في صحبة الأمير خالد الفيصل والكاتب محمد سلماوي

جمال الغيطاني في نجيب محفوظ:

كان عصرًا بأكمله
§       رأى أبعاد الإنسانية كلها من زقاق المدق، وبين القصرين، وخان الخليلي.
§       لم يكن له بيت يقيم فيه، أصبحت إقامته في المقاهي
§       عاش بين الناس يسعى بينهم ويبادلهم الحب
§       من شخصيات رواياته شيد مفردات عالمه
§       كان سريع البديهة والقدرة الحادة على السخرية

لن يعرف معنى وصية نجيب محفوظ في أيامه الأخيرة إلا من عرف الرجل عن قرب. في الأيام السابقة على الرحيل بالمستشفى كان الحضور يتداخل بالغياب.. عندئذ ينطق بأسماء.. هل كان يرى ملامح أصحابها؟ربما..
هل كان يستدعيها من اللاوعي؟ ربما..

أسماء أعرف بعضها، أخرى أجهلها، لم أسمعها منه قط، أسماء متباعدة، لا يصل بينها شيء غير أن ما كان يتكرر منه بانتظام، الحسين.. الحسين، وعندما ينطق الاسم بهذا الشكل فالمقصود ابن بنت رسول الله, صلى الله عليه وسلم، المعنى, أيضًا, تلك المنطقة التي تعد مركز القاهرة، بل مركز مصر الروحي، مركز القاهرة القديمة التي ولد فيها نجيب محفوظ, وسعى في حواريها وأزقتها, ليصيغ منها تلك الأعمال التي دخلت دائرة الأدب الإنساني الخالد، لم ينتم إلى أي مكان آخر. لذلك ظل متعلقًا به طوال عمره، حتى عام أربعة وتسعين من القرن الماضي، بالتحديد، أكتوبر، إنه ذلك التاريخ قطع صلة محفوظ بمكانه الأثير، عندما استهدف حياته جاهل، غر، لم يقرأ له حرفًا، تلقى أمرًا بغرس سكين في رقبة الشيخ الفاصل، المحدد، الذي

المسالم الذي مد يده إليه ليصافحه، لحظة فارقة، لذلك سأتوقف عندها طويلاً. لا أبالغ إذا قلت: إن احتضار الكاتب الكبير بدأ منذ ذلك اليوم رغم تدخل العناية الإلهية وإنقاذه بعد شهرين أمضاهما في مستشفى الشرطة المجاور الذي شهد نهاية النهاية.

