|
||||||
في منطقة «بني مالك» وتحديدًا من «حداد», والتي تقع على بعد140 كم عن الطائف: جميلات «القمح» وأسرار الصبايا «أم عمر»، سيدة سعودية مغرمة برمل حقلها، افتتنت بعذب مياه بئرها، هاوية لمشاكسة قطيع أغنامها. الطائف: أميرة المالكي
وعدٌ برحلة صباحية في اليوم المنتظر من «أم عمر» فور وصولها إلى قريتها، في جنوب الطائف. هذا ما حصلت عليه حفيداتها الثلاث، واللاتي ينعمن بحياة صاخبة في العاصمة الرياض، وهي الأكثر ألفة لهن بكل تقنياتها، وترفها، بكل دلالها، وفتنتها الحضارية الشامخة. خرجت إليهن الجدة، بعد بزوغ الفجر، بلباس تقليدي يرمز لحب دفين طالما اشتاقت أن تنبشه. ثوب مطرز بألوان تشبه ورود قريتها، وخمار أسود يشدّه عصابة رأس اشتهرت بها نسوة هذا المكان. كانت تربط خاصرتها بما يشبه الحبل الرقيق تحت لباسها، ثم تجمع الرداء من المنتصف لتبتكر جيبًا خفيًا يحمل أغراضها. بدأت الرحلة مبكرة وفي موعدها، فأهل القرى لا يقبلون تأخير قوافل مغادرتهم إلى عملهم أبدًا، ولا يمكن أن تجد بجدولهم الأسبوعي يوم إجازة، ولا يحبذون تسويف إنجازاتهم. حلقت «أم عمر» بحنين إلى سماوات عرفتها منذ طفولتها، لامست بشوق صخور طرقاتها القديمة، كانت تسير مبتسمة، تزيح من أمام ركبها الرشيق أي غصن تدلى وتعاضد مع أغصان أخرى فأغلق الممر العتيق، تركل الحجارة وتبعثرها وكأنها تقول: ها أنا عدت. تمتطي جواد ذكرياتها لتتجول بالصغيرات حول أشجار «العرعر» التي كانت أغصانها يومًا ما وسيلة نظافة لبيوت أجدادها، تكسر فرعًا صغيرًا جدًا من شجر «العِتم» وتُأنقه فيكون سواكًا يطهر الفم، تخفض جذعها وتبحث بعينيها عن نبات «العُثرب» لتضعه على خدش طفيف بساق إحداهن، تقطف بيد حانية «رمانة» شهية، تُسقِط برفق في فم حفيدتها «حبة عنب» لذيذة، وتمر بحرص أمام «البرشومي»، تقرأ بسكينة «والتين والزيتون» وهي تجني حبات «الحماط» ثم تفسر لهن ما استعصى من تلك المسميات الشعبية كالبرشومي الذي هو «التين الشوكي، وبابتسامة قالت: وما هو الحماط؟ برضى أعادت «والتين.. والتين والزيتون». مضت «أم عمر»، تلك السيدة السعودية المغرمة برمل حقلها، المفتتنة بعذب مياه بئرها، الهاوية لمشاكسة قطيع أغنامها، إلى بيتها المهجور فوق تل قريب، لم ينهكها الصعود إلى ذلك المرتفع، بل ألهمها مخاطبة عتبات الدار التي كانت تطل منها رفيقة صباها، تتسابق معها ومع الأخريات كل يوم قبل الإشراق لجلب ماء صاف تنضحه يداها وتحويه «قربتها»، داعبت المقابض لتفتح الأبواب. فهنا كان يجلس والدها منشغلًا في تنظيف قنديل المساء، وعلى هذا المقعد الحجري كانت تجلس والدتها أمام «الموقد» تهبهم من جهدها خبزًا رائحته عطاء، وطعمه محبة، تسقيهم قهوة تفوح إيمانًا ورضًا. وفي تلك الزاوية القريبة من الباب يرقد قطّها العابث، احتضنت برقة شرفات تطل على حقول طالما زينتها عرائس «الذرة»، وتمايلت حولها جميلات «القمح»، وخالطتها أسرار الصبايا، وضحكات العاملات، وهن في موسم الحصاد، سارت بين الممرات وجدتها ضيقة جدًا، وجدران البيوت قريبة من بعضها كثيرًا، همست لنفسها لا عجب أننا كنا نسمع قصائد جارتنا العجوز بوضوح ونتحلق حول النافذة طلبًا للسمر. أزاحت قليلاً من الغبار لتجلس في مكان كانت تألفه، استمتعت بحديث كائنات تسكن الأغصان والجحور، أشارت من بعيد لشواهق عالية يلفّها السحاب ويراقصها الضباب، وتسكنها «النسور». لمحت البرق بين الغيوم، همهمت بصوت أصيل أغنية قديمة، واستبشرت بمطر يغمر القلوب. فهي تثق بأن أرضها أرض طيبة، خيرها عميم. تستغل الفتيات هدوء الجدة ويبدأن بإثارة الأسئلة، كيف لا تتعبون من قطع مسافات طويلة في البحث عن الحطب؟ وكيف إنكم لا تملّون العمل؟ لماذا طرقاتكم بهذا الشكل؟ تجيبهم لأن الدواب لا تحتاج إلى طرق معبدة، ودوابنا كانت هي وسيلة تنقلنا. وكان طعامنا جيدًا لذا نحن أقوياء. كيف كنتم تغسلون أوانيكم؟ أخبرتهم أنها ليست كثيرة، فبعض الماء يكفيها. وفي طريق العودة تترك «أم عمر» خلفها بيوتًا رسمها تراث أصيل لتتوجه إلى عمران جديد يقع قريبًا من القرية القديمة، أصحابها واكبوا التطور، وغادروا للبحث عن العلم والعمل في المدن المجاورة إلى الطائف، وجدة، وينبع، ومكة، ووصلوا إلى الرياض، والدمام، وشمالاً إلى تبوك، والوجه، وعرعر، لكنهم في المقابل لم يهجروا بقعتهم الحبيبة، بل يعودون إليها زائرين في كل صيف ينعمون بخير أرضها، ويضفرون بروعة نسيمها، ويجتمعون بأقربائهم القاطنين هناك ليتذوقوا معهم متعة الحديث عن الذكريات. تصل الجدة وحفيداتها، ويبدأ الضجيج، وتمتزج القصص، ويحلو القفز من معلومة لأخرى، يستغل والدهن الوضع، ويحضر «كاميرا» لتسجيل لحظات الاكتشاف المبهر. وتنطلق الجريئة منهن وتقرأ بصوت واضح ما كُتب في النشرة السياحية الموجودة في جيبها منذ وصولهم، فتقول: نحن هنا في منطقة «بني مالك»، وتحديدًا من «حداد»، والتي تقع على بعد140 كم عن الطائف، والتي تبلغ مساحتها 4200 كم مربع، فيها الكثير من الخيرات، والعديد من المرافق التعليمية والصحية، أماكنها السياحية لا تزال بكرًا، لكنها تستبشر بغد مشرق. نحن نحب هذا المكان فهو جوهرة لامعة في العقد الثمين دولتنا الكريمة المملكة العربية السعودية. |