البيت العسيري..
إرث يعبق بتميز المعمار
يستمد خصوصيته من تفاصيله المعمارية التي تجمع وشائج الألفة في التصاميم بين الماضي والحاضر.
تزدان المملكة العربية السعودية بتنوع موروثها الثقافي والاجتماعي والعمراني، وذلك بحكم اتساع مساحتها وموقعها الحضاري المهم الذي أكسبها انفرادًا في سماتها عبر العصور. لعل أهمها المرونة المطلقة في التعاطي مع حيثيات الزمان والمكان، ومحاكاة المتطلبات الإنسانية في ظل تصاعد تواتر التطور والتحديث الذي يشهده العالم.. والبيت العسيري قطعة من التراث السعودي يجسد هذه السمات.


§    قرية المفتاحة نموذج للمدينة العصرية تحمل عراقة التاريخ
§    مخطط جديد لـ«أبها» يقدم عمرانها التقليدي بحلة جديدة
§    قرية السودة، منتج سياحي بامتياز
§    الطين والأحجار والأخشاب، خامات البيوت العسيرية


عسير، درة الجنوب، حاضرتها أبها تلفت الأنظار بجمالها الساحر لما حباها الله من طبيعة خلابة. ولعل البيت العسيري أهم ما تنفرد به هذه المدينة، تميز في عمارته عن غيره من تصميمات المباني في مناطق أخرى من المملكة بألوانه المزركشة من الخارج، وتصميمه البديع، واتساعه من الداخل، بما يتلاءم مع الظروف البيئية والطبوغرافية والمناخية الخاصة بالمملكة، حيث ظلت العمارة المحلية في المنطقة محتفظة بهويتها لفترات طويلة. وكان ذلك بسبب بعدها عن المؤثرات الخارجية الوافدة.

ومع التطور الحديث الذي شهدته مدن المملكة المختلفة منذ أكثر من ثلاثة عقود، حيث عاشت المدن السعودية تحديات معمارية كبيرة، تجسدت في الاتجاهات والفلسفات المعمارية الجديدة التي اقتحمتها. وكانت مدينة أبها إحدى المدن التي عاصرت تلك التحديات، فعملت على الاستفادة من التقنيات الحديثة واستثمرتها لخدمة العمارة مع الالتزام بقيم العمران المحلي ومبادئه، وفق مقتضيات العصر ومتطلباته، واحتياج الإنسان المعاصر كإحدى صور الإبداع والتميز في النهضة العمرانية التي تعيشها المملكة حاليًا.وبالنسبة للمواد الأساسية في عملية البناء، تعد مواد الطين والحجارة والأخشاب أهمها، ونظرًا لندرة الطين الجيد المقاوم للأمطار الغزيرة في هذه المنطقة، فإنه يتم وضع رقائق من الصخر تعرف محليًا بـ«الرقف»، ترص بشكل أفقي، وتثبت على المداميك الطينية، لتشكل بروزات طولية على الواجهات الطينية لأبعاد الأمطار على الحائط، فضلًا عن قيمتها الجمالية، إذ تقل سماكة الجدار في هذه المباني الطينية كلما اتجهنا إلى أعلى، وهو ما يفسر كون المنزل في عسير أقرب إلى ما يشبه الأبراج الدفاعية، حيث يميل إلى الداخل.أما في المناطق الجبلية فيكون البناء في السفح مواجهًا للمزارع مع توفير أبراج حماية بما يعرف محليًا بـ«القصبة»، وتستخدم خامات الأحجار والطين مع رقائق الصخر «الرقف» أيضًا. ومما يسترعي الانتباه في العمارة المحلية بعسير تناسق الكتل، وتوزيع النوافذ الصغيرة على الواجهات، حيث تقوم الرقف، وعلاقتها بالحليات الموجودة على ذروة المبنى، بدور مهم في إيجاد علاقة متناسقة بين الاتجاه الأفقي والرأسي، والتي يلجأ، أحيانًا، إلى تقويتها بإعطاء عناصرها ألوانًا تعمل على تأكيدها، وإبرازها بشكل واضح. وما زالت عسير الأصالة تتمسك بنمطها المعماري من خلال مجموعة من المباني التي ستظل شاهدة على عراقة العمارة العسيرية. ومن جهة أخرى، فقد شهدت منطقة عسير خلال الطفرة الحالية انطلاقًا نحو المعاصرة، حيث برز عدد من المباني العصرية التي تعكس أصالة العمارة المحلية، وروعتها مع استخدام مواد وأساليب إنشائية حديثة، تحمل سمات عمارة الأمس وملامحها بكل ما تعنيه الأصالة من قيم ومبادئ. كما استطاع أصحاب اتجاه المعاصرة الكاملة في كثير من الأحوال تقديم إبداعات جلية فرضت نفسها بجمالها وذوقها وتنافسها مع ما حولها مكونة في مجموعها إبداعات معمارية متميزة في تأصيل العمارة المحلية في منطقة عسير. وفي هذا السياق، تعد قرية المفتاحة إحدى صور الدمج بين الأصالة والمعاصرة بكل ما تحمله من معنى. وهي حي سكني قديم غير آهل بالسكان، تمت إعادة بنائه بأساليب إنشائية حديثة، ولكن بالملامح نفسها التي كانت عليها القرية القديمة التي تميزت بمجموعة من المباني المتلاصقة على امتداد الممرات الداخلية والخارجية، والتي تم تشييدها بالأساليب التقليدية للبناء في مدينة أبها، حيث الفتحات الصغيرة والحوائط السميكة، واستخدام «الرقف» لحماية الحوائط الطينية من الأمطار، وتوفير الظلال على واجهة المبنى، فضلًا عن قيمتها الجمالية.

