إدجوار رود

مربط خيل العرب في لندن!

العرب يسامرون ساعات الفجر.. والقضاء يقر الالتزام بقواعد البيئة المحلية.

§       الحضور العربي أحد أسباب ارتفاع أسعار العقارات
§       حرب لبنان هجّرت إعلام العرب لبريطانيا
§       شارع العرب يسقط حواجز التقاليد العربية
§       إدجوار رود خط التماس بين حضارتين

 

مع بداية القرن العشرين، وتوالي الأزمات التي حلت بالمنطقة العربية، تدافع بعضنا لقصد الدول الأوروبية والغربية في هجرة حملت معها إرثهم الثقافي وموروثهم الاجتماعي، فغرسوا حضارة وارفة الظلال تمتد الأكف إليها لتقطف نجوم الياسمين، هكذا حال العرب، أينما يحطوا الرحال يرسموا بصمة على خارطة الزمان والمكان، هكذا هي حالهم مع الكثير من مدن العالم التي شدوا الرحال إليها ومنها عاصمة الضباب لندن.

إدجوار رود.. ذاك الرواق الممتد من ميدان ماربل آرش في قلب لندن وحتى مشارفها في الشمال.. لا تخلو نسماته من نفحات الشرق، تقتحم أجواءه مع أنفاس آلاف السياح القادمين من جميع أنحاء الشرق الأوسط، يحملهم إليه شوق التمتع بجلساته الصيفية، تخرج المطاعم والمقاهي خدماتها إلى الأرصفة على جانبي الطريق، فيجتمع العرب حول موائد الطعام والشراب والنرجيلة وألعاب النّرد والدومينو حتى ساعات متأخرة من الليل، تُسمع أحاديثهم بمختلف اللهجات العربية وسط قهقهات عالية ونظرات مختلسة للمارة من كل جنسيات العالم التي تحتضنها لندن كمجتمعات مصغرة لهم في أحيائها الأخرى. فالصينيون يقطنون حي سوهو والهنود في ساوتهدل، وأما الأفارقة فيوجدون في بريكستون.

يرحب الإنكليز بهذه الظاهرة في عاصمتهم، بل ويطلقون بعض النكات على إدجوار رود بعد انتشار لوحات في نوافذ المحلات تعلن لزبائنها أن هناك من يتحدث اللغة العربية فيها. فيقول رجل إنكليزي إنه فوجئ في أثناء مروره بشارع العرب بعبارة تتصدر واجهة أحد المحلات «نتحدث الإنكليزية».

وعن اكتساب إدجوار رود السبغة العربية تؤكد مصادر تاريخية أنها تعود لعصر الهجرة العربية الحديثة من المنطقة عقب الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وقد رافقتها هجرة إعلامية إلى لندن لتأسس صحافة «البان آراب» التي ما زالت تمد خيوطها بقوة حتى الآن، ممثلة بثلاث صحف عربية رئيسة، وبعض المجلات والصحف الأخرى، ومكاتب كبيرة لمحطات فضائية تبث من لندن ومن الخليج.

هذا الفسح الإعلامي العربي المستقر اقترن بحضور اجتماعي وثقافي وسياسي صاحبته الخدمات التي تراكمت عبر السنين في بعض المناطق التي كان أهمها إدجوار رود، ثم إكسفورد ستريت، ونايتسبردج، وسلون ستريت، وإيرلز كورت. وهي الشوارع التي تلبي حاجيات العرب في التسوق والتنزه بين معالم لندن الشرقية، ولكن إدجوار رود استقى شهرته من كثافة الوجود العربي الدائم الذي تظهر معالمه من منافذ تجارية شهيرة مثل مطاعم مروش والمكتبات التي تتصدرها الصحف العربية الصادرة من لندن وفي الخارج، إضافة إلى الخدمات المتخصصة الموجهة إلى السياح في البحث عن الشقق المفروشة، وتأجير السيارات، والحصول على تذاكر الحفلات، وترتيب الرحلات في بريطانيا.. علاوة على أن إدجوار رود مقر النادي العربي، ومنه يتم التعاقد على السفر الجوي أو الشحن الفوري إلى كل أنحاء الخليج والشرق الأوسط.

وبحسب أحد العاملين، في أحد المقاهي، فإن السياح العرب يخضعون لروتين يقلب حالهم، ليجعل نومهم في الصباح بعد سهر طويل يمتد حتى الفجر، فيبدأ يومهم، عادة، بعد منتصف النهار بزيارة إلى «هايدبارك أو إكسفورد ستريت» ثم العودة عصرًا إلى مطاعم إدجوار رود ومقاهيه. وبعضهم يهجر المكان ليلاً إلى منطقة أخرى غربي لندن ليرتادوا الأندية والمسارح، بينما يبقى بعضهم الآخر لاحتساء الشاي والقهوة في سهرة ممتعة يطالعون فيها الصحف العربية، وقنوات التلفاز العربية الفضائية.

