الدكتورة فرانشيسكا كوراو:
صقلية مسكونة بالأثر العربي
ليلة متوسطية في رحاب نجد تستحضرالمكون العربي الحاضر بقوة في الحياة الاجتماعية الصقلية.


§ كان العرب في أوروبا أصحاب ثقافة وقيمة علمية وفكرية!
§ حاكم صقلية اعتمد على البروتوكول الإسلامي، وبقي صوت الأذان يسمع من قصره!
§ ثلاثة قرون من الحكم العربي في صقلية لا يتجاوز وجودها صفحة واحدة فقط في كتب تاريخنا!
§ الشعر جزء يتكامل مع الحياة في صقلية

ثمانية قرون كانت فترة كافية لتشكيل تاريخ أدبي فقد بقي للشعر الأندلسي حضوره وخصوصيته، وأصبح موضوعًا مشوقًا للبحث والدراسة لما حققه من شهرة، ولكن بالانتقال قليلاً ناحية الشرق باتجاه إيطاليا، سنجد أنفسنا كذلك أمام حضور عربي تمثل في جزيرة صقلية التي بقي العرب فيها نحو ثلاثة قرون كان لها كذلك خصائصها السياسية، والاجتماعية، والأدبية بطبيعة الحال. ومن هنا يمكن أن نتساءل: ماذا نعرف عن الشعر العربي في صقلية؟ لنجد الإجابة لدى الباحثة الإيطالية الدكتورة فرانشيسكا كوراو، أستاذة كرسي اللغة العربية وآدابها في كلية العلوم السياسية بجامعة نابولي الإيطالية للدراسات الشرقية.
للشعرالعربي ارتباطه بذاكرة الأمكنة وتاريخها، فقد بقي منذ بداياته يؤسس لديوانيته العريقة، ومسطرًا لصفحات تكتنز الحضارة  في أبياتها، حتى لم يعد الشعر مجرد منجز جمالي، بل تكفل باستقراء الزمن وتدوين السير الذاتية لشخصيات ومراحل بأكملها.
وبالعودة إلى ارتباط البيئة وتعالقها مع صميم العملية الإبداعية، يمكننا أن نستحضر نماذج شعرية تاريخية تشكلت بسمة المكان وتماهت معه حتى أعادت صياغته من خلال خصائصها الفنية والبنيوية. وهنا يبرز لنا أنموذج الشعر الأندلسي الذي تمثل بيئته المختلفة النوعية حتى ارتبطت بمفرداته، وانعكست أناقتها على استعاراته وبديعه، وتجلت نمطية حياتها الاحتفالية في إيقاعاته حتى شكل مرحلة تحولية في مفهوم الشعر العربي وأساليبه وقوالبه.

بلغة عربية سليمة، وبخلفيات تاريخية، تحدثت كوراو، في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية مؤخرًا في ندوة حضرها عدد كبير من النقاد والمثقفين العرب والأجانب، عن خصائص المرحلة التي عاشتها صقلية في ظل الحكم العربي، متناولة أبرز ملامحها من حيث المواقف التاريخية والتركيبة السكانية التي تشكلت في ذلك الحين، وأكدت أن تلك الفترة قد شهدت تقدمًا وازدهارًا ملحوظًا في صقلية لاسيما بوجود التعايش الاجتماعي الذي جمع مختلف الأطياف والديانات في إطار من الود والتقدير المتبادل. ولا شك أن التجربة العربية في صقلية كانت متداخلة كثيرًا معها في الأندلس نظرًا لتقارب المعطيات في الحالتين، وهذا ما أدى كذلك إلى ارتباط البيئة الشعرية بينهما أيضًا.


