دشنت مسقط معلمًا ثقافيًا وسياحيًا جديدًا هو بيت البرندة، الذي يعد من أقدم البيوت الأثرية في المنطقة، ويعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر. وتحول بيت البرندة بعد تطوير غرفه الـ13 وتأهيلها إلى متحف للحياة المسقطية، وشاهد جديد على الحياة الثقافية والتجارية لسلطنة عمان.ليس في عمان من لا يعرف مطرحًا.. ولا يزور السلطنة زائر دون أن يمر على هذه المدينة الساحلية، ففيها أشهر أسواق عمان، سوق مطرح، وتطلق على أجمل كورنيش، حيث تفصل بين المدينة والبحر، وقد تمتد بمحاذاة الجبال المسقطية الشامخة.ومنذ أيام قلائل أضافت مطرح إلى مفكرتها معلمًا حديثًا، فهي لم تكتف بتوثيق تاريخها الذي يطل من أبرز معالمه عبر قلعة مطرح، وإنما أرادت توثيق سيرة المكان، هذا الذي تتقاسم عمقه مع جارتها مسقط. تلك البقعة الصغيرة التي تحمل اسم عاصمة عمان، واسم كامل المحافظة الممتدة منها، وصولاً إلى ولاية السيب التي تبعد عنها 50 كيلومترًا.افتتحت بلدية مسقط بيت البرندة، ليكون بمنزلة المعلم الثقافي والسياحي، حيث يقدم لزواره العمانيين وغيرهم تاريخ المدينة الطبيعي والبشري بأسلوب تعليمي تفاعلي حديث، حيث قامت بلدية مسقط بتأهيله وتطويره، ليكون متحفًا يحتضن تفاصيل الحياة المسقطية.
ذاكرة الحياة المسقطية
وقد اختارت بلدية مـسـقـط مبنى بيت البرندة، ليكون جزءًا من منظومة المعالم التي تحافظ عـلى ذاكرة مدينة مـسـقـط من خـلال التعـريف بتاريخ المدينة والمساهمـة في تنشـيط الحركة الثـقافية فيها.
كتاب ناطق بتاريخ مضى
كما سيقدم «بيت البرندة»، على مدار السنة، برنامجًا لتعليم صغار الزوار من طلاب المدارس المبادئ الأساسية في شتى الاختصاصات مثل رسم الخرائط، وقراءتها، وخصائص العمارة الإسلامية، والصناعات الحرفية والمهارات الفنية المُختلفة، وما إلى ذلك من اختصاصات بهدف تطوير مدارك الطلاب، وتنمية مهاراتهم.
ويقدم الكتاب الناطق بمجرد تقليب أوراقه التسلسل التاريخي لأهم الأحداث لتي عاشتها عمان منذ القدم وحتى عصرنا الحالي مرورًا بعلاقات عمان التجارية القديمة مع السومريين، والبابليين، والرومانيين، والساسانيين، إضافة إلى نشأة مسقط، والأصل اللغوي في تسميتها.
وراعت البلدية في تصميم بيت البرندة وتجهيزه أن يكون ملائمًا لتنظيم الفعاليات الثقافية المختلفة واستضافتها مثل القراءات التاريخية، والأدبية، والمعارض الفنية المحلية والعالمية، إسهامًا في إثراء الحركة الثقافية في المدينة التي ما فتئت حكومة السلطنة تبذل جهـودًا كبيرة على تنشيطها.
البرندة بيت أشباح
أما لفظة البرندة فجاءت تحريفًا محليًا للكلمة اللاتينية «Veranda» التي تعني الشرفة، وجاءت تسمية البيت من الشرفة الممتدة على طول واجهته في الطابق الأول. كما يعرف هذا المبنى، أيضًا، بـ«بيت نصيب» نسبة إلى التاجر نصيب بن محمد الذي بناه في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ليكون مقرًا لسكنه الثاني، إلا أنه لم يسكنه.أما تاريخ البيت فيحتفظ ببعض أوراقه القديمة، فقد مرت من بين جدرانه ذكريات مهمة. ففي سنة 1909 استأجرت البعثة الأمريكية البيت، واتخذته مستوصفًا حتى سنة 1933، تاريخ بناء مستشفى الرحمة في مطرح، ولأن الاعتقاد بأن البيت كان مسكونًا بالجن راج بين الأهالي، فإن البيت لم يسكنه سوى الأجانب حتى سنة 1952 عندما استأجره شخص سكنًا لعائلته إلى سنة 1967. وفي سنة 1972 استأجر المبنى المجلس البريطاني، ورممه وقد شملت أعمال الترميم هذه تخصيص قاعات للدراسة، وقاعة للمكتبة، ومكاتب للإدارة، وملحقات أخرى. وفي سنة 1979 رشّح بيت البرندة لجائزة أغاخان المعمارية، أما في الفترة الممتدة من عام 1984 إلى 1989 استأجر المبنى مكتب تشاك بريجل، للاستشارات الهندسية، ثم ظل مهجورًا إلى أن قامت وزارة التراث والثقافة بصيانته.وقبل سنتين تسلمته بلدية مسقط، من هنا جاءت فكرة تحويله إلى بيت يستقطب الزوار والسياح، للتعرف على ملامحه التي تسرد قصة مسقط على مر التاريخ، حيث إنه يعرف الزائر تاريخ مسقط من خلال سيرورة الحركة الجيولوجية لكوكب الأرض، وتشكل المشاهد الجيولوجية في مسقط، وكذلك عصر الديناصورات، والمستوطنات البشرية منذ 10 آلاف سنة قبل الميلاد إلى الفترة الإسلامية المبكرة. كما يقدم البيت لمحات عن تاريخ السلطنة ومسقط في كتابات الرحالة، والجغرافيين، وتاريخ مسقط من القرن الأول الميلادي إلى سنة 1744.