|
||||||
sحقق على الأرض وحدة لم تتحقق على الخريطة شارع الحلم العربي «جامعة الدول».. فروعه مدن ودول عربية.. وأكثر رواده من الخليج.
لم يكن لواضع اسم شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين أي هدف سياحي.. فتسميته بأسماء الدول العربية كان تأكيدًا لوحدة الحال التي تصبح واقعًا على الأرض يجسده في صيف كل عام أبناء الجاليات العربية القادمون من مختلف البلدان إلى مصر، وبخاصة أبناء الدول الخليجية الذين يفضلون الإقامة في المهندسين بصفة عامة، وفي هذا الشارع الذي لا ينام أبدًا بصفة خاصة. يذهب بعضهم بعيدًا في تصوير أجواء الوجود العربي المكثف في شارع جامعة الدول (كما يحلو للمصريين اختصار اسمه)، إلى حد القول إن الوحدة العربية لم تتحقق يومًا إلا مرتين: الأولى عندما كان العرب يلتفون حول أجهزة الراديو في الخميس الأول من كل شهر، للاستمتاع بحفلات أم كلثوم الشهرية. والأخرى تجمعهم في واحد من أطول شوارع مصر، يحمل اسم جامعتهم العربية، ويجمع الشامي على المغربي والسوداني والخليجي، حتى ولو كان ذلك في الصيف فقط.. وإذا عدّ آخرون ذلك مجرد مبالغة فما عليهم إلا تجربة قضاء سهرة صيفية حتى ساعات الفجر وظهور تباشير الصباح على جانبي هذا الشارع، والتجول فيه، والتمتع بافتراش حدائقه التي يؤمها الكثير من المصريين هربًا من حرارة الجو في منازلهم، والتنقل بين مطاعمه ومحلاته المتنوعة الشهيرة، والتي أصبح للعديد منها فروع في عدة عواصم ومدن عربية، لتلمس عن قرب إلى أي مدى ذهب هؤلاء المبالغون. من نجيب محفوظ إلى السودان يقع شارع جامعة الدول العربية في حي المهندسين بمحافظة الجيزة، ويمتد لنحو ثلاثة كيلو مترات تبدأ من ميدان سفنكس «أبو الهول» الذي يشهد تقاطعه مع شارع أحمد عرابي وكوبري 15 مايو ومنهما إلى كورنيش النيل وأحياء الدقي والعجوزة والزمالك ووسط القاهرة، وينتهي عند شارع السودان أحد أشهر شوارع القاهرة وأطولها، والذي يربط حي إمبابة من ناحية وأحياء الجيزة والهرم من ناحية أخرى، ويمر بالمهندسين والدقي. وفي بداية الشارع من جهة أحمد عرابي وميدان سفنكس يقف تمثال حديث شيدته الحكومة المصرية للأديب المصري الراحل نجيب محفوظ الحائز جائزة نوبل في الآداب عام 1988، وذلك خير دليل على ما للشارع من مكانة عكسها اهتمام الحكومة المصرية في تزيين بدايته بتمثال لأحد أهم رموز الثقافة في العالم العربي، إضافة إلى اهتمامها المستمر بتطوير الشارع من رصف، وإنارة، وتشجير، وما إلى ذلك. شانزليزيه العرب إلى يمين التمثال يقع سور نادي الزمالك العريق الذي اتخذت بوابته الرئيسة شارع أحمد عرابي مكانًا لها، بينما فضل القائمون عليه أن تكون جهة النادي المطلة على شارع جامعة الدول العربية مكانًا لإقامة محلات مختلفة يتم تأجيرها أو بيعها للتجار، فصار هذا السور موقعًا للعشرات من محال الأزياء، والأحذية، والمطاعم، وشركات السيارات والطيران، يتخللها باعة وأكشاك الورود والزهور، لتشكل مع مثيلاتها