المغرب..
عروس الأطلسي وموطن الأساطير
مدنها..الإحساس
والرغبة والاشتهاء والمتعة الجمالية, صعب أن يكون لها مثال.
المغرب: فتيحة معروف

§       يبقى التراث ممتدًا في مدنهًا، والتجوال ممتعًا في أنحائها
§       أريج الأندلس يلفح أنوفنا أينما حللنا وارتحلنا
§       هي فردوس الباحثين عن التشويق في ساحاتها المظللة وأزقتها الضيقة
§       وسط جبال الأطلس المتوسط، ينتابك شعور أنك في معرض فني

ما إن تحط رحالك في أرض المملكة المغربية، إلا وتلمس فسيفساء من سحر الشرق وجمال الغرب، تستنشق عبق التاريخ الطويل الذي لا يكاد ينتهي، بداية من القصور القديمة، مرورًا على  ساحات الحكي، وقصص ألف ليلة وليلة، ووصولًا لعبق شاي النعناع الذي يصاحب كل جلسة فرحًا بقدوم الضيف.

تتلألأ مدن بشوارعها وببيوتها الحبلى بالعواطف والأحاسيس الحية، والأماكن ذات العبق والأصالة المنتشرة في طول البلاد وعرضها، والتي تدعو إلى الاستغراق في رحلة من التأمل العميق، وعندما تقلب صفحات سفرك، فكأنك عبر الزمان، وسرت في متاهات من الدروب والأزقة والأتربة الندية والنباتات المعلقة في تناغم أسطوري.. يشم القادم إليها رائحة البخور الممزوج بروائح الحناء والورد والحبق المنبثق من التاريخ.

 

مراكش: مدينة الحمراء

تقف جدرانها بلونها الأحمر الباهت المائل للوردي، حاملة بين ثناياها الكثير من القصص والروايات، فسيحة الأرجاء، أسطورة في الكرم الحاتمي، والضيافة العربية، تستقبلك بترحاب وهي متربعة بإعزاز وإكبار في أحضانها، لا تمل النفس ولا العين من التجوال في عبق التاريخ والسفر في ضيافة السعديين، والموحدين، والمرابطين.

تصل الضيافة لاستقبالك في قصر البديع للمنصور الذهبي، والذي جلب لبنائه وزخرفته أمهر الصناع، حتى إن بعض المؤرخين والجغرافيين القدامى قد عدّوه من عجائب الدنيا، حدائقها تبدو كواحة كبيرة، أشجار النخيل، أريج الحبق والياسمين والعنبر.

ويبقى التاريخ شامخًا في مراكش، زاهيًا مترفعًا، مفتخرًا بحضارة جعلت مدينة الحمراء صرحًا للعلم والثقافة، وقبلة لطالبي العلم، وفقه الآداب، فتوافدت رحلات طلب العلم من مدن المشرق والمغرب، وحطت الرحال في «جامع الكتبية» أروع مآذن الإسلام، بل أروع ما بقي لنا من مآذن المساجد القديمة كلها، رائعة من روائع الفن المعماري الإسلامي، فهي جامع مربع الأضلاع، تتكون قاعدتها من ستة طوابق من الغرف المقوسة أو الحنايا، يصل بينها درج لا مرقاة بها، إنها توأم الخالدة في مدينة أشبيلية الأندلسية.

لكن سيبقى الوصف قاصرًا لأجمل مدن الدنيا لو لم نعرج إلى «ساحة الفنا» حيث ما زال الحاكي يقص «كان يا مكان في قديم العصور والأزمان»، إنه فضاء للفرجة والتَّبضُّع، عصية على التعريف، صعب أن يكون لها مثال، وليس لها مثيل، تحيط بها دكاكين وفنادق ومقاه ودروب، معمارها تؤثثه حلقات الفرجة من الفقهاء ورواة الحديث والسيرة النبوية والقصاصة والحكواتيين والمغنين والفلكيين والفاكهيين والمزينات ومخضبات الحناء، وتستمر الفرجة في ساحة جامع الفنا طيلة النهار وجزءًا من الليل، يتحلق حول أبطالها وشخوصها رواد يذكون أجواء الحماس بالتصفيق وعبارات الثناء وزغرودات النساء. وفي نهاية تطوافك ستسعد بتناول أشهى المأكولات التي يعمر بها المطبخ المراكشي الشهير من الكسكس، والبسطيلة، والبقول، والسمك، والمقليات، والدجاج، والطاجين المغربي.

