الشتاء

غيم ومطر.. وحب منهمر

 

للبرد عذبة من الصفات وتسكن تفاصيله كل العذابات!
§       ليالي الشتاء فاتنة ومليئة بالهدايا
§       التفاصيل الهاربة من الصقيع تبحث عن دفء
§       البيات الشتوي لم يأت من فراغ!
§       خيوط شمس دافئة.. سويعات قصيرة فيها كل الحياة

 

الشتاء فصل سنوي ننتظره بمشعر متباينة بين الفرح والترح، كل من تذوق فيه ارتجاف فكيه، وجمود أطرافه، وزرقة شفتيه، ومن لم يتذوقته كوجبة دسمة كاملة تراه يشتاق إلى التعرف إليه، وقد يصل به الحال إلى مناداته كما فعل هذا القابع في بلد سواحلي لايعرف سوى نسيم عليل شتاءً وقيظ حارق صيفًا.. فقال مناجيًا البرد: 

هلا مررت علـى ديـاري أيهـا البـرد البخيـلُ
حيث الشموس تكدسـتْ والأرض يخنقهـا الذبـولُ
والماء في كتـب المـدارس لا يغادرهـا خجـولُ
والنخـل واقفـةٌ ولكـن شـف أحشاهـا النحـولُ 

يقفز«بدر» من مكانه متجهًا نحو النافذة، وفي عينيه دهشة لا توارى، وبين شفتيه أسئلة لا تنتهي. ما هذا الصوت؟ ولماذا تلونت السماء قبل قليل؟ لا ينتظر الإجابة من أحد، فلقد أخذ لبه مايختبئ هناك.

ذهب مسرعًا لفتح النافذة، وبعناء شديد يحصل على ما أراد، وقبل أن يلتقط أنفاسه فاجأته ريح باردة، رشقته بزخات من مطر وبللت ملامحه المرتعبة، شعر بها تداعبه فتبسم وأغلق النافذة وعاد إلى حيث تجتمع الأسرة ليمطرهم بوابل من الأسئلة.

أخذ مكانه وقرب يديه الصغيرتين إلى المدفأة محاولًا تقليد إخوته الكبار، وقال بطريقة شقية: هل سمعتم صوت الانفجار قبل قليل؟

ضحك من حوله، ولتخرجه والدته من حيرته أخبرته بأن ذلك هو الرعد ورفيقه البرق الذي غير لون السماء، وهذه تباشير المطر، قال بفرح: نعم المطر.. تعرفت عليه قبل قليل ولعبنا معًا.

انشغل بعدها هذا الصغير المختبئ تحت لباسه القطني الدافئ وكنزته الصوفية بلعبته الإلكترونية، وترك وراءه زوبعة شهية اسمها «الشتاء..غيم ومطر... وحب منهمر».

صقيع.. وذكريات

كل من يعرف «الشتاء» يدرك أنه موسم الألفة، فمن لا تراه خلال العام كثيرًا تجده متحلقًا مع الأحبة حول شراب ساخن، وقبس متقدة.. يتداول مع الجالسين حوارًا بنكهة الحنين إلى ليال شتوية مضت، وإلى أزقة بللها ماء السماء، ويحلو له الحديث معهم عن غيمة ارتدت أجمل ثيابها وسارت بموكب عظيم لتظلل الأرض، لتهبها ضبابًا حنونًا يعانق الأبنية والأشجار والطرقات. وعن صبح نديّ لا يبدأ دون أن يُقبّل برقة الوجوه والأزهار والشرفات.

ولأن الليل هدية الشتاء فلابد أن تطال المسامرة.. الحديث عن.. ليالي السهر، ومناجاة القمر.. وقصائد الشجن والحنين إلى خيمة.. و«دلة» قهوة عربية واقفة بحياء على طرف مدفأة تحتضن حطب السمر الملتهب، ولذيذ شراب من زنجبيل فائح، وبانتظار الفجر تتابع الحكايات لتروي قصصًا عن الماضي، تباهي به الحاضر، وتتكهن بمستقبلٍ جميل. ولتخبرنا كيف هي القلوب يدفئها القرب، ويوقدها الهجر.

ولا يكتمل الليل إلا بلذيذ الشواء من الصيد أو من سمين المراعي، وبكل تلك الأغطية التي تحتمي بها الأجساد، والكثير الكثير من اللباس المستعار من رفقاء الحياة من تلك الدواب المتشحة بالفراء، والصوف، والفاخر من الجلود، فذاك غطاء للرأس، وهذا قفاز لليد، وآخر رداء كامل يحتضن التفاصيل الهاربة من الصقيع، فيهدئ من روعها، ويبقيها آمنة لديه.

