أدب وثقافة |
بقلم: أ.د. عبدالملك بن علي الجنيدي ☼
أثر عن شاعرنا قصائد عديدة في دمشق ونهر بردى والزبداني و أطراف دمشق وأوديتها وجبالها وسهولها. ولعل فتيان الشاغوري أبدع مَنْ وصف دمشق من شعراء الألفية الأولى بعد الهجرة.
يقول في قصيدة من أجود ما قاله عن دمشق:
لَو عايَنَت عَيناكَ بَهجَةَ جِلَّقا وَرَأَيتَ مَنظَرَها البَهيجَ المونِقا لَرَأَيتَ حُسناً كُلُّ حُسنٍ دونَهُ تُعيي البَليغَ صِفاتُهُ أَن ينطِقا
ولدمشق أسماء كثيرة منها الشام وجيرون وعين الشرق والغناء وجلق هو أحد أسماء دمشق القديمة. يقول حسان بن ثابت:
لِلَّهِ دَرُّ عِصابَةٍ نادَمتُهُم يَوماً بِجِلَّقَ في الزَمانِ الأَوَّلِ
ثم يسترسل شاعرنا في بيان جمال دمشق فيقول:
جَنّاتُ عَدنٍ لَم تَكُن مُمتازَةً عَنها بِشَيءٍ عَزَّ إِلا بِالبَقا وِلدانُها وَنِساؤُها كَالحورِ وَالــــوِلدانِ بَل أَبهى وَأَشهى مَنطِقا
وبيته الأخير يذكرنا ببيت لأحمد شوقي يقول في وصف فاتنة:
أَشهى مِنَ العودِ المُرَنَّمِ مَنطِقاً وَأَلَذُّ مِن أَوتارِهِ تَغريدا
والوشاح الجائل هو السلس الملتصق بجسد المرأة، ويستمر شاعرنا فيقول:
ما إِن يُلامُ فَتىً يُرى في جِلَّقٍ أَيّامَ طيبِ سُبوتِها أَن يَعشَقا أَنّى التَفَتَّ بِها رَأَيتَ أَهِلَّةً تَرنو بِمِثلِ عُيونِ غزلانِ النَّقا مَيدانُها لِلهَمِّ أَمسى مَغرِباً لَكِن لِشَمسِ الحُسنِ أَضحى مَشرِقا
فهو يقول إن الهم لا يصيب أهلها فهو في غروب دائم أما الحسن فهو في شروق مثل ما تشرق الشمس. وسبوتها جمع سبت كما قال المعري:
وَيُخالِفُ الأَيّامَ حُكمٌ واقِعٌ فيها وَمِثلُ سُبوتِها جُمُعاتُها
وأما قوله رأيت أهلة فهي دلالة على أن المرأة الدمشقية كانت تنتقب حتى يبدو جمال وجهها كالهلال ولم يقل كالبدر لأنها ليست سافرة، كما قال ابن أبي حصينة:
بِيضٌ يَكُنَّ إِذا اِنتَقَبنَ أَهِلَّةً وَإِذا سَفَرنَ النُقبَ كُنَّ شُمُوسا
ثم يسترسل شاعرنا فيصل إلى ذروة تغنيه بدمشق وهيامه بها فينشد:
كَم مِن غَريبٍ جاءها مُتَبَغدِدٍ فَبَدَت مَحاسِنُها لَهُ فَتدمشَقا مَن ذَمَّها يَوماً وَفَضَّلَ غَيرَها فَلذاكَ مَوسومُ الجَبينِ بِأَحمَقا مَن كانَ يَفخَرُ بِالخَليجِ وَكَسرِهِ وَالنيلُ قَد عَمَّ البِلادَ وَطبَّقا فَلِكُلِّ سَبتٍ مِن دِمَشقَ مَفاخِرٌ أَصبَحنَ أَولى بِالفَخارِ وَأَليَقا
و(تبغددا) نسبة لبغداد وكذلك (تدمشق) نسبة إلى دمشق. ومن هنا قال المعاصرون (سعودة الوظائف) (وبحرنة التجارة)، ويبحر فتيان منشداً في جمال دمشق فيقول:
بَلَدٌ تَراهُ إِذا البِلادُ تَسابَقَت في حَلبَةِ التَفضيلِ جاءَ الأَسبَقا أَكرِم بِنَبتِ رِياضِهِ وَغِياضِهِ وَالنّورُ نورٌ بِالحَدائِقِ مُحدِقا وَالوُرقُ تَشدو وَالغُصونُ رَواقِصٌ إِذ هَبَّ في الوَرَقِ النَسيمُ فَصَفَّقا فَكَأَنَّما الأَرضُ السَماءُ طلاوَة وَالزَهرُ كالزُهرِ الكَواكِبِ رَونَقا مِن أَبيَضٍ يَقَقٍ وَأَصفَرَ فاقِعٍ لَوناً يَسُرُّ الناظِرينَ وَأَزرَقا وَكَأَنَّما المَنثورُ مَنظوماً عَلى قُضُبِ الزَبَرجَدِ وَالزُمُرُّدِ مُشرِقا ويقق شديد البياض أو القهد بلغة الأزد.
