|
||||||||
الحج مسافة ممتعة بين الإيمان.. والغفران في الحج بياض يشمل كل شيء وعبادة تمنح الإسلام قوة.
وكأنها كتبت على بطاقة دعوة غامرة من رب رحيم، دعوة لقضاء رحلة إيمانية في رحاب بقعة طاهرة، بصحبة الأجر والثواب، وتحت رعاية التوبة والغفران. راحلتها الاستطاعة، وزادها اليقين، وخارطة طريقها سنة رسول كريم. لبيك اللهم لبيك في لحظة عزم، وساعة قدرة، يقرر أحدهم الانضمام إلى رحلة، طالما قرأ عنها، أو رأى أحداثها متلفزةً، وهو في عجب دائم من حالها.. فتاريخ الفرح بموسمها باقٍ منذ أن أشاع الرسول، عليه الصلاة والسلام، أمرها قبل أربعة عشر قرنًا، والأكثر عجبًا أن سمتها الفضل والعطاء، عنوانها ترحيب عظيم، باسم الداعي سبحانه وتعالى، فكانت الهيبة والإجلال من نصيب كل من احتوته خيمة «ضيوف الرحمن». ولأنه يدرك يقينًا أن الحج سفرٌ إلى الله، جعل الوجهة إليه سفينة تحمل من كل خير اثنين، الصبر والاحتساب، والعمل والإتقان، والخوف والرجاء، ولربما اجتهد في أن تكون السعادة بالجهد هي الدفة التي تعين سفينته على اختراق عباب الخطايا نحو مرفأ المغفرة والصفح العظيم الذي وعد الله، سبحانه وتعالى، كل من لبّى الدعوة.. وأحسن القدوم.. وعلى لسان المصطفى، عليه الصلاة والسلام، كانت البشرى حين قال: «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه». إليك إلهي قد أتيتُ ملبيًا فبارك إلهي حجتي ودعائيا قصدتك مضطرًا وجئتك باكيًا وحاشاك ربي أن ترد بكائيا عند الوصول لأول محطة في هذه الرحلة المباركة، يلبس المرتحل حسن النية، والطاهر من الثياب، ولعلّ من النقاء أن يكون الأبيض نصيب الرجال، الكل منهم كاشف لرأسهِ، ساتر نفسه بقطعتين منفصلتين. وللنساء حرية أكبر في اللباس، وسقف حريتهن هو الاحتشام والإقبال بصفاء سريرة وحسن مظهر. الكل في هذا المكان المسمى بالميقات أصبح متشابهًا، وهو من قبل غاية في الاختلاف مع غيره في لون ثيابه وطريقة ارتدائه لها. هنا تكون بداية الائتلاف، وتساوي الأجناس، الجميع لا يملك سوى صحيفة أعمال ولباس أبيض، ووجهة واحدة نحو مشاعر مقدسة، تنتظر أن يطاف بها، ويُسعى بينها، ومناسك إن أتمها ستنفض عنه بتعبها كل ذنب قد كان. نحو مكة... وشعابها.. في الشعائر الدينية الأركان ثابتة، وقد تتعدد صفات تأديتها، وسمة الإسلام اليسر والتيسير، وقبول كل عمل داخل إطار تأدية المنسك. والحج هو المغادرة نحو مكة.. وما تحويه.. في أشهر معلومة، وأيام معدودة. وقد بدأ الرسول، عليه الصلاة والسلام، حجه بالذهاب إلى الحرم الشريف والطواف بالبيت العتيق، ثم السعي بين الصفا والمروة، ويكمل عمرته لينطلق بعدها إلى مناسك الحج. والقادم من أحد أبواب البيت الحرام، سيجد في استقباله طيورًا تحلق بالقرب من الجباه، ولولا الأمان لما كان هذا الحمام يحوم في طمأنينة، وكأنه يسكت كل قلق قد يعبث بالسكينة والوقار الواجبة في هذه البقعة. وسيلحظ المتعبد كيف أن الطواف مبهرٌ.. بين الجموع، وحول كعبة أُلبست مخملًا أسود، وحيكت بالذهب، تتباهى بوجود حجر أسود وضع في خاصرتها، لها عبق طاهر، شذاه من روح الجنان، تمر به الأيدي ملتمسة عطرًا يخبرها أن المكان يستحق العناء. ومن مرتفع بالقرب اسمه الصفا وإلى المروة سعيًا سبعة أشواط، كما كان الطواف سبعةً ستكون مرحلة أخرى للاستمتاع، وتغذية للروح، وشحذًا للذاكرة باسترجاع قصة زوج إبراهيم وابنها إسماعيل... وتحسس الأرض التي كانت سببًا في وفود كل هذه الملايين من أصقاع الأرض كافة. ويفصل بين السبعة طوافًا والسبعة سعيًا ركعتان تتجلى بهما الرحمة وعظم العمل، وكيف أنهما ستكونان بمنزلة جرعة منشطة لما سيأتي. نهار التروية، والظمأ للعلاقات الودية في الثامن من ذي الحجة سيكون النهار مختلفًا، اللباس فيه والأقوال والأعمال واحدة.. تبدأ التلبية، ويبدأ المسير نحو« منى». الجموع في مظاهرة