واللافت في تاريخ مسقط أن الأسرة البوسعيدية الحاكمة في عمان أعادت إلى مسقط مكانتها بعد أن تنقلت العاصمة العمانية بين ثلاث مدن هي: الرستاق، ونزوى، وصحار. فشكّل قيام دولة البوسعيد منعرجًا حاسمًا في تاريخ عمان عامة، وتاريخ مسقط خاصة، حيث استعادت أمجادها الماضية بعد أن أصبحت عاصمة البلاد. وتعقد المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وتستقبل الممثلين الدبلوماسيين، وتوفد مبعوثيها إلى أكبر دول العالم. وتضاعفت أهمية مسقط مع امتداد النفوذ العماني إلى شرق إفريقيا.ومثلما يحكي بيت البرندة سيرة مسقط عبر ملامح فرح الانتصار وقسوة الاحتلال، فإنه لم يغفل الحياة الفطرية القديمة، حيث تقدم إحدى قاعاته ملامح من هذه الحياة مع الرسومات المعبرة، وتغير النباتات والحيوانات التي كانت تعيش في المنطقة، حيث إن أحافير عظام الديناصورات، التي كانت ترتع على ضفاف الأنهار المتحدرة آنذاك من أعالي جبال عمان، تروي لنا تاريخ الحياة الفطرية القديمة. وقبل 66 مليون سنة، كانت الديناصورات والتماسيح تعيش في منطقة الخوض الجافة الآن، حيث كان المناخ شديد الرطوبة، وكانت الأنهار، والوديان تشق المنطقة وسط الأشجار الغابية. وبعد عصر الديناصورات امتد البحر، ليغطي المنطقة نفسها تاركًا رسابات بحرية قبل أن يتراجع، وتتداخل رساباته مع المخروطات الطميية من رسابات وادي الخوضوثمة قاعة تختص بتوضيح أقدم المستوطنات البشرية في مسقط أبرزها مستوطنة الوطية، ومستوطنة رأس الحمراء وموقع بوشر الأثري، إضافة إلى إبراز الفنون الشعبية التي تعرفها هذه المدينة. فتعرض قاعة الفنون الشعبية مجموعة من آلات الموسيقا التقليدية العمانية بطريقة متميزة، وتعرض على شاشة كبيرة نماذج من الفنون الشعبية مصحوبة بصوت يكشف المكان كله بطريقة توحي بأن المشهد حقيقي حي.ويعرض بيت البرندة تاريخ مسقط عبر مجموعة من الوسائط الفنية، ومنها الجداريات التي قدمت وثائق، وصور أهم الشخصيات الفاعلة خلالها، إضافة إلى مجسم لمسقط، ومطرح مستوحى من رسمة تعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي. وأوضحت الصور تفصيلاً لأهم المراحل التي مرت بها دولة البوسعيد في عهد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، ودوره في القضاء على الفتن الداخلية، وتوحيد العمانيين، ومحاربة الفرس. وقد أصبحت مسقط في عهده من أهم المراكز التجارية في المحيط الهندي، ليتولى الحكم بعده السيد سلطان بن الإمام أحمد (1792-1804)، إذ أصبحت مسقط في عهده عاصمة للبلاد، وامتد النفوذ العماني إلى سواحل باكستان وإيران، إضافة إلى البحرين في الخليج العربي. ويعرض البيت لوحة فنية توثق وصول أحمد بن النعمان الكعبي إلى ميناء نيويورك حين ابتعثه السيد سعيد بن سلطان إلى الرئيس الأمريكي.إضافة إلى المسوحات الملاحية والطوبوغرافية لسواحل مسقط في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ونظرًا لأهمية ميناء مسقط الاستراتيجية على طريق التجارة الدولية، عملت العديد من الدول وشركات الملاحة والتجارة العالمية، منذ أوائل القرن الثامن عشر، على إرسال بعثات من المتخصصين لمسح طوبوغرافية ساحل مسقط، وقياس أعماق المياه فيه، وقد نتج عن تلك البعثات العديد من الرسمات والمخططات الدقيقة التي استخدمت لأغراض ملاحية وعسكرية.
وتوجد رسمة أخرى لميناء مسقط في القرن الثامن عشر، حيث أشار واضع هذه الرسمة إلى أن ميناء مسقط هو المرسى الوحيد الذي تكون فيه السفن في أمان في كل الأوقات، وركز على إبراز دفاعات المدينة، ومعالم أخرى مثل مقر الجمارك، والسوق، ومدينة مطرح.وتبين الرسومات في قاعة مسقط الميناء التنافس الدولي على ميناء مسقط، واحتجاز السفينة ماري عام 1759، وخازن الفحم على شاطئ المكلا الذي تم تقسيمه بين فرنسا وبريطانيا في تسوية للنزاع الذي استعر بينهما على تخزين الفحم في
مسقط عام 1900.
|