و يختم قصيدته ببيت بديع يصور دمشق بأنها أجمل ما خلقه الله من البلاد قديماً وحديثاً:
لَم يَخلُقِ الرَحمَنُ يَوماً مِثلَها أَبَداً وَظَنّي أَنَّهُ لَن يَخلُقا
هذه ليست القصيدة الوحيدة التي تغنى فيها بدمشق، بل له قصائد عديدة في ذلك، وله أبيات مدح كثيرة قالها في دمشق، وهو يسبر طريق قصيدته في مدح حاكم هنا أو سلطان هناك، وللشاغوري قصائد أخرى في حب دمشق منها قوله:
وَعُج عَلى دِمَشقَ تُلفِ بَلدَةً كَأَنَّما الجَنّاتُ مِن رستاقِها سَقى دِمَشقَ اللَهُ غَيثاً محسباً مِن مُستَهَلِّ ديمَةٍ دفّاقِها مَدينَةٌ لَيسَ يُضاهى حُسنُها في سائِرِ البُلدانِ مِن آفاقِها تَوَدُّ زَوراءُ العِراقِ أَنَّها مِنها وَلا تُعزى إِلى عِراقِها
فهو يقول إن بغداد تتوق إلى أن تنسب إلى دمشق مبالغة في المدح والفخر، وزوراء العراق هو اسم من أسماء بغداد. يقول صفي الدين الحلي في قصيدته المشهورة:
سَلي الرِماحَ العَوالي عَن مَعالينا وَاِستَشهِدي البيضَ هَل خابَ الرَجا فينا يا يَومَ وَقعَةِ زَوراءِ العِراقِ وَقَد دِنّا الأَعادي كَما كانوا يَدينونا
ومن قصائد فتيان الجميلة في دمشق قوله:
وَاِذكُر دِمَشقَ فَإِنَّ اللَهَ فَضَّلَها عَلى البِلادِ بِما لا يُمتَرى فيهِ زَهَت بِجامِعِها وَالنَسرِ مُمتطِياً قَوادِمَ النَسرِ تَتلوها خَوافيهِ تِلكَ المَرابِعُ لا حَزوى وَكاظِمَةٌ وَلا العَقيقُ بَواديهِ بِواديهِ أَقَلُّ شِعبٍ تَراهُ في دِمَشقَ يُوا في شِعبَ بَوّانَ وافي الفَخر وَالتيهِ دَع شِعبَ بَوانَ يا مَن بِالهَجينِ أَتى مُطَهَّماً عَرَبِياً كَي يُباريهِ كَم يَوم سَبتٍ بَديعٍ في دِمَشقَ أَتى بِحُسنِ مَن يوسُفُ الصديقُ يَحكيهِ إِذا تَأَمَّلتَها مِن كُلِّ ناحِيَةٍ دَعَتكَ لِلعَجَبِ البادي دَواعيهِ كَأَنَّ مِشمِشَها في دَوحِهِ ثَمَرُ الـ جِنانِ تَجنيهِ مِنها كَفُّ جانيهِ
والمطهم من الخيل هو تام الحسن الذي لا عيب فيه، أما شعب بوان فهو ذلك الشعب المشهور من بلاد فارس الذي مدحه المتنبي بقوله: يَقولُ بِشِعبِ بَوّانٍ حِصاني أَعَن هَذا يُسارُ إِلى الطِعانِ
والمتنبي يقصد بذلك أن ذلك الوادي من الجمال بمكان أن الحصان يقول للفارس هل يعقل أن تترك هذا النعيم وتتجه صوب المعركة وما تحمله من معاني الهلكة والموت.