إيمانية من نوعها.. يهتفون بــ«لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك» يصلون الجمع والقصر للصلوات الرباعية.. يستمعون إلى بعضهم.. بالكثير من الشفافية، والحب، والرغبة الصادقة في المنح والعطاء، يصبرون على الزحام، والعتام. لهم هدف واحد هو الفوز بالغفران، ولا يمنعهم الانشغال بالدعاء عن التعرف إلى الآخر، تراهم يتبادلون الحضارات في جلسة واحدة، ويستبشرون بالوعود لشراكات قادمة فور انتهاء فترة التحريم لكل العقود. يحدث شيء عجيب بين تلك الأرواح، فهي تتحسس المنح أينما كان، وتسعى للعطاء حيثما وجد. في هذا النهار يكون الحجاج جنبًا إلى جنب، يكتشفون عن بعضهم ما كان مختبئًا خلف حدود سياسية وتضاريس جغرافية، ومقاطعات جعلت المسافات تطول، والفجوات تكبر، والألسن تغترب، والقصص تتنوع. وعندما يجن الليل يهجع الجميع إلى الراحة فالغد يوم له طقوس تستوجب التأهب والمبادرة. الحج عرفة، والمبيت بمزدلفة النزول إلى نمرة بعد إشراق شمس التاسع من ذي الحجة، هي الغاية المنتظرة، فالحج عرفة. فمع الضياء المنهمر، يبدأ الابتهال، والدعاء، وقراءة القرآن.. التكبير والتسبيح لله شيء من أركان هذا اليوم، وحمده والثناء على كرمه بعض من واجباته، والإلحاح في طلب المغفرة فريضة، والبقاء حتى المغيب فضيلة. وعند رحيل الشمس.. تبدأ الوجوه في استقبال الطريق المؤدي إلى المزدلفة، حيث المبيت، يفترش فيه الحاج الأرض، ويلتحف السماء، وكأنه يخرج عن المألوف من الترف، والسكن إلى جدران وسقف، وأثاث وهدوء، وكل هذا رغبة في إتمام الرحلة على وجه يرتضيه هذا الركن الخامس من أركان الإسلام.وتحقيقًا لمبدأ التجرد من مظاهر الدنيا. في مزدلفة.. يحلو غفو المسلم بجانب أخيه المسلم، على أرض متقاربة، وتحت سيطرة فكرة واحدة، وهي جمع حجارة صغيرة ليوم غد. وكم من الأحاديث القصيرة تداولتها الأيدي بين الاحتفاظ بحجر وإفلات آخر، وكم من صور الصبر والأناة والمنح قد نراها في هيئة عطاء لا ينتهي، وبذل لا محدود. جمرة ورميّ، ونحر للهديّ نحو الجمرات، يكون اليوم العاشر، وبعد انقضاء الرمي، واستيعاب الحاج لفكرة قذف الشر بعيدًا، وبغضه بهذا الرمي، ونحر الهدي، ثم التقصير، ولبس الثياب والتطيب، يكون قد حلّ العيد بـأجمل حلة، وأبهى مكانة. وفي العيد تبدأ العادات والتقاليد في الامتزاج، وكلمات التهاني في التناثر بين المجتمعين. الكل فرح بالتحلل الأول، وبشعور الرضا الناتج عن إحساس القبول برفع الحرج، وترك البقاء في ثياب واحدة دون تطيب أو تزين. الجميع يبادر بالتهنئة، وتقديم الحلوى وبعض من أضحيته. وبعد انتهاء أيام التشريق، وإتمام طواف الوداع، يتخلص كليًا الحاج مما حرّم عليه، وامتنع عنه في هذه الفترة، ويعود إلى التمتع بما حلل الله له من متع الدنيا. في العودة سفر إلى العالم لا تنتهي الرحلة بتوديع مكة، ولن يكون وداع الأحبة في رحابها فراقًا، بل كل القلوب التي تآلفت كسبت ذخائر قوة، تجعل من العالم الإسلامي وحدة، كاملة، تقف في وجه الظلم، والاعتداء. العودة إلى الأوطان بعد هذا الموسم المبارك سيكون عودًا حميدًا، شابًا فتيًا، يحمل بين جنبيه حبًا وإكرامًا لكل ما جال في النفوس من مشاعر، وما حصدت العقول عليه من معرفة في حمى الإيمان بمكة المكرمة. ستكون العودة تذكرة دخول إلى عوالم أخرى، وتواصلًا بهدف الحصول على الأجمل والأرقى في كل المعاملات، سواء كانت دينية أو دنيوية. العودة أشبه بالأم الحبلى، يرتقب المنتظرون منها ولادة علاقات طيبة، وثقافات عالية، وارتباطات أكثر جدية، وأكبر حميمة بين المسلمين كافة، ليُتعلم منها كيف يُقبل بالرأي الآخر، ويُحترم المخالف، ويُبنى سور عال حول الجدل، ويبقى الجميع في دائرة الحوار والمنطق والعقل. الحج طريق معبد نحو التعلّم من الخطأ، وهو مسافة ممتعة بين الإيمان، والغفران. |
||||||||
|
||||||||