هل أبالغ إذا قلت إنه منذ رحيل الأسرة إلى شارع رضوان شكري بالعباسية وهو مغترب؟ ثلاثة عشر عامًا أمضاها في الجمالية مطلاً على العالم من نافذة البيت في ميدان بيت القاضي، متابعًا ما يجري في الميدان، في قسم البوليس المواجه، في درب قرمز الذي لعب فيه مع أصحاب الطفولة، في حارة الكبابجي التي يقع بها الكتاب الذي تعلم فيه تمييز الحرف من الحرف قبل التحاقه بمدرسة بين القصرين الابتدائية.
عندما انتقلت الأسرة من الجمالية إلى العباسية، من الحسين إلى شارع رضوان شكري، كان عمره ثلاثة عشر عامًا، أي أنه عرف خفقات القلب الأولى، ورعشات العاطفة، وأحاسيس الانتقال عن طور الطفولة إلى المراهقة.
هنا تكون تأسست حواسه وذاكرته، لذلك لم يكن غريبًا أن يردد في لحظة غيابه الاسم الحبيب إلى القلب، لا أحد من سكان القاهرة القديمة، يذكر المكان بصفته الجمالية، أو الخرنفش، أو خان الخليلي، إنه الحسين.
بعد انتقال الأسرة، وعند بلوغه مرحلة الشباب بدأ يعود إلى الحسين، بدأ يستأنف علاقته بالمكان، اتصلت العلاقة على امتداد عمره فلم تنقطع إلا قسرًا بعد ضربة الجهل عام أربعة وتسعين.
«لكل إنسان مكان يرتبط به، يصبح بمثابة الوطن الذي يأوي إليه، وعندما يتقدم في العمر يصبح المنشأ هو المأوى». تلك كلماته بالنص التي قالها لي عندما سألته عن علاقته بالمكان، عاد إلى الجمالية، ليكتشف المكان مرة أخرى، وليراه من خلال خصوصية البشر الذين يعيشون فيه. ومن يعرف الناس في الحسين سيدرك، أيضًا، ما أشير إليه، ففيهم تتجسد خصال من نطلق عليهم أولاد البلد: القيم، اللغة، طرق التعبير، ومنهم التقط نجيب محفوظ شخصياته، وشيد مفردات عالمه، رحل في المكان أفقيًا ورأسيًا هكذا رأى أبعاد الإنسانية كلها من خلال زقاق المدق، وبين القصرين، وخان الخليلي.
عندما عاد إلى الحسين، لم يكن له بيت يقيم فيه، أصبحت إقامته في المقاهي، مقهى الفيشاوي الذي كان مكتملاً، يشبه عالمًا قائمًا بذاته حتى تم هدمه عام تسعة وستين من القرن الماضي لم يتبق منه إلا جزء صغير كشظية، كذلك مقهى زقاق المدق. ومقهى الخمراوي الغريب الذي يشبه الشق الضيق، ومقهى لبنان، كان له صداقات مع أصحاب المتاجر والمحال، وكان جزءًا منهم. عاش بين الناس يسعى بينهم ويبادلهم الحب ويبادلونه، وعندما شنت ضده الحملات الصحفية التي مهدت المناخ ليوم الجمعة هذا، وظهرت ضده كتب ألفها فقهاء الظلام ضد «أولاد حارتنا»، رفض الحراسة وقتها، وقال لي إنه لا يتخيل نفسه ماشيًا في الشارع ومعه حارس، كان لديه إيمان عميق ويقين داخلي بأنه لن يلحقه أذى، ومرة أومأ برأسه وقال لي: الأعمار بيد الله.
غير أنني كنت أتوجس خيفة، نتيجة تجاربي السابقة خلال الستينيات، والمطاردة، وتوقع الاعتقال، إذ إنني أنتمي إلى جيل فتح عينيه على الرعب، وانخرط في العمل السري ضد الأوضاع التي رآها كثيرون منا خاطئة، نتج عن ذلك إحساس أمني حاد. استقرت لقاءاتنا منذ بداية التسعينيات على الثلاثاء، وعندما أصبحت رئيسًا لتحرير «أخبار الأدب»، وأصبح لي سيارة خاصة من دار «أخبار اليوم» يقودها زميل من السائقين، توليت مهمة صحبته من البيت.

في صحبة الأمير خالد الفيصل والكاتب محمد سلماوي

في السادسة إلا خمس دقائق أنتظر، في السادسة تمامًا يخرج من باب العمارة، أتقدم إليه، أصحبه حتى يصل إلى العربة، أفتح الباب، يفضل الجلوس في المقعد الأمامي إلى جوار السائق. ثم ننطلق إلى المكان الذي اعتدنا اللقاء فيه، والذي استقر خلال التسعينيات في مركب راس على شاطئ النيل اسمه «فرح بوت» وما زال.
\رغم أنني غير مسلح، ولو أنني مسلح فلا أجيد استخدام السلاح، إلا أنني كنت عند وصولي أمام البيت أمسح المكان ببصري، أتصور هجومًا ما، فإن انتظامه الشديد يسهل على من يرصده توقيت الهجوم. كنت أتوقع ذلك أستشعره مع تصاعد أعمال العنف في المجتمع من الجماعات المتطرفة، والتي كانت في جوهرها حركات احتجاج على الفساد والخلل لكنها ضلت طريقها عن أهدافها الحقيقية لأسباب يطول شرحها.

