|
||||||
برائحة العطارة.. وعبق الحضارة أشهر أسواق قاهرة المعز.. بناها الأمير جركس الخليلي منذ 625 عامًا. في زيارة لمصر تستجدي الأماكن التي تحلّق بسحرها إلى أبعد ما يصبو إليه الخيال، فإن الخان يأتي على رأسها.. وقد سماه بعضهم «سوق الشرق»، لما تعرضه حوانيت الخان من أحجار ومنتجات ومقتنيات نحاسية وذهبية وفضية تعبر عن فنون الشرق الأصيلة.. وهي دكاكين تقبع بين بوابات ووكالات أثرية تعطي قيمة تاريخية عظيمة للمكان الذي يحوطه المشهد الحسيني من ناحية، وشارع المعز لدين الله الفاطمي أقدم شوارع القاهرة التاريخية من الناحية الأخرى.
وتعرض الحوانيت العديد من المنتجات الشرقية، أهمها السبح المصنوعة من المرجان والفضة والكهرمان، ومنها ما يطعم بالفيروز والأحجار الكريمة. وبعض السبح قد يصل طولها إلى متر ونصف صنعت لتكون قطعة ديكور فريدة مكتوب عليها أسماء الله الحسنى، أو أسماء أشخاص محددة بحسب طلب العميل. مقهى نجيب محفوظ وفي داخل الخان يقبع مقهى نجيب محفوظ الذي أنشئ عام 1989 بعد حصول الأديب المصري على جائزة نوبل في الآداب بعدة أشهر.. ويرتدي مضيفوه الأزياء والطرابيش، في عودة إلى عصر الوالي محمد علي باشا الذي تولى حكم مصر عام 1805، وبدأ معه عصر التحديث في البلاد. آثار خان الخليلي خان الخليلي، هذا المكان التاريخي العتيق، اكتسب شهرته مذ كان واحدًا من ثمان وثلاثين سوقًا وزعت أيام المماليك على محاور القاهرة، وقد بناه الأمير المملوكي «سيف الدين جركس الخليلي» عام 1382 ميلادية فوق بقايا تربة الزعفران الفاطمية التي ضمت رفات آباء المعز لدين الله الفاطمي التي جاء بها من المهدية إلى القاهرة عندما تم لقائده جوهر الصقلي فتح مصر. وظل هذا الخان باقيًا حتى قام السلطان الغوري بهدمه وتجديده عام 917 هجرية، وأنشأ في موقعه حواصل وحوانيت ورباع ووكالات يمكن الوصول إليها من ثلاثة أبواب. وعن أهمية الخان التاريخية يوضح علاء عاشور، مدير عام آثار خان الخليلي، أنها لا تكمن في كونه سوقًا قديمة تعدى عمرها ست مئة عام فحسب، وإنما نجد أنها تحتوي على عدة بوابات ووكالات أثرية ترجع إلى عصور مختلفة، فهناك الأثران المواجهان لبعضهما في منتصف الخان وهما بوابتا الغوري بواجهتيهما الحجريتين المحفور عليهما أشكال هندسية، وقد شيدا بأمر من السلطان الملك الأشرف قنصوه الغوري في عام 917 هجرية. ومن آثار خان الخليلي بوابة البادستان التي تقع في الطرف الغربي المؤدي إلى المشهد الحسيني، وتتكون عمارتها الخارجية من حجر غائر يغطيه عقد ثلاثي ذو صدر بمقرنصات مقعرة ذات دلايات، وقد نقشت طاقية هذا العقد بزخارف زجزاجية جميلة مزينة بزخارف هندسية بسيطة تتألف من مثلثات ومعينات ودوائر.. أما عمارته الداخلية فهي عبارة عن منطقة مربعة ذات أرضية مربعة يغطيها قبو مروحي تزينه زخارف زجزاجية بلون أبيض على أرضية حمراء، ويعلوها نص إنشائي باسم السلطان الغوري وتتوسطها ثلاثة شبابيك سفلية متماثلة. أما