشرق العربي الإسلامي، تراثه وإنسانه وثقافته، تلك الأدبيات التي تراكمت منذ القرون الوسطى وعبر عصور التنافس والصراعات العسكرية (الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية والأندلسية خاصة) حتى وقت اكتشاف أميركا وما تلاه من هجرة أوروبية واسعة للاستقرار على أراضي القارة الجديدة. وتعكس التسمية «إنكلترا الجديدة»، التي أطلقت على الأقاليم الساحلية الشرقية الأولى من أميركا الشمالية، تلك التي شهدت استقرار المهاجرين الأوروبيين الأوائل طبيعة التركيبة الإثنية والثقافية الغالبة.

 

وإذا كانت هذه المجاميع البشرية الوافدة إلى هذه الأصقاع الشاسعة بدون هوية ثقافية قومية تخصها آنذاك، فإنها عمدت في بداية الأمر إلى استعارة الذاكرة الثقافية والإرث الحضاري للأمم الأوروبية التي جاء منها المهاجرون، خصوصًا قبيل انفلات أميركا من السيطرة الاستعمارية البريطانية عام 1763. وإذا كانت التواريخ التي خطها همفري بريدو وسايمون أوكلي وجورج سيل Sale حول العرب والإسلام قد خدمت تاريخيًا كحلقة وصل بين تراث أوروبا القرون الوسطى الملبد بالغيوم من ناحية أولى، وبين كتابات الاستشراق الجديد والأكثر انتظامًا قبيل عصر الثورة الصناعية وإبانها من ناحية أخرى، فإنها وظفت مشربًا وخزينًا أوليًا للباحثين والمستشرقين الأميركيين الأوائل، ناقلة إليهم، من بين عناصر كثيرة، أغلب الأخطاء والانطباعات المشوبة بالمفاهيم غير الصحيحة حول العرب والمسلمين. لهذه الأسباب لا يمكن قط الادعاء بأن الاهتمام الأميركي بالشرق العربي الإسلامي قد بدأ بداية جديدة مستوحاة من التجربة المباشرة، نابذًا الترسبات النفسية والعاطفية التي جرفها إليه الفكر الأوروبي.

لذا، فإن أول تاريخ أميركي مهم حول العرب قد نُشر عام 1830 بعنوان: «حياة محمد»، وقد خطه رجل دين أميركي اسمه بوش وهو مدون «كان يتبع خطى كاتب السيرة الأوروبي همفري بريدو». ومن ناحية ثانية، ردد أوائل الكتّاب الأميركيون أفكار نظرائهم الأوروبيين وآراءهم حول العرب، حياتهم ودينهم، عاكسين أنماطًا فكرية وذوقية كانت شائعة في أوروبا. أما مسألة الارتكان إلى «ألف ليلة وليلة»، كوثيقة تاريخية واجتماعية تعبر عن الحياة العربية، فإنها وجدت تعبيرها المبكر في أميركا عندما ألف فرانكلين أول «حكاية عربية» في وقت كانت فيه مثل هذه الحكايات المستوحاة من هذا العمل الفولكلوري ذائعة في أوروبا عصر التنوير. حتى كتاب واشنطن إرفنغ Irving، الذي يعد أبا الأدب الأميركي، المعنون بـ«الحمراء» هو من نتاج ذلك الاهتمام الكبير بـ«ألف ليلة وليلة»، ذلك الاهتمام الذي طبع كتابات عدد مهم من المفكرين، والنقاد، والشعراء البريطانيين عبر القرن التاسع عشر.

الأدبيات المتاحة: العقل الأميركي بين المطبوع والتجربة المباشرة

في دراستها الرائدة لاهتمام الكاتب والشاعر الأميركي هيرمان ملفل تمكنت الكاتبة دوروثي فنكلشتاين من أن تقدم صورة عن التواريخ والمؤلفات المتصلة بالعرب وحضارتهم، تلك التي كانت متاحة في عدد من المكتبات الأميركية في أثناء مرحلة حياة ملفل (1819-1891). فإضافة إلى توفر «ألف ليلة وليلة»، كانت هناك ثمة ترجمات للقرآن الكريم. كما أن القارئ الأميركي المثقف كانت متاحة أمامه مؤلفات مهمة بقدر تعلق الأمر بالعرب وحضارتهم مثل «المعجم التاريخي» لـ«بايل» و«تاريخ الجزائر» لـ«مورغان» و«تاريخ العرب» لـ«أوكلي» الذي مر ذكره، فضلًا على «تاريخ الحملات الصليبية» لـ«تشارلس مل» و«التاريخ الكوني» لمؤلف مجهول. ومع هذا ينبغي أن لا تغيب عن بالنا تواريخ عامة شاملة تناولت الماضي العربي بضمن سياق كوني، ومنها كتاب «غبون» «انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية» الذي تناول الفصل الخامس عشر منه شخصية الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وأحوال العرب قبل الإسلام وبعده. ومن ناحية أخرى، كانت كتابات كبار المستشرقين الأوروبيين تصل أميركا حال طباعتها، حيث وجدت كتب «دي ساسي» و«هامر-برغستال» طريقها إلى يدي القارئ الأميركي في وقت مبكر من القرن التاسع عشر.