بعد نشر صورة الشاب الذي غرس السكين في عنق الأستاذ عصر يوم الجمعة هذا، تذكرته في مرة كنت أنتظره، كان الجو حارًا، لفت نظري شاب يرتدي الجينز، يجلس تحت الشرفة المغطاة، حيث يعيش الأستاذ في الطابق الأرضي، شرفة بعرض الشقة، زجاجها سميك، مسور بقضبان مزخرفة. وأضافت السيدة عطية الله، رفيقة دربه، نباتات شكلت حديقة صغيرة مبهجة تغطي الطابق كله.
تطلعت إلى الشاب الذي بادلني النظر الحاد، ثم تشاغل بتقطيع ورق كان يحمله إلى قطع صغيرة لم يبد رد فعل، بل استمر قابعًا مكانه، فكرت.. ربما يستظل من الحر، لكن صورته قفزت إلى ذهني بعد أسابيع عندما نشرت. إنه الشاب نفسه الذي تقدم من محفوظ عصر تلك الجمعة، ليصافحه بيد، وليغرس بيده الأخرى سكينًا قديمًا، مقبضه مخلوع، ومربوط بخيط دوبارة متين، طعنة وضعت حدًا لحقبتين متمايزتين، مختلفتين تمامًا، الثانية منها مستمرة حتى الآن.
أعود إلى أوراقي الخاصة التي دونت فيها وقائع تلك الأيام من عام أربعة وتسعين، بالتحديد الجمعة، الخامس عشر من أكتوبر، في هذا اليوم كنت ألتمس الراحة عقب عودتي من رحلة إلى المغرب، وأرتب مكتبي الذي تغيبت عنه، أستمع إلى بعض التسجيلات الموسيقية الأندلسية التي اقتنيتها من مدينة فاس العتيقة، رن جرس الهاتف، جاءني صوت الزميل والصديق مصطفى بكري: «هل علمت أنهم ضربوا نجيب محفوظ.. أرجوك تأكد من هذه الأخبار» أجبت بالنفي، طلبت منه أن يتصل بي بعد قليل، فوجئت، وجمدت للحظة، لحظة كنت أتوقعها، وأتمنى ألا تحل، يبدو أنني في مواجهتها الآن، ثمة ثوان قبل أن تبلغ الضربة مركز الألم في المخ سيطر علي هذا الحال، بينما مثل أمامي الرجل الطيب، حضوره الأبوي، وصحبتي له، اتصلت بمنزله. أجابتني ابنته الصغرى، قلت بصوت محايد، وكأنني لا أقصد أمرًا محددًا وأقصد خيرًا، ما الأخبار؟
أجابتني بألم وخشية من المجهول: لا أعرف ما يجري الآن، بابا في غرفة العمليات دعواتك له. ثم قالت: «ماما وأختي عنده.. في مستشفى الشرطة».
نطقت جملاً قصيرة استهدفت منها بث الطمأنينة، دعوت له بالنجاة، بدأت أتصرف، اتصلت بزملائي في مركز تحرير جريدة أخبار اليوم، كنت أول من ينبئهم بالخبر، اتصلت بصديقي يوسف القعيد الذي كان في منزله. قال: إن أحد أصدقائه اتصل به مستفسرًا، اتصلت بالصديق عماد العبودي المهندس ورجل الأعمال. كانت جلسة الثلاثاء محدودة وقتئذ، وكان عماد أحد أركانها قال إنه سيمر على يوسف القعيد، ويمران عليّ ثم نتجه إلى المستشفى. نزلت إلى الطريق، كنت في مواجهة الليل والخوف مما يجري، ونشطت الذاكرة لتمطرني برفق عن اللحظات المولية، هذا حال أعرفه عندما يهددنا الواقع بفقد صديق، تبرق لحظات أعرفها، لحظات سمعت عنها: انتظاري كل ثلاثاء أمام البيت، ما حدث اليوم والدكتور فتحي إلى جواره كان ممكنًا حدوثه معي، إصغائي إليه، اقترابي من أذنه اليسرى التي ما زالت حاسة السمع فيها قوية بمساعدة السماعة، رفض الصوت، لحظات صمته، شرود نظراته، سعيه في الطريق السادسة صباحًا بجوار النيل الذي أحبه وإقامته في عوامة بعد زواجه لمدة سنة، ثم سكنه على مقربة منه، محفوظ النيل ونيل محفوظ، شراؤه الصحف، استقراره في مقهى ريش، مقهى جروبي، مقهى علي بابا. في هذه المقاهي قرأ الصحف، كتب برقيات العزاء أو التهاني، دون بعض الملاحظات، أمسيات مقهى عرابي، رائحة التنباك المنبعثة من النرجيلة التي تعلمت تدخينها منه ثم توقفت عنها، ضحكاته المجلجلة مع صحبة أصدقاء الطفولة من شلة العباسية، سعينا في حواري الجمالية، احترامي لحظات صحبته بمقاهيها العتيقة عندما يستعيد زمنه الخاص. لا أتكلم إلا إذا تحدث هو، محبة الناس له، مشيه بينهم، يرد التحية لهذا، يصافح ذاك، لا يرد أي إنسان، صبر عجيب، تواضع جم، سماحة لم أعرف مثيلاً لها، لحظة تناوله الطعام كل ثلاثاء بصحبتنا، طعام الزهاد، قطعة جبن أبيض، شريحة طماطم، قرص طعمية، فقط لا غير.