وفي محاولة للخوض تحت سطح الأحداث يمكن اكتشاف تأثير العربي الحقيقي في بنية النسيج الاجتماعي للمنطقة من خلال علاقاتهم مع غيرهم من السكان الأصليين، ليجعلوا من إدجوار رود خط التماس بين حضارتين اختلفت ثقافاتهما، إحداهما تفضل الهدوء كعلامة فارقة للتحضر، والأخرى تستمد بقاءها من الضوضاء والحركة والحياة بكل أبعادها. حيث يكشف مجلس حي ويستمنستر الذي يتبعه الشارع أن معظم الشكاوى التي يتلقاها تتعلق بالضجيج الصادر من العرب مقيمين كانوا أم سياحًا. ولهذا فُرضت بعض الشروط القاسية لتوفير الراحة لمن يرغب فيها من السكان بشكل يحقق الموازنة بين حاجات الجميع، ورفض المجلس طلبات المطاعم والمقاهي لفتح أبوابها حتى الصباح، ويشترط عليها الالتزام بقواعد الهدوء التام بعد منتصف الليل، سيما فيما يتعلق بحفلات الرقص الشرقي التي ترافقها أنغام الموسيقا الصاخبة.

وقد لا تدخل هذه الجهود ضمن اهتمامات السياح العرب، ولكنهم يلاحظون تحسن المناخ العام في شارعهم المحبوب عامًا بعد عام. وربما كانت مثل هذه المشاريع التي تقوم على الجهود الذاتية وراء الإقبال والحضور العربي المتزايد في إدجوار رود، والذي لم يتوقف منذ منتصف السبعينيات. حيث يلتقي العرب خارج قيود مجتمعاتهم. وتبقى لندن أكثر مدن الغرب انفتاحًا وترحيبًا بزوارها العرب الذين يجدون في إدجوار رود كل ما يخطر على بالهم من سلع وخدمات بما فيها أسطوانات الـ و العربية. كما يمكن مشاهدة الأفلام العربية خلال الموسم الصيفي في سينما أوديون القابعة في بداية الشارع. وأما منافذ بيع شطائر الفلافل والشاورما فتنافس محلات ماكدونالدز وبرغر كنغ في شعبيتها. ومن حسن الطالع فقد بقي إدجوار رود خارج رسوم المرور في وسط لندن التي توسعت هذا العام غربًا وليس شمالاً. وهذا يعني أن الذهاب بالسيارة إليها ما زال رحلة مجانية لا ينبغي معها دفع ثمانية جنيهات كحال المناطق الملاصقة له.

وفي استبيان لواقع السوق العقارية في شارع العرب، نجد أسعار العقارات قد ارتفعت فيه تميزًا عن مناطق لندنية مشابهة بسبب الإقبال العربي. فثمن شقة صغيرة مكونة من غرفة نوم واحدة يزيد على ربع مليون إسترليني توافق في هذا الغلاء ارتفاع أسعار الإيجار، حيث لا يقل إيجار الشقة المؤلفة من غرفتين عن 500 إسترليني في الأسبوع شتاء ترتفع إلى 1555 إسترلينيًا في الأسبوع صيفًا. وتعرض مكاتب العقار العربية في إدجوار رود شققًا للإيجار مع فرص الاستثمار العقاري في آن واحد.

ووفق الوثائق الرسمية في المجلس المحلي يمكن التعرف إلى تاريخ إدجوار رود، وما يميز كل حقبة منه في الزمان والمكان، إذ يعود وجوده إلى ما قبل العصر الروماني، حيث كان يستخدمه القدماء كمسلك بين الغابات والشمال، ثم استخدمه الرومان كطريق طبيعي لشمال إنكلترا، وما زال الطريق الحالي يسلك ذاك المسار القديم.

في القرون الوسطى كانت تنصب مشنقة عامة على ناصية ماربل آرش، ومن أشهر الذين شنقوا عليها «أوليفر كرومويل» عندما أمر الملك تشارلز الثاني باستخراج جثته وشنقه مكبلاً بالأغلال، ليكون عبرة لمن يكرر خيانته لمحاولة إطاحة الملكية من بريطانيا. ويشهد التاريخ على مرور العديد من الشخصيات المرموقة على إدجوار رود كالفنانين والكتاب، لعل أهمهم شيكسبير الذي مثل على مسرح «ريدليون» في أثناء فترة ترحاله وهو صغير السن.

وأما محطة إدجوار رود في شمال الشارع فهي أول محطات مترو الأنفاق في لندن التي افتتحت في عام 1863 كأول محطة أنفاق في العالم.

العرب ليسوا الجالية الأولى التي تحتل إدجوار رود، فقد سبقهم المجريون والإغريق والآسيويون، ولكن الجذور العربية استوثقت بأرضه منذ القرن التاسع عشر، عندما بدأ العرب يفدون إلى لندن مع انتعاش التجارة بين بريطانيا ومنطقة الشرق الأوسط التي كانت تتبع للدولة العثمانية آنذاك.

أما ظاهرة الهجرة الحديثة فقد بدأها المصريون في الخمسينيات بغرض التعليم والعمل، ثم اتسعت دائرتها في السبعينيات بمساهمة فعالة للحرب الأهلية اللبنانية وثورة الخميني في إيران والمتاعب السياسية في الجزائر مع نشاط السياحة الخليجية لبلورة هوية إدجوار رود إلى ما هي عليه الآن.