|
||||||||
النفس سر السعادة ومخزن الثروات الحقيقية: السكتة النفسية إن أعظم ما يعود على الإنسان من حسن صلته بذاته هو أن يغرس فيها فقط محبة الله وحده. كان للفيلسوف الألماني «كانت» جار له ديك أزعجه كثيرًا، فقد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عَمِدَ إلى شغله صاح الديك، فأزعَجه عن عمله، وقطع عليه فكره. فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ويذبحه، ويطعمه من لحمه، ودعا إلى ذلك صديقًا له، وقعدا ينتظران الغداء ويحدِّثه عن هذا الديك، وما كان يلقى منه من إزعاج، وما وجده بعده من لذة وراحة، ففكَّر في أمان، واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته، ولم يزعجه صياحه.. ودخل الخادم بالطعام معتذرًا، إن الجار أبى أن يبيع ديكه، فاشترى غيره من السوق، فانتبه «كانت» فإذا الديك لا يزال يصيح! يقول الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، معلقًا على هذه القصة: «فكّرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شَقِيَ بهذا الديك، لأنه كان يصيح، وسَعِد به وهو لا يزال يصيح، ما تبدَّل الواقع، ما تبدَّل إلا نفسه، فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته». نعم يا سادة إنها النفس سر السعادة، ومخزن الثروات الحقيقية وهي التي يتوقف عليها فلاح الإنسان أو خيبته في الدنيا والآخرة. فالفلاح لا يكون إلا بصلة الإنسان بذاته وتزكيته لنفسه وتهذيبه لها، أليس الله يقول وهو يقسم بالنفس تعظيمًا لشأنها وتبيانًا لعظم قدرها:}ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها* كذبت ثمود بطغواها{ أي بطغوى النفس. بمعنى أن كل من تواصل مع ذاته واجتهد في تزكية نفسه، وتطهيرها، وتنمية الاستعدادات الفطرية للخير فيها، ومقاومة نوازع الشر المتداعية بين جوانبها فقد فاز وأفلح، ومن أهمل كل ذلك، وجافى هداية ربه، أغمس نفسه في وحل المعاصي، وأطفأ أنوار الفطرة الربانية فيها فقد خاب وخسر. لقد جاء الإسلام فوثّق من عرى التواصل بين الإنسان ومجتمعه، فجعل أحبّ العباد إلى الله أكثرهم تواصلًا نافعًا مع الناس، كما قال المصطفى، صلى الله عليه وسلم: «الخلق عيال الله، وأحبّ العباد إلى الله أنفعهم لعياله»، ثم إن التواصل مع الأقارب أوجب وأكثر أجرًا فالأقربون أولى بالمعروف، كما أن قطع الصلة بهم من عظائم الذنوب التي عدّها الإسلام من الموبقات، وكلما زادت القرابة زاد وجوب التواصل والصلة، وكانت عقوبة القطيعة أشنع وأشد. فحقّ الأم في الصلة والتواصل أعظم من حقّ الأب، وحقّ الأب أعظم من حق الأخ، وحق الأخ أعظم من حق ابن العم، وهكذا دواليك. ولكن هناك قطيعة كبرى يقع فيها كثير من الناس فتورثه همًا وغمًا وحزنًا في الدنيا، وخسارة وعذابًا في الآخرة، القطيعة الكبرى هي قطيعة الإنسان لنفسه التي بين جنبيه. إن نفوسكم يا سادة هي الأقرب إليكم وصلتها الأوجب عليكم أليس الأقربون أولى بالمعروف، وعندما تنقطع الصلة بين الإنسان ونفسه يكون من الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، يقول الحق تبارك وتعالى: }وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ{ ويقول سبحانه: }الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون{. العاقل في هذه الدنيا من وثّق صلته بذاته، وداوم على تزكيتها ورعايتها وتعاهدها، فيكون شعاره: «لنفسي من نفسي عن الناس شاغل» عندئذ لا يأبه بكلام الناس، بل تراه دائم الاتصال بذاته، محبًا للوقوف مع نفسه والخلوة بها، لأن حبل الصلة بينهما متين، ورباط المودة بينهما وثيق... أما من وقع في قطيعة مع نفسه، فإنه لا يطيق أن يخلو بنفسه ولو للحظات... لأنه سيكتشف عندئذ مدى إساءته لها، وإجحافه في حقها، تخيّل لو أن لك صاحبًا وعلاقتك به تشوبها الشحناء والبغضاء فهل تراك تأنس بالخلوة به والحديث معه؟ تأمّل معي أخي قصة عمر بن الخطاب مع الرسول، صلى الله عليه وسلم، عندما قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه، وماله، وأهله، وولده، والناس أجمعين»، فقال عمر، رضي الله عنه: والله إنك يا رسول الله أحبّ إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال له المصطفى، صلى الله عليه وسلم: «لا يا عمر، حتى من نفسك» فقال عمر، رضي الله عنه: والله إنك أحبّ إلي من نفسي، ومالي، وأهلي، وولدي، والناس أجمعين، قال، صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر». الذي أريد التركيز عليه هو أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم ينكر على عمر، رضي الله عنه، أنه يحب نفسه أكثر من كل شيء، إلا أنه أنكر حبّه لها أكثر من حبه للرسول، صلى الله عليه وسلم. فنفسك يا أخي يجب أن تكون أكثر من يحظى ببرك وصلتك، أليس الأقربون أولى بالمعروف؟ ومن أقرب إليك من نفسك؟! العاقل لا بد له من وقفات مع نفسه بشكل دوري لا يمر يوم إلا ويخلو بنفسه، ويحاسبها، ويهذبها، ويتعاهدها بالرعاية والصلة. قال الحسن، رضي الله عنه: «لا تلقى مؤمنًا إلا يحاسب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ ماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدمًا لا يحاسب نفسه». ذكر الإمام أحمد عن وهب قال: «مكتوب في حكمة آل داوود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات وإجمامًا للقلوب». كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: «حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة». يجب أن يعرف الإنسان أنه مكون من شيئين هو ونفسه... ونفسه هي التي تعيش معه، وبين جنبيه طول حياته... ولذلك فإنه لزامًا عليه أن يحسن فهم نفسه، وأن يحسن التواصل بها وتزكيتها... وأن تكون العلاقة بين الطرفين علاقة فهم وتجانس وتفاهم... والذي يقطع صلته بنفسه، فإنه في نهاية المطاف إن لم يتدارك أمره فسيصل إلى مرحلة ما أسميه «السكتة النفسية». السكتة النفسية أعرفها بأنها تمثل حالة متأخرة جدًا لسوء العلاقة مع الذات، والتي بدورها تؤدي إلى الانتحار أو الأمراض النفسية المستعصية. إن الأمراض النفسية، وحالات القلق، وحالات الانتحار أصبحت سمة العصر، والإحصاءات العلمية الحديثة تفيد بأن الانتحار على سبيل المثال أخذ يفتك بالمجتمعات ويحصد الأرواح. وتقدر الإحصاءات نسبة الانتحار عالميًا بمعدل حالة انتحار كل أربعين ثانية. أما في الصين فكشف أول استقصاء ينشر إلى أن الانتحار يعدّ السبب الأول للوفاة بين الشباب، كما أن ربع مليون يموتون انتحارًا سنويًا من مجمل مليونين يحاولون الانتحار. إن أعظم ما يعود على الإنسان من حسن صلته بذاته هو أن يغرس فيها فقط محبة الله وحده، وأن يكون همّه واحدًا، وأن يكون في الله. يقول ابن القيم: «من علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلّق المحب المضطر إلى محبوبه ، الذي لا حياة له، ولا فلاح، ولا نعيم، ولا سرور، إلا برضاه والأنس به، فيه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل ، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف، فذكره قوته وغذاؤه، ومحبته والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفاف إلى غيره والتعلّق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه. إن في القلب فاقة لا يسدّها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده ، فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها، ويصير إلى حياة طيبة». عندما يكون الإنسان دائم الصلات بنفسه تكون جنته في صدره أنى ذهب، فهي منبع سعادته الدائم، يقول أحد الصالحين: «إنه ليمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب». لقد تمعنت مليًا في قول المولى عزّ وجل: }إن الأبرار لفي نعيم* وإن الفجار لفي جحيم* يصلونها يوم الدين{ فوجدت، والله أعلم، أنها تدل على أن الأبرار جمع بر، وهو من يكون بارًا بربه أولًا ثم بنفسه ثانيًا بصلتها، وتزكيتها، وتهذيبها، وتعاهدها، فإنه في نعيم في الدنيا، والفجار في جحيم في الدنيا ويصلونها يوم الدين. كان الفوت عند الصالحين أي أن يفوتهم خلوتهم بأنفسهم ومناجاة ربهم أشدّ عليهم من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق أما الموت فهو انقطاع عن الخلق. |
||||||||
|
||||||||