ما لم أعرفه معه صباه في بيت القاضي، شجر ذقن الباشا، خناقات الفتوات، حب الحسين، لعبه في قبو قرمز، الثورة عام 1919، الثلاثيات، العصر الذهبي للقاهرة، الحرب العالمية الثانية، المخابئ، انتهاء عصر الفتوات، الغداء في العجاتي، الدهان، الكباب والكفتة، السهر في توفابيان، مقهى زقاق المدق، وزارة الأوقاف، فترة العمل في قبة الغوري، الثورة.
نجيب محفوظ إنه عصر بأكمله مختزل في إنسان، عاش المجتمع المصري وعبر عنه طيلة سبعين عامًا من الكتابة المتصلة وهذه حالة فريدة في تاريخ الأدب والأدباء، كنت في ذلك اليوم القصي البعيد الآن، وقد أدركت هول ما جرى وبدأت أستوعبه. عندما وصلنا إلى المستشفى الذي يقع بجوار البيت على بعد ثلاثين مترًا تقريبًا، وهذا من لطف التدبير الإلهي وعنايته، كان قد مضى على تسديد الطعنة حوالي ساعتين، دخلنا إلى قاعة الانتظار القريبة من غرفة العمليات. كان المرحوم ثروت أباظة ينهنه كطفل راح يردد: «نجيب.. نجيب.. معقول أن يوذيه أحد.. أن يمسه أحد»، نرجوه الهدوء، ونحن في حاجة إلى من يهدئنا، هناك في الطابق الثاني يرقد الأستاذ ممددًا فوق طاولة العمليات، وفريق من الجراحين المهرة يقودهم أهم جراح أوعية دموية في مصر، الدكتور أحمد سامح همام، مرة أخرى أوقن تدخل العناية الإلهية.
المرة الأولى، لأن المسؤول عن صحبة الأستاذ اليوم الدكتور فتحي هاشم، وهو طبيب بيطري، لكنه طبيب أولاً وأخيرًا، عندما ركب محفوظ السيارة، واستقر إلى جواره تقدم ذلك الشاب منه، صافحه، ثم دفع بمطواة «قرن غزال» في رقبته، وبدأ محاولة الذبح، كان يستهدف قطع الشريان السباتي الرئيس الموصل للدم إلى الدماغ والمخ، كما قال لنا فيما بعد. «بعد أن صافحني شعرت بوحش من نار يطبق على رقبتي».
ما أنقذ نجيب محفوظ شيخوخته، انحناؤه إلى الأمام بسبب السن، مرت المطواة بسبب ذلك قرب الشريان الرئيس في هذاللحظة وعندما بدأ اهتزاز السيارة انتبه الدكتور فتحي هاشم إلى ما يجري وصرخ بالشاب: «إنت مجنون؟!»، وقفز من السيارة، هنا ألقى الشاب بالمطواة، وبدأ الجري تعقبه فتحي، لكنه آثر العودة إلى الأستاذ المصاب، كان الدم يتدفق كنافورة بسرعة جلس مكانه، ضغط الجرح بيد، وبيد واحدة قاد العربة الصغيرة إلى الخلف قاصدًا المستشفى، قطع الأمتار القليلة الفاصلة، وعندما وصل إلى البوابة الرئيسة هرع إلى الباب صارخًا: «افتحوا، نجيب محفوظ مصاب».
بسرعة فتح الباب وحتى هذه اللحظة كان الأديب واعيًا. أنزلوه إلى نقالة متحركة قبل أن يغيب وعيه، قال: «أنا عندي سكر».
بعد تقدير سريع للموقف، اتصلت إدارة المستشفى بالدكتور أحمد سامح همام، وهنا يتدخل القدر، لم يكن المحمول معروفًا في مصر وقتئذ، جرى الاتصال في وقت كان فيه الجراح يقف أمام المصعد في الطابق الذي يسكنه متأهبًا للمغادرة إلى دعوة عشاء. لحقوا به قبل ركوب المصعد، لبى على الفور، ولم يستغرق وصوله إلا مسافة الطريق، ووصل إلى غرفة العمليات على الفور، ووصل اللواء حسن الألفي، وزير الداخلية وقتئذ، والدكتور علي عبدالفتاح، وزير الصحة وقتئذ، والدكتور ممدوح البلتاجي، وزير السياحة، وعدد من كبار المسؤولين بمباحث أمن الدولة، ما زلت أذكر الأنباء التي كانت تصلنا من غرفة العمليات: «تم إيقاف النزيف.. كان الدم يتدفق مثل النافورة»، «تم نقل ثمانية لترات من الدم.. أربعة عشر كيسًا».

