سور الرياض القديم

من جنباته انطلقت حكاية وطن

وسط بروج الحداثة تعتلي هامته كصرح من الماضي يشمخ بشهادة أصالته.




§       قيمته التاريخية تتجاوز حدود الزمان والمكان
§       يختزن في ذاكرته ملحمة تأسيس الدولة السعودية
§       تتماهى في طلته سمات الشموخ
§       تغنّت سجلات الرحالة العالمية بتفاصيله

شاهد على عقود خلت، يحمل في جعبته قصائد البطولة نغمًا، تجتلي به نفوس الهائمين للغوص في أسارير الماضي، ويقسم على جهود ما برحت همةً لإعلاء راية الدولة السعودية في ساعد مؤسسها الملك عبدالعزيز, رحمه الله.. سور الرياض.. كيان من حضارة ما انقضت معالمها.

لا يمكن لزائر شارع طارق بن زياد في قلب العاصمة الرياض، أن يتجاوز السور الطيني المبني في الضفة المقابلة للمحكمة التي تشرف عليه بعمرانها المتميز، وقد كتب في جوفه وعلى لوحة صغيرة «بوابة دخنة، الجزء الجنوبي للسور».

يرقد هذا السور الطيني وسط غابة إسمنتية لا ينتمي إليها في مواده الأولية، ويُفاجئ رواد الشارع بوقوفه العنيد أمام بناء المَحكمة الحديث، ووداعته مع التقاطع المرصوف بفخامة، إذ يجمع في إطلالته الشموخ، فيثير في النفوس الكثير من التساؤلات عن تفاصيله العتيقة، والموغلة في جذور البناء النجدي القديم لهذا السور، وربما لاحت في فضاء الخاطرة استفسارات عن توسطه المدينة التي تحتضن أرقى الأحياء السكنية، وناطحات السحاب التي تختال بها أطراف المدينة بطرازها المعماري الحديث، الذي ينأى بملامحه عن نمط تشييد السور الخاص بأجيال سابقة عايشت تفاصيله، واستظلت من الشمس بين حجرات بيوته، وصلّت في محاريبه. بينما تدرجت نشأة الجيل الحاضر في أحضان الجدران الإسمنتية، والنوافذ الزجاجية، بعيدًا عن الطين ومشتقاته.

هنا يتحدث السور إلى المارة بصمت، ويختزن في ذاكرته العميقة «تاريخ وطن»، و«ملحمة كفاح»، إذ انطلقت من جنباته حكاية أسطورية في تفاصيلها، وواقعية في أحداثها، نُسجت من جواره ثياب الدولة التي تقف على حدود الشام، وتشرف على تخوم اليمن، وتتكسر أمواج الخليج والبحر على جانبيها، وصولًا إلى مقعدها في الأمم المتحدة.

هو ليس مجرد بناء طيني من وحي التراث، اختير له أن يكون شكلًا جماليًا في تقاطع مروري، بل «قيمة رمزية» تتجاوز الزمان والمكان إلى آفاق الكيان الذي تستظل بعلمه الأخضر، لأنها جزء من نواة الدولة، حين كان عنوان الصفحة الأولى في تاريخها «في البدء كان السور».

انطلاقة الدولة السعودية الثالثة، كانت مع «سور الرياض»، عندما استولى الملك عبدالعزيز على المدينة في عام 1319هـ، إذ كان أول برنامج عملي على أجندته هو بناء السور، بغرض تحصين المدينة من الغزو واللصوص، فاستغرقت فترة البناء أربعين يومًا، وكان مسمى «الحامي» مرادفًا لتسمية السور آنذاك.

أما البوابات فتأتي استكمالًا لأجزاء السور، وضرورةً من التحصين الأمني والحراسة المشددة، كانت تغلق ليلًا، ولا تشرع إلا في النهار، ولهذا لا يمكن لأحد دخول المدينة لو أدركه الليل خارجها، وتؤدي البوابات إلى مزارع النخيل المجاورة للرياض، كما توصل إلى الطرق البرية للمدن والقرى الأخرى.

يبلغ ارتفاع السور ستة أمتار، وهو مبني من الطين الخالص على شكل عروق، وله أبراج شيدت بتصميم دائري في الأركان، يحتوي كل منها على فتحات صغيرة موزعة على طول دائرة البرج بمستويات مختلفة، حتى يتمكن الحراس من النظر بوساطتها، إضافة إلى استخدامها كمنافذ تظهر منها فوهات البنادق.

كما يحتوي السور على تسع بوابات كبيرة مصنوعة من خشب الأثل، حيث تكون العوارض من الأثل والباقي من الجذوع. وفي بعض البوابات يوجد باب صغير يتسع لشخص واحد، إذ لا تفتح البوابة كاملة في الليل، بل بالإمكان فتح الباب الصغير فقط، بينما تشرع البوابة بمصراعيها في حال قدوم حملة كبيرة. «الدروازة»، كانت المسمى الشعبي الشائع للبوابات آنذاك، وجمعها دراويز.

