|
||||||||
الصحراء.. ملحمة لم تكتب بعد إذا كانت ملحمتا «هوميروس» الإغريقي الخالدتين «الألياذة» و«الأدويسة»، حيث تصف الأولى الحرب الطاحنة بين أسبرطة وطروادة وصراع أقدار الرجال والنساء وأرباب الأولمب وأنصاف الأرباب وانحيازاتهم، بينما كانت الثانية تصف رحلة التيه والمخاطر الجسام لسنوات في بحار لجية عاناها «أوديسيوس» في رحلة العودة إلى إيثاكا، وإذا كانت ملحمة «الإنياذة» الخالدة لـ«فيرجيليوس» الروماني تصف مجازفات «أنياس» الخارقة لسنوات في رحلة المشاق من طروادة إلى تأسيس روما.. ففي هذه الصحراء ملحمة لم تكتب بعد.. ملحمة الأهوال وامتحان معادن البشر بين الشموخ والانحطاط، في إبلاس ليلها الملغوم بالجن والسعالي والسباع والأفاعي، في عراء نهارها المدجج بالهجير أو الزمهرير والسراب والظمأ والعوسج، بثاراتها الرعناء الخرقاء بعصبياتها البشعة العضوض، بالشهامة الفذة والنكران الأسطوري للذات، بغزل عشاقها ونخوات بواسلها وتضحيات فرسانها، بغدر لصوصها ونذالتهم وخسة أراذلها.. بنقائضها الحادة بين اللعنة والنقمة وبين الصفاء الخالص لإنسانية الإنسان. ومع ذلك، ورغم استفزازها الدهري لنا نحن أهلها العرب الأعراب الموشومين بها والموشومة بنا، لم يجرؤ أحد بعد على أن يزج بهذا التراث الزاخر المتناثر المتنافر عن الصحراء في قبضة عمل ملحمي شاهق يجعل من الصحراء كما جعل هوميروس وفيرجيليوس من الجبال والبحار والأنهار وأجواز الفضاء، سحرًا يشعل الروح الوثابة في الحجر، ويؤجج نار العشق والغيرة في صاقع الجليد، ويثير الفتنة والطيش والتهور في رباطة الجأش، ويخترق سرائر الرجال والنساء، يعريهم، يكشف عن نزواتهم ووضاعاتهم، أو يرفع بيارق فذاذاتهم وفضائلهم. فأين، أين نحن من كل هذا؟ وهل يخرج من أصلابنا من هو قادر على إلقاء القبض على شرر وميض البرق وشواظ الشمس، وشهود عيان على ما حدث وجرى على هذه الصحراء، يجلسهما على أطراف أصابعه، ثم يغمس قلمه في كبد المستحيل، يخط لنا ذلك المجد الملحمي الذي ظل عصيًا حتى الآن؟! الصحراء.. هذا الامتداد الشاسع اللا نهائي، الذي قال عنه جدنا المتنبي:«بِيدٌ مِن خلفِها بيد». تشعرك بالضآلة، وتنثر في ذرات جسدك القشعريرة متى استفردت بك، ووجدت نفسك مستعصمًا بظل قدميك خشية أن يفغر فاه الرمل ويبتلعك مثلما تبتلع الأفعى طائرًا على حين غرة تخلى عنه جناحاه. مذهلة وغامضة وساحرة ومرعبة هذه الصحراء، تبدو كما لو أنها صحن نحاسي خرافي لا نهاية لأطرافه المعلقة بحواف قبة السماء. إن كنت في زهو رياضها، زفت إليك شدوها غديرًا وزهرًا وحشائش، وداهمتك بنشوة طازجة فيها بكارة مشاعر طفولتنا في سحيق الأزمنة قبل أن نتخذ من الطين والحجارة بيوتًا، وقبل أن نحزمها ببعضها مدنًا وقرى. وإن كنت في قاع صفصف منها أو على ذرا الطعوس الحمراء الجرداء يتهددك محيط الرمل الشاحب بالموت عطشًا، أو مفترسًا من السباع، أو مغدورًا بناب حنش، أو هالكًا في التيه، تستيقظ فيك قصص يشيب لها الولدان عن النهب والسلب وقطاع الطرق، ومآسي سكرات الموت من الجوع والعطش أو المرض. متطرفة هذه المخلوقة، فحين ينحبس المطر، تتفنن في الاكفهرار والعبوس، تشيع فيك القنوط من أول نظرة. لكنها تتخلى عن صرامتها وجهامتها ساعة يراودها الغيم عن نفسها ويخر مغشيًا عليها، تطلق ضحكتها المغناج في الأرجاء وتدعوك بحفاوة إلى مأدبة عرسها البهي. وبين تربص الموت بك قاب قوسين أو أدنى منك، وبين تغريد روحك وشدوها في أحضان عرسها المهيب، لك أن تمتحن نفسك بصارًا في دفتر الرمل، فخلف هسهسة كل ذرة رمل ملاحم من الويل والشجاعة والشجن والشهامة والكرم، شارقة بالدمع وشاهقة بالدم أيضًا. من هنا ومن هناك مر أهلنا، أناخوا مطيهم، نصبوا بيوت الشعر والخيام، وسرحوا في المراعي شياههم وأباعرهم، ثم شدوا للرحيل خلف الماء والكلأ هاربين منها إليها.. وهكذا دواليك مختارين أو مرغمين. فالحزازات بين الأقوام أشواك ما فتئت تكشِّر عن لؤمها وتبحث عمن تغمد وخزها فيه. حدث هذا منذ هبط أبونا آدم من الجنة وتعارك ولداه في صحراء كانت تتسع لكل أولادهما وأحفادهما وما زالت، لكنها في تلك اللحظة ضاقت بالاثنين أو ضيَّقها أحدهما على الآخر ليستأثر بها لنفسه، ومنذ ذلك الزمن الغابر وأهلنا كابرًا عن كابر يتصارعون للاستئثار بها لأنفسهم، يقيمون أو يرحلون مختارين أو مرغمين، لذلك قال جدنا عنترة العبسي واصفًا هذه التغريبات الأبدية: نزلنا هاهنا ثم ارتحلنا هي الدنيا نزول وارتحال!! وقد سقط قبل الرحيل وفي الرحيل وبعد الرحيل خلق كثير، وما زالوا يتساقطون في أغوار الفيافي والتلاع والوديان والشعب وأجواف الكهوف والسباع، ضاقت الأرض بما رحبت فتلفت أجدادنا حواليهم بحثًا عن آلة يقهرون بها المغيرين ويذودون عن أنفسهم.. ومن جذوع الطلح والغضا وأغصانها، من وارف الحياة نفسها، صنعوا آلة الموت، ألم يقل جدنا المتنبي: كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا؟! |
||||||||