وأمام المستشفى جرى تجمع من مثقفين، وناس عاديين توافدوا إليه بعد سريان الخبر، وتطوع كثيرون بدمهم لإنقاذه، بعد أربع ساعات جاءنا النبأ: «نجحت العملية.. وتم نقل محفوظ إلى غرفة الرعاية المركزة».
بعد منتصف الليل، مشينا في طرقات المستشفى الذي عرف الهدوء بعد الساعات العصيبة كنا أربعة، يوسف القعيد، وعماد العبودي، وممدوح الليثي، قطعنا الممرات الطويلة لم نكن نعرف وجهتنا على وجه الدقة، أخيرًا وصلنا إلى غرفة الرعاية المركزة التي يرقد فيها أكثر من مريض. كان نائمًا على ظهره لأول مرة في حياتي أراه بدون نظارة طبية، بدا منفعلاً، صوته به رعشة وحشرجة، كان يصافح باليسرى، استعدت ما قاله الدكتور سامح همام عن تأثير العصب الواصل إلى اليد اليمنى، قال: إنه اطمأن عندما رأه يحرك أطرافه، لكن الأمر سيحتاج إلى وقت.
أعود إلى أوراقي التي كتبتها في الأسبوع التالي فأجد ما نصه: «اليوم صباح الأربعاء.. أفكر في يده اليمنى في بطء حركتها تلك اليد التي حفرت نهرًا للإبداع العربي، اليد التي كتبت الثلاثية، والحرافيش، وأولاد حارتنا، أتأمل لون الجلد الغامق الذي لم أعرفه في اليد التي قبلتها مرارًا، أفكر في رقاده، في أيامه بعد الشفاء، أثق في أنه سيتكيف مع الظروف الجديدة، تمامًا كما تكيف مع ظروفه بعد أن ثقل السمع وكل البصر، مع علمي أنه لا يغير عاداته إلا بصعوبة شديدة.. أحلم الآن بتلك اللحظات التي أتعجلها، عندما أصحبه كعادتنا، ونجوب حواري القاهرة القديمة، ونسعى خلال الزمن العتيق».
لحظات عودته إلى الكتابة حلت بعد أربع سنوات من العلاج الطبيعي اليومي، عندما مال عليّ ليسر إليّ قائلاً: «اليوم تمكنت من الكتابة بدون أن أنزل عن السطر».
خلال تلك السنوات الأربع التالية للحادث، رتب أوضاعه. ونتيجة إرادة داخلية قوية تكيف مع الظروف الجديدة ليس نتيجة الحادث فقط، ولكن نتيجة التقدم في العمر والوهن. لقد نالت الشيخوخة من بصره فلم يعد يستطيع القراءة، عرضنا عليه المساعدة، لكنه لم يحملنا من أمرنا نصبًا. رتب مع رجل طيب مجيئه اليومي إليه في الصباح، ليقرأ له لمدة ساعة أهم الأخبار في صحف الصباح، القومية والمعارضة. أما المقالات والنصوص الأدبية المهمة فيقرأها عليه الأصدقاء في جلساتنا الليلية، والتي أصبح لها ترتيب خاص. بالنسبة لي اعتدت أن أقرأ له الشعر القديم، والذي يحبه بصوت مرتفع، وأفاجأ أحيانًا به يكمل الأبيات من ذاكرته، وقد دونت جميع القصائد التي اتضح لي أنه يحفظها وعددتها بمنزلة مختاراته.
أحيانًا أقرأ عليه مقطوعات من النثر، ويلفت نظري ملامحه في أثناء تركيزه والإصغاء، وقد يعلق في نهاية النص برأي ثاقب. إذا كان الزمن قد نال من حاستي السمع والبصر، فإنه لم ينل من الذهن الذي ما زال حادًا، نافذًا، أما الذاكرة فمدهشة.
أحيانًا يثير أحدنا موضوعًا ما، ويطلب رأيه، فيجيب بكلمة أو كلمتين عابرتين، على سبيل المثال سألته عن رأيه في أحداث سبتمبر بعد عام تقريبًا من وقوعها، فقال لي في البداية: وهل يحتاج الأمر إلى رأي؟
انتقلنا إلى موضوعات أخرى، وإذا به بعد حوالي نصف ساعة يميل إلى الأمام  يشير بأصبعه، هنا نصغي كلنا، ندرك أنه سينطق ما يهمنا، ما يعبر عن رأيه، يقول: «بالنسبة لسبتمبر، أظن أنه لم يقع حادث آخر بعلاقات الشرق والغرب مثل هذا الحادث، الذين ارتكبوه أساؤوا إلى الإسلام أبلغ إساءة، وسبقه سلوكيات الطالبان التي أساءت أيضًا للإسلام وصورته، إننا بحاجة إلى جهد كبير، لنعود إلى الوضع السابق على سبتمبر».
يصمت قليلاً ثم يقول: «لا أظن أن الوضع سيعود كما كان.. ما زلنا في بداية مرحلة لم تتحدد معالمها ولا ندري نهايتها».