وكالة سليمان أغا «السلحدار» والتي أنشأها الأمير سليمان أغا عام 1253 هجرية فتتكون عمارتها الداخلية من ثلاث واجهات، أولها رئيسة في الناحية الشمالية الشرقية تطل على شارع خان الخليلي، ويتوسطها مدخل رئيس عبارة عن حجر غائر وله فتحة باب ذات مصراعين خشبيين بكل منهما شريطان معدنيان، أحدهما سفلي والآخر علوي، ويعلوهما عقد تزينه زخارف زجزاجية، وفوقه لوحة رخامية تأسيسية بها كتابات نسخية من أربعة أسطر بكل منها شطران كتابيان نصهما في السطر الأول «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» وفي السطور الثلاثة الأخرى باللغة التركية. ومن داخل الوكالة هناك الحوانيت الحديثة، والتي كانت قديمًا حواصل خُصص أجزاء منها لعرض بضائع التجار، وأجزاء للإبل التي كان يأتي عليها هؤلاء التجار من بلادهم، وبالأعلى كانت هناك غرف يقيم بها التجار ليستريحوا من عناء السفر، ويقيموا فيها طيلة مكوثهم في الخان لبيع بضاعتهم. وهناك وكالة أخرى في خان الخليلي ولكنها غير متكاملة، وهي وكالة «البدوية بنت شاهين»، والتي تقع في نهاية الخان من ناحية شارع المعز، وقد تعرضت إلى التعدي من قبل أصحاب المحال الذين أخفوا واجهتها بلافتاتهم وبضائعهم، ومع ذلك فما زالت أحجار تلك الواجهة تنبض بالحياة. سحر الوداع في حال مغادرة خان الخليلي من جهة شارع المعز سيشهد الوداع محلات العطارة وقد أشعل أصحابها البخور فتسبح مع نسيم العود، والصندل، والمسك، والجاوي إلى عصور قد مضت من التاريخ، وكانت خير شاهد على إبداع الحضارة العربية والإسلامية وعظمتها.. وإلى جانب ذلك يعرض أصحاب هذه الحوانيت البهارات والعطارة بأنواعها المختلفة كالحبهان، والمستكة، والزعتر، وجوز الطيب، والخولنجان، والفلفل الأسود، والشطة، وزيت الزيتون، وحبة البركة. ووفق تجار العطارة بالمنطقة فإن الكثير من السائحين الأجانب يتهافتون على شراء العطارة العربية ويطلبونها بالاسم. ويتندر أحدهم بأنه في إحدى المرات قامت سائحة روسية بتذوق الشطة الهندي التي تشبه حبة البندق وهي شديدة الحرقة، وظلت تتأوه حتى ركبت حافلتها، ومع ذلك كانت تعلو الابتسامة فوق وجهها الأبيض ذي الحمرة حتى فارقت المكان. وأما الرحيل من حيث البداية عبر المشهد الحسيني فسوف ينحني إجلالًا للمقاهي ذات الطراز العربي ، فيحكي التاريخ نفسه على إحدى المناضد الشاغرة في مقهى الفيشاوي، الذي يزيد عمره على مئتي عام، عن إبداعات نجيب محفوظ المولود بحي الجمالية الذي يربض خان الخليلي بين أحضانه. ويبقى أن «خان الخليلي» هو أحد أهم المعالم المصرية، بل والعربية التي تشهد جنباته تناغمًا وتواصلاً بين مختلف الحضارات وشعوبها.. فليس المصريون والعرب فقط هم عاشقي هذا المكان، بل الأجانب من الجنسيات المختلفة يتجولون فيه، يذوبون للحظات في المكان، يمارسون ذات الطقوس في أحد مقاهي الخان، يدخنون النارجيلة، ويحتسون القرفة والزنجبيل، ويدخلون في حوارات ضاحكة مع الجميع. |