مدح شاعرنا سلاطين الشام وأمراءها ولم ينس ربط الممدوح بدمشق فيقول مادحاً أحد السلاطين:
بِكَ سُكّانُ دِمَشقَ اِفتَخَروا فَخرَ عَدنانَ قَديماً بِالنَبِيِّ
وقال يمدح سلطاناً آخر: دِمَشقُ هِيَ الفِردَوسُ طيباً وَعَدلُهُ هُوَ الشَمسُ لَم يَجعَل لَها دونَهُ سِترا
كما أن لشاعرنا قصيدة عصماء أخرى في دمشق يقول في مقدمتها: يا راكِبَ الناقَةِ الوَجناءِ يُزجيها وَالشَوقُ وَالسَوقُ هاديها وَحاديها عَرِّج عَلى جِلَّقَ الفَيحاءِ غوطَتُها فَحَيّ جامِعَها عَنّي وَأَهليها
والجامع هو جامع بني أمية، الرمز الشامخ للدولة الأموية التي كانت دمشق عاصمة لها. أما الفيحاء فهو اسم من أسماء دمشق وإن نازعتها في ذلك حواضر أخرى مثل مدينة البصرة. يقول الشاعر العراقي الأخرس: هي البصرة الفيحاءُ لا مصرَ مثلها وفيها لعمري ما ينوف على مصر
لَولا الخُلودُ الَّذي لَسنا نُؤَمِّلُهُ لَقُلتُ إِنَّ جِنانَ الخُلدِ تَحكيها فَإِنَّها بَلَدٌ ناهيكَ مِن بَلَدٍ في الحُسنِ لَيسَ لَها مِثلٌ يُضاهيها كَأَنَّما جَنَّةُ الفِردَوسِ جِلَّق وَال أَنهارُ أَنهارُها تَجري بواديها فَماءُ كانونَ في سَلسالِ رَبوَتِها تُطفي بِهِ نارَ آبٍ حينَ تحميها
إلى أن يقول: يا طيبَ أَزهار أَنفاسِ الرَبيعِ بِها وَالطَيرُ تُطرِبُنا أَصواتُ شاديها
ويضيف: ظَبيٌ مِنَ التُركِ لَم تَترُك لَواحِظُهُ لي نِيَّةً في جَميلِ الصَبرِ أَنويها وَالتُركُ أَبناؤُها تسبي وَتَقتُلُ في دِمَشقَ لَم تَخشَ يَوماً بِأسَ واليها دِمَشق إِن جِئتَها مِن كُلِّ ناحِيَةٍ عَلى اليَفاعِ الَّذي تَحوي حَواشيها حَكَت بَساتينها بَحراً جَواسِقُها فيهِ المَراكِبُ مُلقاةً مَراسيها
أَو السَماءَ وَواديها المَجرةُ وَال قُصورُ فيهِ نُجومٌ سارَ ساريها بُشرى لَها وَلأَهليها بِساحَتِها فَاللَهُ كالِئُهُم فيها وَكاليها
وأهل الشام يعتقدون أن دمشق محروسة بعزة الله، لا يصيبها الضيم وإن تكالبت عليها المحن والفتن، إلى أن يقول: وَالرُخصُ حالَفَها أَن لا يُفارِقَها وَالجَدبُ أَقسَمَ بَرّاً لا يُدانيها أَيّامُ مِشمِشِها لا شَيءَ يُشبِهُها في الحُسنِ كَلا وَلا في الطيبِ يَحكيها
وهذا تقرير اقتصادي موجز لدمشق يبين كثرة الخيرات وسعة ذات اليد، ومن هنا قد تسمع خطيباً مسلماً في أصقاع المعمورة يدعو في صلاة الجمعة بأن ترخص الأسعار، وهي دعوة مباركة حبذا أن تجد خانة لها في دعاء أئمتنا. وقال في قصيدة من قصائده التي ناهز عددها أربعمائة قصيدة:
دِمشقُ هِيَ الفِردَوسُ وَالمِسكُ تُربُها وَحَصباؤُها الياقوتُ وَالماءُ جِريالُ وَمِن شَرَفِ الدينِ المُعَظَّمِ أَصبَحَت عَلى المُدنِ في وَشيِ التَبَجُّحِ تَختالُ لَقَد خَصَّها مُذ حَلَّ فيها وَعَمَّها جَمالٌ وَإِجمالٌ وَفَضلٌ وَإِفضالُ
وقــــــال في أخـــــــــرى مــــن بيــــتين:
كَم مِن قَطائِفَ كَالأَمانِي في دِمَشقَ قَطَفتُها كانَت كَأَلسِنَةِ الأَحِبة بَةِ في الشِفاهِ رَشَفتُها
وقال في أربعة أبيات رائعة:
أَلا حَبَّذا أَنفاسُ ظاهِرِ جلَّق وَقَد نَفَحَت غِبَّ الحَيا المُتَدَفِّقِ وَباناتُ واديها وَهُنَّ رواقِصٌ لَها طَرَبٌ تَحتَ الحَمامِ المُطَوَّقِ إِذا شَدَت الأَطيارُ في كُلِّ بانَةٍ تَجاوَبَتِ الأَوتارُ مِن كُلِّ جَوسَقِ وَنَحنُ بِأَيدي الوَجد سَكرى كَأَنَّما صَبَحنا كُؤوساً مِن شَرابٍ مُرَوَّقِ وقال:
سَلامٌ عَلى أَكنافِ جِلَّقَ إِنَّها لأَوطارِ قَلبي مَسرَحٌ وَمَقيلُ رُبوعُ الهَوى أَمّا الهَواءُ فَشَمأَلٌ بِهِنَّ وَأَمّا الماءُ فَهوَ شَمولُ
ويمتدح الزبداني وهي أرض جبلية جميلة تتراكم عليها الثلوج شتاءً وتنبت الأزهار في فصل الربيع بقوله:
قَد أَجمَدَ الخَمرَ كانونٌ بِكُلِّ قَدَح وَأَخمَدَ الجَمرَ في الكانونِ حينَ قَدَح يا جَنَّةَ الزَّبَداني أَنتِ مُسفِرَةٌ عَن وَجهِ حُسنٍ إِذا وَجهُ الزَمانِ كَلَح فَالثَلجُ قُطنٌ عَلَيكِ السُّحبُ تَندفه وَالجَوُّ يندفه وَالقَوسُ قَوسُ قُزَح مَتى يَجُل فيكِ طَرفُ الطَرفِ مِن مَرَحٍ قَرَيتِهِ لُمَحاً تَأتي بِحُسنِ مُلَح تَلقى النَواظِرُ مِن رَوضٍ نَواضِرَ في قُلوبِنا فَرَجاً مِن هَمِّها وَفَرَح
ويقول في بيت آخر:
وَبِالزَبَداني زُبدَةُ العَيشِ جاءَني بِها المَحضُ مِن مَحضِ الضُروعِ الحَوافِلِ
ويقول في نهر بردى:
أَعيرا يَسارَ الرَّكبِ لَفتَةَ ناظِرٍ إِلى بَرَدى وَالرَوضِ ذاتِ الخَمائِلِ هُنالِكُما نَهرٌ يُرى النيلُ عِندَهُ إِذا فاضَ في مِصرٍ كَبَعضِ الجَداوِلِ
وهي مبالغة لها ما يبررها من حب دمشق على سائر البلدان ويضيف:
إِذا قابَلَ النَهرُ الدُجى بِنُجومِهِ أَرانا بِقَعرِ الماءِ ضَوءَ المَشاعِلِ
دلالة على صفاء ماء ذلك النهر، لكن ليت الشاغوري ينظر إلى نهر بردى اليوم وقد سطت عليه يد التلوث والعمران مثل ما سطت على غيره في سائر البلدان.
بل ويفاخر بدمشق على مصر ونيلها فيقول:
إِذا اِفتَخَرَت مِصرٌ عَلَينا بِنيلِها فَدَمعي فُراتٌ في دِمَشقَ وَنيلُ
والمقصـــــود بالبيت أن طيب العيــــش ولذته في
دمــشق أكسب شاعرنا عذوبة في الدمع!.
☼ أستاذ بكلية الهندسة - جامعة الملك عبدالعزيز- جدة
|
© مارس 2007 مجلة " أهلا وسهلا ". |