«براءة» هوائية
في هذا العام سأحتفل، مع نفسي، بمرور 44 سنة على ركوبي أول طائرة في حياتي.
كانت الرحلة من الرياض إلى بيروت، وكنت حينها صغيرًا إلى درجة أني لا أتذكر الآن وجه «المضيفة» التي خدمتنا في الطائرة!!
لم يكن آنذاك ركوب الطائرة بالأمر الهيّن، فإذا كان من الوجاهة السفر إلى بيروت في ذلك الحين، فإن الوجاهة تبدأ من ركوب الطائرة، وليس دخول بيروت !
الآن تغيرت الأحوال كثيرًا، وأصبحت الطائرة وسيلة ليست غاية. بل وصل الأمر ببعضنا إلى التقهقر عن الذهاب إلى جهة مرغوبة وجذابة، بسبب أن الوصول إليها متعذر بغير طائرة.

أتحدث هنا عن مشاعر ما قبل 11 سبتمبر، أما بعده فشيء آخر لا يمكن تصوره!
بقي شيء واحد مزعج في الطائرة منذ ذلك الحين إلى اليوم، دون أن يجد له «الكباتنة» حلًا.. وهو المطبات الهوائية.
الناس لا ينزعجون أو يقلقون من سقوط الطائرة «لا قدر الله»، مثل انزعاجهم من المطبات الهوائية «لا سمح الله»، لسبب بسيط هو أن سقوط الطائرة لا يمكن أن يحدث في حياة الراكب أكثر من مرة واحدة، أما المطبات الهوائية فهي تتكرر في حياته أكثر من مرة وتزعجه باستمرار!

ما سبب المطبات الهوائية؟! هذا هو السؤال الذي يتردد في ذهني منذ 44 سنة. هل هي بسبب سوء الأحوال الجوية.. كما يقول الكابتن، أم بسبب سوء الكابتن.. كما يقول الركاب؟!
لم يخطر ببالي يومًا أن أسأل الكابتن بعد أن نهبط سالمين مخضوضين، لأني أعرف أنه لن يعترف وسيقيدها ضد مجهول!
حسنًا.. الأحوال الجوية هي السبب الرئيس، لكن هل الكابتن بريء تمامًا من أي «خضّة» جوية.. ولو واحدة؟!

رحلتان في حياتي لن أنساهما: واحدة قبل عشرين سنة، كنا متوجهين فيها إلى الكويت، وصلنا ونحن لا نعرف عالينا من سافلنا، بعد أن لعبت بنا الطائرة وكأننا في «خلاّط» وليس في طائرة. كان كل شيء يهتز في الطائرة، تقدم أحد المضيفين إلى الراكب بجواري لمساعدته في ربط الحزام وهو يتأرجح ويهتز...
عندما تراكضنا نحو باب الخروج كان الكابتن واقفًا أمام السلم، مبتسمًا «بكل براءة» وكأنه يريدنا أن نشكره أننا وصلنا بالسلامة، ونحن لا ندري أنشكره أم نشكوه؟!
الرحلة الأخرى كانت العام الماضي القريب، من باريس إلى الرياض، كنت أشعر طوال الرحلة بأن الطائرة لم تقلع بعد ولم تتحرك من مكانها لولا أني هبطت فوجدتني في الرياض بدلًا من باريس.
كنا في تلك الرحلة نستطيع أن نشرب «الزئبق».. وليس الشاي فحسب!
هل كانت الأحوال الجوية جيدة أم أن الكابتن كان جيدًا؟

الآن وبعد كل هذه السنين، ما زال هذا هو السؤال البيزنطي حول المطبات الهوائية في الطائرات.
هل نقول شكرًا للكابتن إذا كانت الرحلة سهلة ومريحة، أم نقول شكرًا للأحوال الجوية؟!
هل نشكو الكابتن إذا كانت الرحلة غثيانية مخضخضة، أم نشكو أمرنا إلى الله بسوء الأحوال الجوية؟!
أيًّا كان الأمر.. فسنقول شكرًا، بعد شكر الله، للكابتن لأنه أوصلنا في النهاية إلى جهتنا التي نريد.