وقالت كوراو: «إذا نظرنا إلى الواقع الأندلسي يمكننا أن نلمس بوضوح أن العرب هناك لم يكونوا رجال معارك وحروب، ولكنهم كانوا أصحاب معرفة وقيمة علمية وفكرية، فقد حملوا إرث حضارة الشرق الأوسط إلى أوروبا، وشكلوا مكونًا حضاريًا في تاريخها»، لتنتقل الباحثة بعد ذلك لتطبيق الرؤية نفسها على التجربة العربية في صقلية، حيث تناولت ازدهار الشعر فيها وتجدد خصائصه وأسلوبه، لاسيما في ظل هجرة الشعراء إليها من مناطق شمال إفريقيا. وذكرت من أبرز الشعراء العرب في تلك الفترة مجبر بن إبراهيم بن مجبر الذي أقام في مدينة ميسينا، وكذلك العلامة ابن الرشيق، ومحمد بن عبدون، وعبدالله بن محمد الحسن الطوبي. وكانت تلك الفترة تشهد حضورًا عربيًا لافتًا في صميم الحياة الاجتماعية الصقلية، وظهرت ملامحه في مدينة باليرمو التي كان فيها ما لا يقل عن 300 مسجد، وعدد مماثل من المعلمين والأدباء والمفكرين
العرب.
§    ازدهار السياسة والثقافة معًا
الباحثة فرانشيسكا كوراو، بأسلوب مترابط، في استعراض أبرز الملامح التاريخية في صقلية إبان الحكم العربي، متناولة مدى تميز تلك الفترة باستقلالية الفكر تجاه ما يقوم به الحاكم وعلاقته بالمجتمع، وكذلك الانسجام بين العرب والصقليين، حيث نجحوا في تكوين مجتمع موحد ومتكامل، إلى جانب ما تحقق من التطور الإداري والاقتصادي، والتبادل الثقافي الذي أسهمت فيه رحلات الحجاج إلى مكة، حيث كانوا يعودون من هناك بالمزيد من الحصيلة العلمية والفكرية، وذكرت منهم حمزة البصري، وابن القطاع (الشاعر والمؤلف والدارس في الأدب والمنطق). كما تناولت الباحثة، أيضًا، قضية الهجرة الأدبية من قبل كثير من المثقفين الأندلسيين الذين هربوا إلى باليرمو إبان الصراعات الداخلية في الأندلس مثل ابن المكرم الذي ارتبط بعلاقة مع الإمبراطور الصقلي فيما بعد، وقد زادت تلك الهجرة من حجم الارتباط بين الشعر الأندلسي والصقلي، حيث كانا متفقين تقريبًا في الإيقاعات والوزن

§
   
رحلوا.. وما زالوا هناك!
فيما بعد تتناول الباحثة الإيطالية الفترة الأخيرة من حكم العرب الذي انتهى بسبب الصراعات الداخلية التي سهلت سيطرة النورمانديين على الجزيرة، مبينة أن التعايش الاجتماعي استمر حتى بعد انتهاء الحكم العربي، وكان الوضع في صقلية يشبه ما يحدث في الأندلس حينها، وقالت إن الحاكم روجيرو اعتمد على البروتوكول الإسلامي في تسيير أمور الدولة والمجتمع، وكان صوت الأذان يسمع من قصره، وقد تجاوز الاختلاف الديني من أجل الحفاظ على مصلحة صقلية واستقرارها، لتبدأ بعد ذلك مرحلة أدبية جديدة انصرف الشعراء الإيطاليون فيها إلى الإبداع الجديد. غير أن السمات الشعرية العربية ظلت مسيطرة على الجو الأدبي حينها إلى درجة جعلت الشاعر الإيطالي المعروف فرانشيسكو بيكاركا ينزعج من نجاح الشعر العربي على حساب شعره!
المرحلة التالية شهدت وضوح التأثر الكبير بالشعر العربي في المنتج الإبداعي الصقلي، كما تؤكد الباحثة كوراو، وبدا ذلك واضحًا في التوافق بين الشعر العربي وشعر ما يعرف بالتروبادور. كما أنه تمت ترجمة مؤلفات ابن رشد للإيطالية، وكانت تحظى بإعجاب كبير من المثقفين الإيطاليين ومنهم الشاعر ويدو كبلكانتي، والفيلسوف دانتي، وكذلك الشاعر جاكومودلونتيني الذي كان يؤلف قصائده بأسلوب عربي ولكن بلغة إيطالية. وأضافت: «ما زالت الغنائية العربية موجودة في صقلية حتى اليوم»، وأشارت إلى ملتقى ثقافي قامت بتنظيمه، أخيرًا، في صقلية تحدث فيه باحث إيطالي اسمه بيتنشنسي، وأكد فيه أن صقلية ليس بها أي تاريخ أدبي سوى فترة الحكم العربي. مؤكدة أن هذا الرأي ليس له وحده، حيث يشاركه كذلك ليوناردو شاش وغيره من الأدباء الإيطاليين