المنتشرة في بقية أجزاء الشارع أحد أهم ملامحه وأبرز ما يتميز به كأحد أكبر الشوارع التجارية في القاهرة، وأكثرها امتلاء بالمطاعم والمقاهي على اختلاف أنواعها وتنوع خدماتها التي تلبي جميع الأذواق، وكذلك عدد من المكتبات الصغيرة التي توفر، إلى جانب الكتب، معظم الصحف والمجلات العربية التي قد لا تجدها عند بائعي الكتب والصحف على أرصفة أحياء أخرى من القاهرة وشوارعها.. وهو ما دفع بعضهم، أيضًا، إلى تسميته شانزليزيه العرب. 54 سفارة وعندما تتكرر أسئلة المارة وراكبي السيارات في هذا الشارع نهارًا عن موقع سفارة، أو قنصلية، أو ملحقية ثقافية لدولة عربية فسرعان ما تدرك أن جامعة الدول العربية هو اسم على مسمى فعلاً، حيث يستضيف بين جنباته وفي شوارعه الفرعية العديد من السفارات أيضًا.. ويقدر عدد السفارات الموجودة بمنطقة المهندسين، التي يمثل شارعنا هذا شريانها الحيوي الرئيس الذي ترتبط به جميع شوارعها، بحوالي 54 سفارة. ومن الطبيعي أن تنتشر منازل السفراء العرب والأجانب بالمنطقة كما تنتشر منازل معظم الوزراء المصريين، سواء من الحاليين أو السابقين في حكومات مصر المتعاقبة.. بالإضافة إلى الإقبال الكبير عليه من السياح والمواطنين العرب والمصريين الذين يفضلون السكنى فيه أو بأحد الشوارع المتفرعة عنه، وهو ما قفز بمنطقة المهندسين لتصبح في مصاف أغلى المناطق العقارية سعرًا في مصر، سواء بالنسبة لمتر الأرض، أو أسعار العقارات فيها، وكذلك إيجار الشقق.. ويبقى الأغلى في المنطقة على الإطلاق هو إيجار شقة في شارع جامعة الدول العربية نفسه. كما يضم الشارع عددًا من المراكز التجارية الكبرى، وفروعًا للبنوك الشهيرة، والفنادق، والعديد من العناصر الخدمية الأخرى كعيادات الأطباء والصيدليات، ومحال العقارات، وشركات الصرافة وغيرها. احتفالات في شارع لا ينام يعدّ الشارع من أكبر شوارع مصر اتساعًا، وليس أطولها فقط.. فعرضه يزيد على 80 مترًا.. ويكفي أن جزيرته الوسطى تتسع لحديقة كبيرة، لا يخلو منها البشر ليلاً أو نهارًا.. فالناس في شارع جامعة الدول العربية لا تنام كما يقولون، والخدمات لا تنقطع، ونظام الورديات في المطاعم يحل المشكلة. ومن لا يعجبه زحام النهار وحرارته في الشارع فلن يفوته زحام الليل ونسمات هوائه العليل.. فلا يمكن أن تضبط هذا الشارع هادئًا ليلاً أو نهارًا، خصوصا إذا فازت إحدى الفرق المصرية أو العربية بإحدى البطولات.. وأقربها ما حدث بعد مباراتي الدور قبل النهائي لكأس آسيا لكرة القدم في يوليو الماضي وتناقلته العديد من وسائل الإعلام العربية والعالمية، حين خرج المئات من المواطنين السعوديين والعرب من محبي الأخضر وعشاق فنه، وكأنهم في أحد شوارع الرياض أو جدة، في مظاهرات فرح عارمة احتفالاً بفوز منتخبهم وتأهله إلى النهائي، يجوبون الشارع ذهابًا وإيابًا حاملين أعلام بلدهم، وعلى وجوههم ترتسم فرحة الفوز.. ليتكرر المشهد مجددًا عقب المباراة النهائية، حيث شاركت جماهير عربية