فاس.. أميرة المدن

لكن من العسير على المرء أن يؤكد نجاح زيارته للمملكة المغربية إذا لم يتوجها بزيارة مدينة فاس «أميرة المدن» الناطقة بأبلغ لغات الجمال، إنها عبق الشرق، ومجد الحضارة، من دخلها لابد أن يقع أسير غرامها، إنها أشبه بلوحة فنية حية، تعكس قصة الحضارة والعراقة، حيث المساجد، والكنائس، وطريق الحرير، وتنتشر القلاع والحصون، والقصور، والأسواق العتيقة، والمدن الذهبية.

مدينة احتضنت أول جامعة في العالم «جامعة القرويين» التي بنيت كمؤسسة تعليمية لجامع القرويين الذي يعد من أشهر المساجد بالمغرب، وقد بنته السيدة فاطمة بنت محمد الفهري في عام 24٥هـ الموافق 85٩م. ويتميز بمنبره المصنوع من الخشب المرصع بالنقوش والزخارف التي تؤرخ لحقبة إشعاع الحضارة الإسلامية في المغرب وبلاد الأندلس، كوكب تحيط به النجوم المضيئة، كمدرسة فاس، والمدرسة المصباحية، ومدرسة الصفارين، ومدرسة العطارين وغيرها.. ولا زالت هذه المدارس تقوم بدور كبير في تلقين الطلبة القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية.. فلا شيء أروع من الولوج إلى دهاليزها، فهنا سكن ابن خلدون، ولسان الدين بن الخطيب، والعلامة الأندلسي أبوبكر بن العربي، والحاخام اليهودي القرطبي موسى بن ميمون، قال عنها ابن بطوطة: «إنه لم ير مثلها لا في سوريا ولا في مصر ولا في العراق ولا حتى في خراسان».

الرباط.. حورية المدن

ويبقى التراث ممتدًا، والتجوال ممتعًا، فمن منا لم يسمع عن مدينة الرباط «رباط الخيل والخير» عاصمة المغرب، وقبلة الوافدين! فلا يمكن أن تمر بانعطافات المدينة العربية والإسلامية دون أن يلفك عبق الماضي، في حدائق شالة، والوداية، وصومعة حسان، كلها أماكن تروي تاريخًا واحدًا هو تاريخ الفتح الإسلامي.

ولن تفاجئك «حورية المدن» ببيوتها ودورها التي ارتفعت جدرانها تأكيدًا لحرمة فناءاتها، وروعة هندسة شوارعها وأزقتها، شعور لن نكتشف سره ينتابنا عندما نكون بداخل أجمل المدن العريقة، وتلك الحميمية التي يشعر بها الزائر الذي يستطيع أن يتنسم عبق الماضي بين جدرانها التي لا تزال شامخة رغم مرور قرون طويلة على بنائها.

ووسط المدينة تلفح أنفك نكهة مميزة من رائحة الشاي المغربي المعطر بالنعناع، فمعظم واجهات الشوارع مقاه، زبائنها من الشباب والشياب، هادئة لا جلبة فيها ولا ضوضاء، والناس صامتون أو يتحدثون بهدوء.

الدار البيضاء.. عروس محسودة

كما حبا الله المملكة بزرقة المحيط، وشساعة البحار، وحرارة الرمال، من لا يعرف تلك المدينة الرائعة التي لا تنام، بوابة الشمال، والتي تحمل عبق التاريخ والأصالة، ورائحة الماء المملح، ذللت بأجمل المسميات، مدينة القديسين، أم الشواطئ، وكازابلانكا، إنها مدينة الدار البيضاء، عروس المحيط الأطلسي، تبعد عن أوروبا بأقل من ساعتين، وعن نيويورك بأمريكا بأقل من ثماني ساعات، هذه المدينة المغربية الشهيرة، والتي لها موقع خاص في قلب كل من زارها.

حسدتها المدن الأخرى، لأنها سكنت قلب ملكها الحسن، وحظيت بشرف إيواء معلمة القرن «مسجد الحسن الثاني» الأعجوبة الإسلامية العصرية المطلة على مياه الأطلسي، أجمل مساجد العالم وأكبرها، بمنارته الشامخة، وقبته المتحركة، علامة تزخر بالفن العربي والزخرفة الأصيلة، كل هذا ينبض بفن الروح المغربي، والمسبوك من عناصر تصاهرت معًا، لتعطي لوحة فنية من زخارف «الزليج» أو فسيفساء الخزف الملون على الأعمدة والجدران وأضلاع المئذنة وهامتها، والحفر على خشب الأرز، وأعمال الجص المنقوش الملون في الحنايا والأفاريز.

إنه تراث فني يستمد جذوره من عبق أول مسجد في عمر الإسلام بالمدينة المنورة منذ ألف وثلاث مئة واثنتين وسبعين سنة مضت، ويبلور حصاده إسهامات السنين والأمصار، من الكوفة والأندلس حتى فاس ومكناس ومراكش. ففسيفساء «مسجد الحسن الثاني» تجذب الرائي لتنتزعه من عالم الواقع المحسوس إلى عالم الروح اللا متناهي.