وإذا كانت المؤلفات التي مر ذكرها قد ساعدت في إشاعة جو من الاهتمام وحب الاطلاع بين الجمهور الأميركي من خلال الاتصال غير المباشر وعبر الصفحة المطبوعة، فإن ازدهار حركة التنقيبات الآثارية وتوسعها في أودية الرافدين والنيل وفي فلسطين وغيرها من بقاع الوطن العربي قد أججت الرغبة في ارتياد المشرق العربي، بحثًا عن الكنوز الآثارية وتقصيًا لقصص الحضارات الدفينة في هذه البقاع العتيقة. وكان كتاب «أوستن ليارد» الموسوم بـ«نينوى وبقاياها» واحدًا من أكثر المؤلفات تأثيرًا في هذا المجال عبر أوروبا وأميركا على حد سواء.

لم يكن هذا الكتاب مجرد تقرير علمي عن تقنيات مؤلفة في هذه الأصقاع، بل كان سببًا مباشرًا ليقظة استشراقية واسعة في الثقافة الأميركية، يقظة ترنو إلى استكشاف ذلك الإقليم المترامي العتيق وارتياده، والذي تقص كل زاوية منه جزءًا من قصة الإنسان الأولى، فضلًا عن كونه مسرحًا للأحداث المدونة في العهدين القديم والجديد. فكان المشرق العربي، على رأي الباحثة فنكلشتاين، هو «أور تاريخ العالم Ur، البقعة الأصلية لنافذة الإنسان نحو الغامض» وسوية مع المواد والمكتشفات البابلية والفرعونية، الكنعانية والفينيقية، التي أخذت أنباؤها تنهمر على جمهور القراء الأميركي، تزايدت الرغبة بـ«الحج» إلى ما يسمى بإقليم «الجغرافية المقدسة» رغبة في حل الإشكالية التاريخية لظهور المسيح وعودة نوستالجية إلى الينابيع الأصلية للأديان المنزلة الثلاثة. وهكذا جاءت كتابات «الحجيج» من المرتحلين، أمثال واشنطن إرفنغ، وهيرمان ملفل، ومارك توين من بين آخرين، لتعريف الجمهور الأميركي، من خلال التجربة المباشرة، بعالم قديم وقاصٍ يزخر بالقصص التوراتية وبأحداث بدايات الوعي الإنساني. وبهذا حلت التجربة الأميركية المباشرة، على أيدي المرتحلين، بديلًا عن التجربة غير المباشرة التي كانت تصل إليهم «معادة الاستيراد» عبر أوروبا.

إلى جانب رجال القلم والآثاريين ورجال الدين التبشيريين، كان هناك السفراء والتجار وحتى الجند، ذلك أن الدوافع الروحية والمعرفية والرغبة بالعودة إلى دفء الأراضي المقدسة لم تشكل كامل صورة بواكير الوعي الأميركي بالعرب وبأرضهم. لقد سبقت السفن التجارية، ومن ثم العسكرية، الأميركية هؤلاء المرتحلين إلى السواحل العربية، حيث أحداث ما يسمى بـ«حروب الساحل البربري» (شمال إفريقيا 1815-1785) التي تركت آثارًا نفسية واعتبارية عميقة في الذهنيتين الرسمية والشعبية في أميركا.

الماضي العربي: جزءًا من الأسطورة الأميركية

لقد ساعد غياب التطلعات لبناء إمبراطورية وقتذاك على تبلور اهتمام أميركي تخيلي يختلف عن الاستشراق الأوروبي، ويتباين مع توظيفاته في المؤسسات التجارية والإدارية. لقد ظهر الاستشراق الأميركي تأمليًا عبّر عنه الكتّاب الخياليون والمفكرون والشعراء في بداية المطاف. فإذا ما انطلق المرتحلون الأميركيون الأوائل من أميركا «بيوريتانية» شديدة التدين إلى الأراضي العربية المقدسة بحثًا عن شيء من التيقن الروحي وحبًا في تأمل ما يسمونه بالعالم القديم، فإن بعضهم الآخر، وهم من الكتاب والمفكرين الأحرار، حاول إيجاد مكان لهذا العالم العربي القديم في بناء الأسطورة الأميركية الأولى في تاريخ الثقافة الأميركية، وهي أسطورة كولومبس: «الرجل الأميركي الأول».

لقد انطلق كولومبس إلى القارة الجديدة من شبه جزيرة إيبريا (إسبانيا والبرتغال)، نصف الأوروبية ونصف العربية، بهدف ولوج الشرق (الهند) عبر طريق جديدة لم يسبق لأحد أن مخرها عبر المحيط الأطلسي (بحر الظلمات، كما كان يسمى)، وبدلًا من الوصول إلى الهند، حط كولومبس بقدمه لأول مرة في تاريخ البشرية على تراب «العالم الجديد»، وبكلمات أخرى، بدت «الأندلس»، وهي نقطة التقاء الشرق القديم، «العرب، الإسلام، الساميين» بالغرب القديم «أوروبا، المسيحية، الآريين» وكأنها بلورة لتزاوج نصفي العالم القديم (الشرق، آسيا، إفريقيا)مع (الغرب، أوروبا) على طريق ولادة «العالم الجديد» (أميركا).