غفيرة مئات العراقيين فرحتهم بالفوز. أما عندما يكون الفائز هو النادي الأهلي أو المنتخب القومي المصري، فإن العدد المتوقع للمحتفلين يتخطى مئات الآلاف.. وتتوقف الحياة تمامًا بالساعات ويستحيل على سيارة أو بشر غير مشارك في هذه الاحتفالات أن يخترق هذا الشارع قبل مرور عدة ساعات. ولا تتعجب وقتها إذا اكتشفت أن مشاهير المطربين الذين قد تدفع ثمنًا غاليًا لتذاكر حفلاتهم، إذا عثرت على تذكرة أصلاً، يقف إلى جوارك ليقود المشجعين ويغني لك ومن حولك بلا مقابل.. وستكتشف أن كل تقاطع من تقاطعات الشارع الكبير ينفرد به مطرب وسط مجموعة من المشجعين في وصلة لا تنسى.. فناصية تجمع محمد فؤاد بعشاقه ومحبيه، وأخرى تجد فيها خالد سليم أو هشام عباس.. وعادة ما تبدأ الوصلات بالأغاني الوطنية احتفالاً بالفوز.. ثم تحت ضغط المعجبين المحيطين يندمج المطربون بغناء كل ما يطلبه محبوهم من أشهر أغانيهم. مسجد مصطفى محمود حتى الآن لم نتعرف بعد على كل معالم شارع جامعة الدول العربية.. ولعل أشهرها على الإطلاق ساحة مسجد مصطفى محمود.. إحدى أكبر الساحات التي تقام فيها صلاة العيد في مصر، والتي تنتصف الشارع تقريبًا.. أما الجانب الأهم في ذلك المسجد الذي أنشأه الكاتب والمفكر مصطفى محمود صاحب الرحلة الشهيرة من الشك إلى الإيمان، والذي وإن كان يقع في واحد من أغنى شوارع مصر، إلا أنه يضم أكبر صرح طبي لعلاج غير القادرين مجانًا أو بأسعار رمزية.. وليس في ذلك أي تناقض. فالشارع نفسه الذي تجوبه أحدث السيارات من أشهر الماركات العالمية، سواء التي يمتلكها مصريون أو أتى بها الزوار العرب معهم، لا تنقطع منه سيارات الميكروباص الأجرة، الجديدة منها والتي اشتراها أصحابها بالتقسيط، أو المتهالكة التي تنقل البسطاء من العاملين في مختلف المرافق والخدمات الموجودة بالشارع مقابل أجر زهيد لا يتعدى نصف الجنيه في أغلب الأحيان، ويصل إلى جنيه في الخطوط والمناطق البعيدة. ومن ميدان أو ساحة مسجد محمود نستأنف جولتنا في النصف الثاني من شارع جامعة الدول العربية، والذي لا يختلف كثيرًا عن نصفه الأول، حيث ما زالت المحال المتنوعة تشدك بأضوائها المبهرة ولافتاتها المضيئة، فيما اتخذت المطاعم والمقاهي المتنوعة كل استعداداتها لاستقبال المئات من محبي السهر في الشارع. مطبخ عربي رغم أن الشوارع المتفرعة من شارع جامعة الدول العربية أسماء لدول أو عواصم أو مدن عربية.. إلا أن هذا لا يعني أن شارع سوريا مثلاً لا يسكنه إلا السوريون، أو شارع الرياض لن تجد فيه إلا السعوديين.. فقد تكون هذه الأسماء سببًا في إقبال الإخوة العرب على السكن فيها، لكن هذا لا يعني أنها لا يقطن فيها إلا من يحملون جنسية اسم الشارع.. هذا التجمع العربي، أيضًا، كان سببًا في إنشاء العديد من المطاعم التي تقدم الأكلات العربية والخليجية، ومن أشهر هذه المطاعم: حضرموت، والروشة، وقندهار، وأبو عمار، وأبو شقرة، وقدورة، وغيرها الكثير من المطاعم التي تسعى إلى إرضاء