وبحسب الشيخ حمد الجاسر في كتابه «مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ»، فإن هذه التسمية لفظة فارسية، يعتقد بأنها جاءت نتيجة لاتصال هذه المدينة ببلاد فارس للتجارة.

وربما تعد بوابة «الثميري» من أهم تلك البوابات، نظرًا لكونها تؤدي إلى شارع عريض، يوصل إلى قصر الحكم، وتقع هذه البوابة في الجهة الشرقية من السور، وعلى مدخل شارع الثميري حاليًا، الذي استمد مسماه منها. كما يطلق عليها أيضًا اسم بوابة الأحساء، لأنها تصل بالطريق البري المؤدي إلى الأحساء.

وفي هذا السياق، يأتي الذكر على بوابة «القري»، وهي إحدى بوابات الجهة الشرقية، تقع قرب تقاطع شارع الوزير مع طريق المدينة حاليًا، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى حي مشهور في الرياض القديمة يحمل ذات التسمية.

وكذلك بوابة «منفوحة»، التي تقر في الجهة الجنوبية الشرقية، وسميت بذلك لكونها تؤدي إلى المنفوحة وهي مدينة كانت تضاهي الرياض بشهرتها، قبل أن تصبح حيًا سكنيًا ضمن الرياض، كما هي الآن.

بينما تبدأ بوابات الجهة الغربية من السور من بوابة «المذبح»، وتقع شمال شارع الشميسي القديم، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى المكان، حيث كان الجزارون يقومون بذبح الإبل، والبقر، والغنم، خارج هذه البوابة، ويأتون بلحومها إلى السوق عبرها، وتليها بوابة «المريقب»، وسميت بذلك نسبة إلى حي لا تزال معالمه قائمة في الموقع نفسه.

وفيما يخص بوابات الجهة الشمالية، فتبدأ من بوابة «آل سويلم»، وتقع في نهاية شارع السويلم حاليًا، وسميت البوابة بهذا الاسم نسبة إلى إحدى الأسر المشهورة في الرياض، لوجود مزرعتهم بجوارها. وبوابة «الظهيرة»، وتقر على مدخل شارع الظهيرة الحالي، وسميت بذلك نسبة إلى حي مشهور آنذاك.

وعلى صعيد آخر، فقد انطلق العمران في منتصف القرن الماضي خارج سور الرياض، بسبب زيادة السكان، وتطور المرافق المدنية، إلى أن أزيل السور في عام 1370هـ، حيث كانت إزالته تحمل دلالة لانتشار الأمن.

لقد زار الرياض العديد من الرحالة الذين وصفوا عمرانها وأوضاعها السياسية والاجتماعية عبر الحقب المختلفة، ومن ضمنهم جورج فوستر سادلير، «إنكليزي»، ووليم جيفورد بالجريف، «إنكليزي»، وهاري سانت جون فيلبي، «إنكليزي»، وعبدالوهاب عزام، «مصري»، وباركلي رونكيير، «دنمركي»، وليوبولد فايس «محمد أسد»، «نمساوي».

أما بالجريف فوصف سور الرياض في أثناء زيارته للجزيرة العربية عام 1862، بأن للمدينة سورًا يحيط بها من جميع الجهات، يتراوح ارتفاعه ما بين عشرين قدمًا إلى ثلاثين قدمًا، وأن خندقًا يحيط بها.

بينما يشير الرحالة ليوبولد فايس «محمد أسد» في أثناء زيارته عام 1930، إلى ملامح الرياض الهادئة، والسور يطوقها، إذ يستطيع المرء رؤية المدينة بوضوح من تلك المرتفعات المحاذية لأماكن انتشار خيام البدو، لأنه في هذا الجانب الشرقي لا توجد مزارع نخيل. ويقع في المقابل للزائر سور المدينة الطيني مثله مثل كل المباني في نجد، لكنه عال، وقوي بما يكفي لحماية المدينة ضد أي هجوم غير متوقع.

كما تبدو الأبراج بارزة للعيان، ليس فقط أبراج القصر الملكي الواقع في وسط المدينة، بل أبراج أخرى، مثل برج القلعة الواقعة في الشمال الشرقي «يقصد حصن المصمك»، الذي يزخر بتاريخ مليء بالأحداث والوقائع. وكذلك أبراج السور الخارجي للمدينة التي يصل عددها إلى أكثر من عشرين برجًا، ثم مئذنة الجامع الكبير بارتفاعه المنخفض. أما أشجار النخيل فتبدو خلف المدينة بحرًا من الخضرة، وتصل أصوات السواني في نقاء ووضوح.