وتحفل المدينة التي تحكي عن الأزل، باختلاط الهندسة الغربية التقليدية، والطراز المعماري الفرنسي، ازدادت المدينة جمالاً بازدياد الأشكال والألوان والأنوار، حافلة بالحركة والحيوية، والحدائق العامة، والنوافير الجميلة، والمباني التقليدية والحديثة، وهي مدينة بديعة تجتمع فيها الثقافة والتاريخ والهندسة المعمارية ضمن أسلوب فريد.. إنها فردوس الباحثين عن التشويق في ساحاتها المظللة وأزقتها الضيقة، ومنازلها الكبيرة، وأسواقها الشعبية، وميادينها وساحاتها التي تنبعث منها أنغام موسيقا ساحرة، وسط أسراب من الحمام الأبيض.

لكن لن تكتمل الجولة إلا بزيارة أروع شواطئ الدار البيضاء الجميلة، والمشي قرب الكورنيش، حيث يستطيع الذواقة الاستمتاع بأشهى الأطعمة التي تمتزج فيها فنون الطهي المغربية والفرنسية، وحيث ترى عناق البر والبحر.

طنجة.. مدينة الأساطير

وإذا أبحرنا من بحر الأطلسي إلى البحر الأبيض المتوسط، فلن نجد أجمل ولا أروع من مدينة الأساطير، مدينة تشبه حديقة التاريخ «مدينة طنجة»، إذ نسجت حولها أساطير، تنافس أساطير هرقل، وأطلس، وآلهة زيوس، واللبن المسحور، بل اسم المدينة نابع من أسطورة، إذ يحكى أن سفينة نوح كانت تتلاطمها أمواج أعماق البحار، فأرسل نوح طائره، الذي غاب أيامًا، ولما عاد، كان منقاره ممتلئًا بالطين، دلالة على وجود يابسة قريبة، فصرخ ركاب السفينة فرحًا: طين جا...طين جا.. فسميت بطنجة «مدينة النجاة».

تقع على ربوة عالية مطلة على مضيق جبل طارق بمواجهة الشاطئ الإسباني، بين البحر الأبيض والمحيط الأطلسي، أغدق عليها الخالق، سبحانه وتعالى، سحرًا، وأضفى عليها عبق التاريخ نكهة خاصة بأساطيره المثيرة الممتعة،

إن بقايا عمائر طنجة ومبانيها القديمة  بأشكالها الرومانية والأندلسية والأوروبية ما زالت خير شاهد على تاريخ الموجات البشرية المتتالية التي مرت بها، فقد سمعت طرقات المدينة وقع حوافر خيول الفينيقيين والقرطاجيين والرومان والعرب، ومنها انطلق موسى بن نصير، وطارق بن زياد لنشر نور الإسلام.

«طين جا» جنة السياح وقبلتهم من شتى بقاع العالم، في هذه المدينة التي تجمع في تناغم فريد بين عبق الماضي المباني العتيقة في ساحة المدينة القديمة، المصممة على النمط الأوروبي الوسيط، والذي يشعرك بأنك تتجوّل في أحياء لندن أو برشلونة ذات الطابع المميز، وبين العصر الحديث بالتنزه ليلًا على الساحل، وارتياد مقاهي طنجة الشهيرة، مثل «نكريسكو» و«لحافة» بطابعهما المميز، والذي يترك في النفس انطباعًا بأنك داخل لوحة فنان، تمتع بالمنظر الفريد عبر البحر المتوسط والمحيط الأطلسي في آنٍ واحد، إنها الإحساس والرغبة والاشتهاء والمتعة الجمالية، إنها الموطن الأسطوري، الذي طالما تغنى به لأدويسيوس، إنها كالعاشق الذي لا يبرح سقام غرامها.

سحر وخيال في حدائقها الخضراء على شواطئ البحر، في بيوتها المتلاصقة، في حواريها وأزقتها وشوارعها صاحبة الأريج المعطر، في أسواقها العامرة، وفي ترابها الزعفراني المعطر برائحة الشرق والغرب، عشقها يلامس القلوب وسر العشق مخزون، ربما هو عبق التاريخ الطويل الذي عاشته المدينة في هذا المكان المتميز من البحر.