§ الصقلي والأندلسي.. توحد أم اختلاف؟
كانت الباحثة الإيطالية الدكتورة فرانشيسكا كوراو تسرد تفاصيل تلك الفترة التاريخية المهمة، بينما الأسئلة تدور في ذهني حول غياب كل هذه التفاصيل عن رصد المشهد الشعري أو النقدي العربي، ومدى ارتباط ذلك بالشخصية الأدبية البارزة للأدب الأندلسي التي كانت مختلفة نوعيًا ربما بشكل لا يكاد يلتفت للنماذج القريبة منه جغرافيًا أو فنيًا. نحن نعلم على أية حال أن صقلية كانت عربية لفترة من الزمن، ولكن لماذا لم يحظ مشهدها الشعري بذلك الزخم نفسه فيما بعد؟
§ حضور الرغبة.. غياب معطياتها!
الإجابة كانت موجودة من المحاضِرة كوراو التي تحدثت بوضوح عن تقصير رسمي من الجهات الثقافية الإيطالية تجاه إبراز المكون العربي في تاريخ صقلية، على عكس الوضع في إسبانيا، حيث تهتم الحكومة هناك بدراسة الحضارة العربية، وتقوم بإعداد الدراسات، ونشر المخطوطات، وإطلاع المثقفين عليها، وقالت كوراو: «نحن نعرف القليل عن الإنتاج العربي في صقلية بسبب غياب الدعم الحكومي في هذا الجانب، وأنا لم أكتشفه إلا بسبب كوني من صقلية واطلعت على بعض المؤلفات عن العرب ومن أهمها الكتاب المهم جدًا الذي ألفه ميكيل أماري في 8 أجزاء وتناول الشعر العربي في صقلية وقد طبع قبل حوالي 4 أعوام».
«على الرغم من أننا نحب المعرفة والثقافة والبحث إلا أن المعطيات لا تساعدنا كثيرًا على ذلك بالنسبة للتاريخ العربي لدينا. ففترة ثلاثة قرون من الحكم العربي ضئيلة جدًا في كتب تاريخنا بل قد لا يتجاوز وجودها صفحة واحدة فقط!!»
§إيطاليون.. من أصل عربي!
عادت الباحثة الإيطالية مجددًا لتناول سمات الشعر العربي في صقلية، وامتدحت ما تميز به من جمالية خصائصه وموضوعاته، حيث تنوعت معانيه بين وصف المشاعر وعلاقتها بالمكان، والتداخل الكثير مع مظاهر الطبيعة والمباني والبيئة الصقلية عمومًا، مبدية قناعتها بأن الشعراء العرب في صقلية كانت لهم بصمتهم على الشعر العربي، مستشهدة بنموذج مهم وهو الشاعر ابن حمديس الصقلي الذي لم يكن يقل في نظرها عن شاعرية المعتمد بن عباد في الأندلس.
وليس الشعر كل شيء، بل هو جزء يتكامل مع الحياة والواقع في صقلية. وقد تحدثت كوراو عن هذا الجانب، مؤكدة أن الجزيرة الإيطالية التي تنتمي لها ما زالت مسكونة بالأثر العربي ليس في أدبها فقط، بل في عاداتها ومشاهدها اليومية، تقول كوراو: «ما زلنا نتذكر قصص الحب العربية الخالدة، ونستشهد بنوادر جحا، وتوجد لدينا الكثير من الكلمات العربية المتداولة حتى الآن». وتحدثت بطرافة كذلك عن وجود الأكلات العربية في صقلية ومنها: «المحشي، والمهلبية وغيرها»، وكذلك يحضر المكون العربي في الحياة الاجتماعية والتقاليد البيتية، كما وصفتها، وعلقت على ذلك قائلة: «يمكنكم ملاحظة ذلك الآن.. يكفي أنني ألقي المحاضرة مرتدية عباءة عربية، وغطاء رأس صقليًا!».
§ ليس للشعر لغة!
وختمت د.فرانشيسكا تلك الندوة الجميلة بقراءات من الشعر العربي، والشعرالإيطالي الذي كانت لغته تنساب بإيقاعاتها المميزة، بينما الحضور في حالة من الإعجاب والتذوق العالي الذي لن يكون غالبًا للمعنى بقدر ما هو للإيقاع فقط، لتنتهي بعدها الأمسية بعد أن تركت انطباعًا جميلًا في قلوب العدد الكبير من الحضور. ولم يكن هناك ما هو أكثر إنصافًا لتلك الأمسية من عبارة الناقد د.سلطان بن سعد القحطاني الذي عدّها «ليلة متوسطية جميلة في رحاب نجد»!