يقولون إن المرء يميل إلى الطقس الذي يشبه شهر ميلاده:

لا تنس أن تقطف شيئًا من هدايا السماء

مد يدك تحت قدميك لتقبض على قطعة غيمة وتندهش من ملمسها الرخو الناعم.

القاهرة: فاطمة ناعوت

 

§       السماء لا لون لها، وإنما لونها الأزرق ناتجٌ من تشتت أشعة الشمس في الفراغ
§       مد يدك تحت قدميك لتقبض على قطعة غيمة وتندهش من ملمسها الرخو الناعم
§       الشمس في بلادي لا تشبه شمسَهم الطفلة الوديعة
§       المرء يميل إلى الطقس الذي يشبه شهر ميلاده

أندهشُ ممن يحبون السماءَ الصافية ويتغنون بها. السماءُ دون غيومٍ أو سُحُب بيضاء أشبهُ بورقة شاغرة في كراسة رسم تنتظر بنفاد صبر أصابعَ طفل تبدأ في فتح علبة ألوان الشمع والجواش ثم تقبض على الريشة لتحوّل هذا البياضَ طائراتِ ورق، وأشجارًا، وأراجيحَ، وبالوناتٍ، وبيوتًا، وبناتٍ، وأولادًا. لم أحب السماء الصافية قط، ولم تظهر في قصائدي سوى الغيمات بأشكالها المدهشة المتحركة بوصفها إحدى أجمل لوحات الله الدائمة التجدد.

 

وأنا طفلة كنت أفكر أن الله كل يوم يرسم لنا لوحة جديدة فوق السماء بريشة مغموسة في درجات اللون الأزرق في النهار، ثم درجات البرتقالي حين تغرب الشمس، ثم الرماديات في المساء، ويطعمها بصوت العصافير، والكروان ومالك الحزين. السماءُ الصافية ذات اللون الأحادي بليدةٌ واستاتيكية، فيما الغيماتُ تتشكل كما يحلو لها في كل لحظة من لحظات اليوم، تأخذ حينًا اللون الأبيض فتغدو مثل ندف القطن الهشة، أو تتمدد على صفحة السماء ناثرةً ثقوبها هنا وهناك فتشبه شرائح دانتيلا في فستان عروس، أو تتماوج في درجات فضيّة إذا ما أُثقِلَت بقَطْر المطر فتستحيلُ الجمالَ كلَّه الذي لا مزيد عليه.

لو كنتَ مسافرًا الآن على متن طائرة، وكانت رحلتُك نهارية فأنت محظوظ. لا تنسَ أن تختار مقعدك مجاورًا للنافذة لتكون قد امتلكت ناصية الحظ. الآن مدّ يدك من النافذة واقطفْ قطعةً من هدايا السماء. الطائرةُ ترتفع رويدًا حتى تخترق جُدُرَ الغيوم الهشة ثم تعلوها. أنت الآن بين السماء والسُّحُب. لا تنظر إلى أعلى حيث السماء صافيةٌ بلونٍ أزرقَ باهتٍ. قرأتُ قديمًا في كتاب «كنوز العلم» أن السماء لا لون لها، وإنما لونها الأزرق ناتجٌ من تشتت أشعة الشمس في الفراغ فتصل إلى عيوننا الألوان ذات الطول الموجيّ الأقصر، وهي درجات الأزرق، ولذلك عندما تميل الشمس للغروب وتنزل عند خط الأفق تبدأ الألوان ذات الطول الموجي الأطول مثل البرتقاليات في الظهور. المهم، لا تنظر إلى أعلى، بل انظر أسفل الطائرة لتشاهد كتل السحب تجري تحت قدميك، ومن حين إلى حين هبّةٌ من الضباب المشتت وكتل بخار الماء المتكثفة تمر أمامك مثل زخّة علوية من أنفاس الله المقدسة.

أما لو ارتقيتَ قمة جبل المحويت جوار صنعاء، أو أحد جبال مدينة أبها بالسعودية، أو جبال الألب بسويسرا، فسوف تقدر بالفعل أن تمد يدك تحت قدميك وتقبض على قطعة غيمة وتندهش من ملمسها الرخو الناعم مثل رغوة الكابوتشينو. كنتُ في روتردام بهولندا حيث المطر طوال العام مثل كثير من دول أوروبا.. كنا نتناول فطورنا في الدور السابع من الفندق. وإذا بالناس جميعهم يهرعون إلى التراس. سألتُ عن السبب فقيل لي: الشمس أشرقت!! فابتسمتُ. ولم أجرِ طبعًا مثلهم، فنظر لي الناس بدهشة. وفي المؤتمر الصحافي الذي أقيم على هامش مهرجان الشعر العالمي بروتردام سألني المذيعُ عن طقوس الكتابة عندي. فقلت: الهدوءُ والليل. فقال لي وحين الشمسُ تشرق؟ أجبته ببساطة: أتوقف عن الكتابة. أنا لا أحب الشمس! فضجّ الحضورُ بهمهمات وصيحات تنم عن الدهشة، ونظر لي المذيع كأنني مخبولة. فشرحت له أن الشمس في بلادي لا تشبه شمسَهم الطفلة الوديعة.

يقولون إن المرء يميل إلى الطقس الذي يشبه شهر ميلاده. ولأنني من مواليد الخريف، سبتمبر، أميل إلى الجو الغائم ولا أحب الشمس، لكنني عرفت أكذوبة هذا الزعم لأن أمي من مواليد سبتمبر أيضًا وتكتئب حين تغيب الشمس ولو لدقائق. ربما الشعراء يحبون الضوء الغامض المعتم الذي تخلفه الغيمات حين تحتجب الشمس الباهرة وراءها. لكنني أؤمن بأن الخريف أجمل شهور العام. لا تصدقوا من يقولون الربيع. الربيع مُحمّل بحبوب اللقاح ورياح الخماسين. صحيح أن ألوان الزهور في الربيع تشع ألوانًا فاتنة، وصحيح أن العصافير تصدح في أشجارها مع الربيع، وصحيح أن الخضرة لا تكتمل إشراقتُها إلا في الربيع، وصحيح أن الربيع يذكرني بوشك الإجازة الصيفية والانعتاق من الكتب المدرسية وقمع المعلمين، لكن الفتنة كلها عندي هي أوراق الشجر الصفراء الجافة حين تكسو الأرض وتتكسّر فوقها أشعةُ الشمس الخجولة، تقطعها بقعٌ من ظلال أوارق الشجر التي لم تسقط بعد، وتنتظر دورها في السقوط، لتفسح المجال لغيرها من الأوراق الخضراء الوليدة.