مدينة إيفران «الجوهرة»

وما أروع، ولا أشهى من رؤية جمال المملكة من قمم الجبال المغربية. ففي قلب الجبال، المفعمة بالثلوج الناصعة، تختفي مدن عن الأنظار، محاطة بشلالات وبحيرات، غابات ووديان، تلال وسهول.. ثلوج في الشتاء، زهور في الربيع، اعتدال مناخي في الصيف، هدوء في الخريف، كمدينة ايفران الجبلية، تحيطها كهوف سحرية تمنح شعور الذهول والرهبة، تذلل باسم «الجوهرة» «سويسرا الشرق» و«حديقة العرب» في عمقها عنقود من عناقيد جبال الأطلس، المظللة بأشجار الأرز، والبلوط، والنباتات الخضراء على مدار السنة، وتسكن في رحابها زرقة المياه النقية، والطبيعة الخلابة، الشلالات والبحيرات والغابات والوديان، تلال وسهول قرود وخنازير برية، وأنواع الطيور النادرة.

هنا وسط جبال الأطلس المتوسط، ينتابك شعور أنك في معرض فني، تتجول داخل لوحة خريفية رائعة على أرض ترتدي حلية خضراء موشحة بمختلف أنواع النور البري الزاهي الألوان ودنو السحاب المنفوش في الأفق، وتقاطر رذاذ المطر، على منازلها الأوروبية بلمسات مغربية أطلسية، بقرميدها الأحمر، وشوارعها الشاسعة، وساحاتها الفسيحة، وبيئتها الفيحاء، وهدوء لا يكسره سوى تساقط الأوراق الصفراء المذهبة على جذوع الأشجار، والحدائق والفسيفساء التركية والرومانية والنقوش والفنون المعمارية، لا تشبه في هندستها ومعمارها بقية المدن المغربية الأخرى، وكل من قادته قدماه إليها يخيل إليه لأول وهلة، أنها بلدة اقتطعت من أوروبا، ولكأنه في «لاهاي» أو «ببرن»، يحميها تمثال الأسد المشهور الأبيض الخشن تحت ظلال شجر الصنوبر السامق وقد تساقطت أوراقه المصفرة على الأرض.

شفشاون.. سيمفونية المدن

لكن مسك الختام، لن يكون إلا بسيمفونية المدن، بموسيقاها العذبة، التي تعزف سيمفونيتها لتصل للجبال والمنازل البيضاء، مدينة الأصالة والعشق، إنها مدينة شفشاون تحكي الأسطورة أن ملاكًا كان يقف عند قمة الجبل كل يوم على مر السنوات ليراقب محبوبته، فسميت شفشاون أي «قمة الجبل»، في الطريق إلى «شفشاون» يصحو الفجر مبكرًا بشغب الفرح، يسبقك اخضرار أشجار «الشويحات» التي لا توجد إلا بالمدينة، وعلى أطراف نهر البهجة تستيقظ جبال الأطلس، ليصير المشهد أسطورة جذبته عتبات الحنين، ولكل من فر من صخب المدن، نحو أحضان شفشاون العبق لا تستطيع مغادرتها دون أن تصاب بحمى عشقها.

فعلى تلك الأرض الطيبة مر الرومان والبيزنطيون، ومنها انطلق ابن خلدون، والإدريسي، وابن بطوطة، وابن رشد، وابن طفيل، ولها يعود كل محب بعد غربة طوت سنواتها شهورها، شفشاون المدينة الساحرة، التي تستنشق في نسيمها عبق السحر، وتقرأ في دروبها وعلى جدرانها، شغب صباي، وتستمد من شموخ جبالها، دروس الصبر والثبات في مواجهة أي تيار يقذفه الزمن في الطريق مهما كان عاتيًا، وفي علو قممها أسمى القيم التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان.

تحتضن المدينة تاريخًا، وجمالًا، ك«القصبة» التي بناها الأمير أبو الحسن علي بن راشد، وأوطنها بأهله وعشيرته، فأحاطها بسور تتوسطه عشرة أبراج، ويجسد طريقة بنائها النمط الأندلسي في العمارة. يحتوي الفضاء الداخلي للقصبة على حديقة كبيرة مزينة بحوضين، كما يتخذ هذا المبنى تصميم المنازل التقليدية المغربية التي تتوفر على ساحة داخلية مفتوحة تتوسطها نافورة مائية، محاطة بأروقة وغرف، وعبر الطرقات المرصوفة بالحجارة القديمة يكتشف الزائر التشابك الجميل بين المنازل وكأنها جسد واحد يمتد على طوال القرية شرقًا وغربًا، وتستقبل الضيف «ساحة وطاء الحمام» قطب المدينة التاريخي والسياحي، كانت الحمائم تنزل في نافورتها أيام الحر والقيظ، والآن ساحة سياحية، بها المقاهي ودكاكين، ويبقى أريج الأندلس يلفح أنوفنا في أحياء شفشاون، بيوتها البيضاء الممزوجة بالأزرق السماوي، الدال على مهارة الصانع المغربي، وجمال الحضارة الأندلسية الخالدة في حي السويقة، وحي ريف الأندلس.