الزائر بتوفير كل ما تشتهيه نفسه كأنه في بلده تمامًا.. فينعم الخليجيون بأكل التيوس واللحم المندي، والسوريون بفطائرهم التي يجيد أبو عمار صنعها بطريقة تجعلك لا تركز فيما تحتويه من روعة مذاقها، واللبنانيون بالتبولة التي يعشقونها.. وفي كل الأحوال يستطيع كل واحد منهم أن ينعم بأشهر أكلات البلد الآخر وبالنكهة نفسها وكأنه قد زاره تمامًا.. لأن من يصنعون تلك الأكلات في الغالب هم طهاة من البلدة نفسها المشهورة بها.. أو مصريون تعلموها على يد أصحاب البلد الأصليين. ومع شدة الإقبال وكثرة الطلب على مطاعم شارع جامعة الدول، فإن كثيرًا منها تتأخر في الاستجابة لتقديم خدمة توصيل الطلبات إلى المنازل، وقد تكون عاجزة عن استقبالك فورًا على موائدها دون حجز مسبق في ليالي الصيف تحديدًا.. لذلك هيأ بعضها، ممن أتاحت له مساحته الكبيرة ذلك، مقاعد مريحة لمن يريد أن ينتظر من الزبائن للحصول على دوره وتناول العشاء داخل المطعم. أما إذا أردت مجرد التمشية في الشارع ليلاً، وتناول ساندويشات الفول والفلافل الشهيرة من العمدة أو جاد، أو تستمتع بشاورما أبو عمار، ثم تختم الوجبة بكوب عصير من فرغلي، أو بطبق أم علي من ألبان المالكي،أو بكليهما على فترات متباعدة لمن تفتح التمشية والهواء الطلق شهيته، فعليك أن تعلم أن هذه الوجبة من البداية وحتى النهاية لن تكون سهلة المنال.. حيث سيكون عليك أن تمر برحلة انتظار مع عشرات الزبائن الذين يقفون أمام بائع واحد لأخذ طلبهم أو لدفع الحساب. معرض الخليج من معالم الشارع، أيضًا، المعارض التجارية التي تقام فيه بصفة منتظمة في مثل هذا الوقت من كل عام.. ولا يمر الصيف دون أن يقام معرضان أو ثلاثة تقدم جميع المنتجات من ملابس، وأحذية، وحقائب، ومفروشات، وأدوات منزلية، وتحف، وبراويز، وبورتريهات، وغير ذلك بأسعار مناسبة، وتندرج جميعها تحت لافتة معرض الخليج. ووفق أحمد محمد العطفي، منظم أحد هذه المعارض، فإن رعايا الدول الخليجية بشكل خاص والمصريين والعرب بشكل عام ينجذبون إلى هذه المعارض ويتسوقون منها معظم احتياجاتهم، كما يشترون، أيضًا، بعض الاحتياجات التي من الممكن أن يصطحبوها معهم عند عودتهم لبلادهم، خصوصًا مع رخص أسعار معظم هذه المنتجات، ووجود بعض المحال المتخصصة في بيع منتجات متنوعة بأسعار موحدة تبدأ من جنيه واحد. ونظرًا لأن معظم مرتادي هذه المعارض من نساء الأسر الخليجية وفتياتها، فإن المنظمين يوفرون بائعات فتيات حتى لا تشعر الزائرة بالحرج من الرجل عند شرائها للملابس النسائية على سبيل المثال، ومنعًا لأي معاكسات أو مضايقات محتملة، رغبة في أن يستمتع السائح بوقته ويتسوق ما يريده دون أن يحدث ما يعكر صفو رحلته وأسرته. ويقوم العطفي بجلب فرقة استعراض فنون شعبية كل يوم تقدم عروضها بدءًا من العاشرة مساء للفت الأنظار تجاه المعرض، ولكنه لم يكن يتوقع أن يتهافت المارة وقائدو السيارات على مشاهدة هذه الفرق، ما يؤدي إلى تعطيل المرور في الشارع أحيانًا. |