نهار الشتاء.. رونق وفتوة

كل عاشق للدفء تحت اللحاف الوثير، يجد من الصعوبة جدًا التفلت من هذا الفراش الحميم، وتسيطر عليه كثيرًا فكرة البيات الشتوي الكامل كذاك الذي يعيشه النمل والدببة وتنعم به السلاحف.فيظل مغمضًا عينيه، ساندًا رأسه إلى وسادته لا يمل الحلم، وترديد ماذا لو ادخرنا مؤونة أشهر البرد وبقينا مختبئين؟ يوقظه الواقع ويخبره أن نهارًا عذبًا ينتظره بالخارج.. فلا يمكن مضاهاة النهار في فصل الشتاء، لله دره.. نسائم باردة.. تداعب خيوط شمس دافئة.. سويعات قصيرة لكن فيها كل الحياة.

مراسم استقبال

يأتي الشتاء هذا الضيف السنوي بعد أن يرسل رسله من رياح شمالية وأمطار.. إلى البلاد كلٌّ بحسب تضاريسه وملامح أرضه. فنحن هنا في السعودية للشتاء معنا ألوان وأطياف مختلفة، فأرضنا واسعة وفضاءاتنا شاسعة. وكما أننا وطن يوحدنا شعار التوحيد فيكاد «البرد». يتوحد في معظم مناطقنا، ويغلب عليه صفة الشتاء الصحراوي.. المتخم بصقيع الليل.. والمشبع بشمس غامرة لا تفارق السماء غالبًا.

ومن الصحاري إلى المرتفعات المترفة بالسيول.. إلى السواحل والمنحدرات المعتدلة. كل منها ينعم بشتاء مختلف.. ولكل صفته ومدته، وطقوسه المعترف بها.

وبين كل شتاء وشتاء.. تتدفق الأمنيات.. بمرور رشيق لهذا الفصل المهيب.. ويكثر معظمنا من لعل وليت, فحب المطر لا يغادرنا.. ورجاؤنا لا ينقطع بأن نرى ثلوج الدول العربية تغمر جبالنا وتلالنا ولو لمرة واحدة.

سيظل الشتاء ضيفًا له هيبة القادة البواسل، فهو يأتي ولا يمكن لأحد أن يتجنب أن ينزله غير منزلته ويحرص على مصافحته بحذر، والحذق هو من استطاع إعلان المهادنة ورفع راية السمع والطاعة، وأناخ كل ناقة له عند بابه. لأنه عنيد.. ويضرب بيد من «ألـم» لكل انتحاري يقف في وجهه ويتعامل معه على أنه فصل سهل الهزيمة.. فلا يقدم في مراسم استقباله كما يجب أن يُقدم.

ولأننا نهوى السلام والفرح فيجب أن نمارس المهاودة ونستعذب اللباس الشتوي الثقيل، ونمتطي صهوة المأكولات المنجية من الهلاك من تمر وسمن وبر، لنكون جنودًا متأهبة لمواجهة أي ثورة غضب من برد لا يعرف المساومة. ولا يمكن إهمال زيارة المشروبات الساخنة لأجوافنا لتوطيد العلاقات الجسدية بالعلاقات الشتوية الصارمة.

وفي مجتمعنا تعلم الجميع كيف يكون الغذاء دواء وطوق نجاة.. وكما تعلمنا من تراثنا كيف نحمي الأرض، تعلمنا، أيضًا، كيف نحمي أجسادنا.. وارتبطت معظم أطعمتنا الشهية بطبيعة الفصل السنوي الذي نعيشه، وفي الشتاء لا يمكن إلا أن يحضر «المحلى, والعصيد, والحيسة» كوجبة موسمية، وأخرى أطعمة صديقة لا تفارقنا طوال العام مثل: الجريش, والقرصان, والمرقوق، والمعمول، والكليجا.. ولا ننسى إرفاد مقاومتنا بالكثير من الحساء واللحوم.

وكما أن للبرد عذبة من الصفات فله عذابات.. يعرفها المرضى والجوعى.. والعراة.. والمشردون. والفقراء فهذه المجموعة مضطهدة في دولة الشتاء الدكتاتورية، فهي خاوية اليدين، قليلة الثياب، شحيحة المطعم والمشرب، لذلك لا تستطيع المجابهة، وليس لها حيلة في رد كيد الزمهرير وأعوانه.. ولأن الفقر والتشرد ظواهر لن تنعدم إلا بانقضاء الحياة، وجب على كل مقتدر إعانة كل محتاج.. لعل وعسى تحصل المصالحة الكبرى.. وينعم الجميع بليلة شتاء شهية.. ونهار مشمس لذيذ.

حبات بردٍ

قال عمر، رضي الله عنه: «الشتاء غنيمة العابدين»، وقال ابن مسعود: «مرحبًا بالشتاء، تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام».