|
||||||
وحدها تجعل للبرد فرحة النـار فـاكهة الشــتاء فرصة للقاء حولها والسمر والأنس بدفئها.
عادة في مثل هذه الأيام عند دخول طالع الموسم الذي يتوسط الخريف تجتاح الكل رغبة ملحة في البحث عن الحطب، وكل ما يمت لذلك بصلة، ليشعر الكل بالدفء مع قرب حلول فصل الشتاء. تعلّم الإنسان الأول إشعال النيران عن طريق جذوة من اللهب كان يأتي بها من حرائق الغابات التي تتسبب بها الصواعق أو البراكين ثم تطورت مفاهيمه، وصار يبتدع الجذوة أو الشرارة عن طريق قدح صخرة بصخرة, أو حك الأعواد الجافة بعضها بعضًا. من منا، أهل الخليج، لا يعرف تلك المتلازمة الحكوية لأسطورة «الهلالات» أو بني هلال، ومن منا لم يخطر على باله ذلك البيت العامي الشهير لدغيم الظلماوي عند رؤية الحطب والنار: يا كليب شب النار يا كليب شبه عليك شبه والحطب لك يجابي ولا نفتأ نردد هذا البيت كلما اجتمعنا حول النار، وتسلّل إلى أنوفنا دخان الغضى أو الأرطى أو السمر. ومن طريف ما يذكر أن الدخان عادة يتجه صوب الشخص الأوسم أو الأجمل، كما يعتقد بعض العامة، والأرجح أنها دعابة لا تخلو من الختل أريد بها أن يلزم الإنسان مكانه حول النار دون أن يورط به غيره. والحطب يأتي على عدة أنواع أشهرها في جزيرة العرب الغضى وهو من جذوع شجر الغضى المجفف وأغصانه، ويتميز بشدة حرارته، كما في قول الشاعر «كبدي على جمر الغضى والنار تصلاه», وحطب السمر ويأتي، غالبًا، من أشجار السمر المنتشرة في الحجاز، ويعد من أفضل أنواع الحطب وأشهرها وهو شديد الصلابة، ويتميز بحرارة جمره، وطول بقائه، وخفة دخانه. أما الأرطى، وهو نوع من الحطب المنتشر في شمال المملكة، خصوصًا في صحراء النفود، فيأتي من جذوع شجرة الأرطى المغمورة برمل النفود، ويتميز بعوده الخفيف، ولونه البني الغامق، وهو سريع الاشتعال وقليل الدخان, والرمث وهو من الأنواع المفضلة لسرعة اشتعاله، وذلك راجع لدقة عوده وخفة قشرته ولونه يميل إلى البياض. أما حطب الطلح فعوده ثقيل وقشرته سميكة وداكنة يعلوها الشوك القاسي، فضلًا عن دخانه الكثيف على العكس من حطب السلم الخفيف الأبيض دقيق العود وسريع الاشتعال. وأكثر أنواع الحطب قساوة حطب القرض وهو شبيه بالسمر، إلا أنه أثقل وأصلب منه، ما يجعل تقطيعه وتكسيره بالفأس يعد أمرًا شاقًا. وهناك أنواع أخرى من الحطب بيد أنها نادرة جدًا في الأسواق مثل: حطب الشوحط، وحطب العجرم، والحمض، ويتهافت أبناء البادية على جمع الحطب للاستفادة منه في حياتهم. ومن أطرف ما يذكر أن عجوزًا قالت مرة، وهي تكاد تضم لهب النار إليها من شدة البرد: «اللهم اجعلها لي ولوالدي ولوليدي» تقصد لذة الدفء ونعيمه لا النار ذاتها أو جهنم كما قد يتبادر للذهن، بيد أن التعبير قد خانها، ويقول عبدالرحمن الخلف، أحد شعراء حائل: وجدي على فنجان بن مزعفر على الغضى زين ما هو فوق قزي طلعت صلاة الصبح في روض أزهر جاه المطر بالليل والصبح فزي» وقال أيضًا: أريد أكتب بها أشعارًا وأغازلها ومجّدها أنيسة من سهر بالليل دفًا للي تحضنها حبيبة حاتم الطائي بروس السمر أججها لجل تدعى له الضيفان تنادي من يناظرها أما بالنسبة للفحم، الذي ينتج أصلاً عن الحطب نفسه، فأجود أنواعه فحم المدينة يليه الصومالي ثم الماليزي، وحول السلامة في استعمال الحطب أو الفحم للتدفئة ومدى تأثير أكسيد الكربون على الصحة، خصوصًا أن عادة إيقاد الحطب وإشعال النيران في الشتاء تعدّ من العادات المحببة جدًا، والتي تحظى بمكانة عالية في نفوس أهل الخليج خاصة، يتوثب سؤال لطرح نفسه وهو: ماذا نعرف عن أعراض التسمم بغاز أول أكسيد الكربون؟ فكثيرًا ما سمعنا عن حالات وفاة نتيجة الاختناق بدخان الحطب أو الفحم داخل الأماكن المغلقة، ويعود ذلك للتسمم بأول أكسيد الكربون. وغاز أكسيد الكربون غاز سام لا لون ولا طعم ولا رائحة له، ويتحد مع هيموجلوبين كريات الدم الحمراء عند استنشاقه بدلًا من الأكسجين عندها يختل الدم ولا يحترق السكر ليعطي الجسم الطاقة الكافية، فتتأثر بذلك الخلية، وتعجز عن إتمام وظائفها، ومن ثم تنهار وتموت. وغالبًا ما تؤجج النار للترفيه ولصنع القهوة العربية والشاي أكثر من التدفئة، وتعدّ القهوة الهاجس الأكبر المرتبط بالنار، خصوصًا لدى كبار السن من أهل الخليج، وما يرافقها عادة من أدوات «المعاميل» مثل: المحماسة، والمبرادة، والمطباخة، والدلة، فضلاً عن المنفاخ، والملقاط، والمركاب، والارتهان إلى أنماط وطقوس معروفة في موروثنا لا يجوز الحياد عنها، فيما يخص صنع القهوة وتقديمها وشربها. وتتعدد مسميات النار في الثقافة العربية حسب أهدافها فهناك، على سبيل المثال، نار القرى التي توقد في أعلى الجبل، خصوصًا عندما يشتد البرد لجلب الضيفان، ويقول في ذلك الشاعر الجاهلي، مخاطبًا زوجته باحترام، ويتفاخر بأنه يوقد نار القرى عندما يشتد البرد في الليالي الظلماء التي انكدرت نجومها درجة أن الكلب لا ينبح إلا مرة واحدة يسارع بعدها لتغطية منخاره بذيله لتدفئته: يا ربةَ البيت قومي غيرَ صاغرة شُدِّي إليك رحَال القوم والقُرُبَا في ليلة من جمادى ذات أندية لا يُبْصرُ الكلبُ في ظلمائها الطُّنبا لا ينبحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدة حتى يلفَّ على خيشومه الذَّنَبَا ويقول في نحو ذلك عمرو بن الأهتم: وليلة يصطفي بالفرث جازرها يختص بالنِقرى المـثـرين داعيها لا ينبح الكلب فيها غير واحدة من العشاء ولا تسري أفاعيها رفعت ناري على علياء مشرفة يدعى بها للقرى والحق ساريها وهناك نيران تستخدم لأغراض أخرى في الثقافة العربية القديمة مثل: نار الاستمطار، ونار القسم، ونار الطلل، ونار البشعة التي ما زال يمارسها البدو في شرق الأردن، وذلك بأن يحمى قضيب من الحديد حتى يقدح شررًا، ويؤتى بالحالف ليلحسها بلسانه، فإن كان صادقًا بريئًا لم تضره، أو هكذا يعتقدون، وإن كان كاذبًا أحرقت لسانه، وهو نوع من الاحتكام إلى النار ورث على ما يبدو من التراث المجوسي. |