أحيانًا تثار مناقشات حول موضوعات أدبية، أو سياسات داخلية أو خارجية. يكفي أن يصغي ويستوعب، لينطق بالحكمة. ما زالت قدرته على توليد النكتة في ذروتها، وأسبوعيًا يجعلنا نضحك من الأعماق بعد قفشة مفاجئة، مباغتة لا نتوقعها، والقفشة فن مصري دقيق ينتمي إلى زمن جميل عندما كانت المشاكل العامة أخف وطأة، وكانت الأوقات الجميلة تمضي مع الصحبة المقربة، والدنيا صافية. نجيب محفوظ من أمهر ملوك القافية والقفشة، وكلا الفنين يعتمدان على سرعة البديهة والقدرة الحادة على السخرية.
بعد أن تسلم «الشيك المليوني» من إبراهيم المعلم، سكت قليلاً ثم قال: هل تعرف بماذا أفكر الآن؟ تطلعنا صامتين، قال: «أن أهرب».. وانفجرنا ضاحكين. كانت أخبار الذين اقترضوا الملايين، وبعضهم المليارات تنشر يوميًا في الصحف، هربوا بأموال المودعين. أموال الغير، ودعابة محفوظ بدت نافذة، مدوية موجعة.
في مرة أخرى كنا نتحدث عن راقصة شهيرة بمناسبة تصريحها بأنها تنوي التقاعد، بعد لحظة صمت قال: «طلعها في الذخائر».
والذخائر سلسلة أشرفت عليها وكانت تصدر عن هيئة قصور الثقافة، قدمت فيها نصوصًا مهمة من التراث العربي. وتتميز النكتة المحفوظية بالذكاء، والثقابة، والدقة، وشحنة السخرية العالية، مجرد استعادة هيئته لحظة إلقائه النكتة، أو توليدها، أو نطقه القفشة يجعلني أبتسم.
إن متابعة ملامحه في أثناء الجلوس معه تمنحنا خريطة دقيقة واضحة للعواطف الإنسانية، دائمًا كنت أحترم صمته، قبل الحادث، والتقدم في السن، كان يجلس مفرود القامة، متطلعًا إلى فوق، على وجهه ذلك التعبير الذي يستدعي الوصف المصري المتلخص في كلمة واحدة بالغة الدلالة، عندما نقول عن إنسان إنه: «طيب». يبدو سمحًا رقراقًا، ذاهبًا إلى بعيد وهو قريب.
الآن مع التقدم في العمر، ضمر الجسد، وانحنى قليلاً، ويطول صمته، مستغرقًا في ذاته. لقد استطاع بعد الحادث تكييف ظروف حياته على كل المستويات: لقاء الأصدقاء، الكتابة، التعايش مع المرض، إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يستطع أن يستأنفه هو زياراته المنتظمة إلى الحسين، حيث المكان الذي كانت تتوزع فيه أيامه. كان قبل الحادث يمضي إليه إما منفردًا، أو بصحبتي، لكن بعد أن فرضت عليه الحراسة صارت حركته محدودة، وفقًا لشروط معينة. لذلك لم يكن غريبًا أن يردد اسم الحسين مرات في فترات غيابه عن الوعي، وأوقن أن احتضاره بدأ منذ عام أربعة وتسعين، بعد محاولة الاغتيال الآثمة، والتي نشأت عنها ظروف حالت دونه ودون مأواه الأول.