وقد روعي في تصميم القرية الجديدة تأكيد الشكل والطابع المميز لمدينة أبها، وذلك لتحقيق الاستمرارية التاريخية والمحافظة على الطابع التقليدي لها، والاستفادة من كل التقنيات الحديثة، سواء في المواد الإنشائية أو أساليب البناء. ولهذا جاءت القرية مشابهة للقرية القديمة، ولكن بأسلوب عصري وفق مقتضيات الحداثة ومتطلباتها. وهكذا أنشئت القرية الجديدة لتحتضن الفنون التشكيلية والإبداعية، وكذا الصناعية المحلية، والحرف اليدوية والمهنية، ولتكون بذلك أبرز الحوافز التشجيعية للسياحة في مدينة أبها.
ما القرية فتتكون من 12 جناحًا، حيث يتضمن كل جناح مرسمًا، وغرفة نوم، ومطبخًا، وحمامًا، وجلسة خارجية، و13 محلًا تجاريًا لعرض المنتجات المحلية وبيعها، ومكتبة لبيع احتياجات الفنانين، وصالتين رئيستين لعرض اللوحات الخاصة بالفنانين من داخل القرية وخارجها، إضافة إلى عيادة، وصيدلية، ومطعم، ومقصف، ومقر لإدارة المشروع والصيانة، وآخر لإدارة التنشيط السياحي، وقاعة عرض بسعة 1000 مقعد، بجانب الحدائق، والجلسات، ومواقف السيارات. وقد جاءت القرية متنافسة في كتلها المعمارية ومعبرة تعبيرًا صادقًا عن أصالة العمارة في مدينة أبها، بالإضافة إلى قيمتها السياحية والتاريخية.

وتتميز عسير بمقدرتها السياحية الخلاقة، التي جعلت منها وجهة للمصطافين من المملكة ومنطقة الخليج العربي، واستجابة لذلك عملت إمارة المنطقة على تطوير قرية السودة السياحية إحدى القرى السياحية الحديثة والمتميزة في مدينة أبها. وتتكون من 22 وحدة سكنية، بالإضافة إلى فندق يتكون من ثلاثة طوابق، إضافة إلى جميع الخدمات الترفيهية، والإدارية، والدينية، والتجارية.

وتشكّل القرية بعناصرها المختلفة وتناسقها مع البيئة المحيطة بها، حيث الإطلالة على الأماكن الخضراء والمفتوحة، عنصر جذب سياحيًا مهمًا. ويظهر الطابع المعماري للقرية استعمال ملامح التراث المعماري في المدينة، من حيث الزخارف الموجودة على المباني، وكذا الخطوط الأفقية على واجهاتها، والتي تشبه شكل «الرقف» في المباني التقليدية، ما ساهم في إعطاء القرية هوية متجانسة، في الشكل الخارجي، والتكوين، واللون الذي كان له دور كبير في تحقيق الانسجام الكامل بين أشكال المباني وتكويناتها. والمبنى يعد أحد المحاولات الناجحة في الدمج بين سمات العمارة التقليدية وملامحها مع أساليب ومواد بناء حديثة مع تغليب المعاصرة.

وتواصلاً لمسيرة التطوير مع الحفاظ على الهوية العمرانية لمدينة أبها شرعت إمارة المنطقة في تنفيذ تخطيط المنطقة المركزية وتصميمها، حيث يهدف هذا المشروع إلى تطوير المنطقة المركزية وتحسينها، بأبها، مع التمسك بالطابع المعماري التقليدي المميز للمدينة، إضافة إلى توفير المرافق الترويحية، وتنظيم حركة المرور والمشاة مع أعمال تنسيق الموقع والمشروع.
وتبلغ مساحة المنطقة المركزية حوالي 105 هكتارات، ويحيط بها عدد من الدوائر الحكومية، إضافة إلى بعض الخدمات التجارية، وبعض المباني القديمة. ولذلك، فإن المساحة بهذه المحددات تعد ذات طابع حضاري، وديني، وثقافي، وتجاري. وقد روعي في عملية التصميم المحافظة على المعالم التقليدية بهدف الاستمرارية التاريخية للمنطقة. فأعطيت المباني المحيطة شخصية متوائمة في شكلها وحجمها وألوانها، كمحاولة ناجحة في تأصيل التراث المعماري لمدينة أبها، وإحدى صور الإبداع في إبراز سمات العمارة التقليدية وملامحها، لتبقى العمارة العسيرية على الدوام تحفة الناظرين وملهمة المعماريين.