عميد الرحالة محمد بن ناصر العبودي:
كتبت في أدب الرحلات 171 كتابًا
رحلاتي تهدف إلى تفقد أحوال المسلمين في العالم.
الرياض: طارق شوقي
§ نشأتي في بريدة جعلتني أعشق الرحلات الداخلية في جميع أرجاء المملكة
§ الجامعة الإسلامية بوابتي للرحلات
§ استطعت عبر رحلاتي العديدة أن أقدم منهجية جديدة في مجال تدوين الرحلة
§ رحلاتي ليست للأماكن السياحية الترفيهية
لمع اسمه في مجالات عديدة كالأدب، والتراث، والتأريخ، والجغرافيا.. إلا أن عالم الرحلات كان أبرزها جميعًا، حيث اقترن اسمه بهذا المجال وأصبح علمًا يشار إليه بالبنان، وأطلق عليه محبو أدب الرحلات «عميد الرحالة»، حيث بلغت كتبه في مجال الرحلات أكثر من 171 كتابًا، وطِئت قدماه حواضر العالم لتفقد أحوال المسلمين وتفقههم في دينهم.
للنشأة الاجتماعية أثر كبير في الشخصية، فهل كان لها أثر في اتجاهك لعالم الرحلات؟
كانت النشأة في مدينة بريدة عاصمة منطقة القصيم، حيث ولدت بها، وذلك في عام 1345هـ، ولم يكن لنشأتي أي أثر فيما قمت به من الرحلات الخارجية، وإنما عززت محبتي للرحلات الداخلية في المملكة، وذلك لأن مدينة بريدة كانت مركزًا تجاريًا، بل ربما هي أهم مركز لتجارة الإبل والماشية في المملكة في منتصف القرن الرابع عشر وما بعده بقليل، وكانت أحاديث التجار، وبخاصة تجار الإبل الذين كانوا يتاجرون فيها من القصيم إلى الشام ومصر وفلسطين، حافزًا كبيرًا لأي شاب متطلع إلى محبة السفر، واستكشاف المجهول من البلدان.
قمت بالعديد من الرحلات، فما الأهداف الرئيسة منها؟
انتقل عملي من المعهد العلمي في بريدة إلى الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عندما فتحناها في عام 1381هـ، وكان نائب الرئيس هو سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز, رحمه الله، وكانت وظيفتي، هي الأمين العام للجامعة. وكان نظام الجامعة يقتضي ألا تزيد نسبة الطلاب السعوديين فيها على 20%، أما بقية مقاعدها فتخصص كلها للطلاب الذين يفدون من خارج بلادنا، وبخاصة بلاد الأقليات المسلمة. وقد لاحظنا أن بعض المؤسسات والهيئات المسلمة في الخارج ترسل أوراق شهادات دراسية ونحوها من جهات لا نعرفها، بل تبين لنا أننا بحاجة ماسة إلى معرفة الجمعيات والمؤسسات الإسلامية في الخارج، فقررنا أن نبدأ بالقارة الإفريقية عن طريق إرسال وفود إليها على أن تكون البداية بإرسال وفد إلى شرق إفريقيا.
وقد رأى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز أن أكون على رأس ذلك الوفد المؤلف من ثلاثة أشخاص، ووافق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، المفتي الأكبر، ورئيس القضاة رئيس الجامعة الإسلامية على ذلك. وقد شلمت الزيارة ثلاثة عشر قطرًا إفريقيًا، وكان هدفها الاطلاع على أحوال المسلمين، وتقدير حاجتهم إلى المنح الدراسية والمساعدات الأخرى.
للرحلة الأولى أجواء خاصة وأصداء في النفس، فما باكورة رحلاتك؟ وإلى أي الأقطار؟
لم أكن أعلم أن موافقتي على السفر في مهمة رسمية إلى إفريقيا ستكون انطلاقتي الأولى في مجال الرحلات، وأن يقترن اسمي بها كباقي أعلام الرحالة العرب أمثال: «ابن بطوطة، ابن جبرين، وابن فضلان، وهارون بن يحيى» وغيرهم. واستطعت عبر رحلاتي العديدة أن أقدم منهجية جديدة في مجال تدوين الرحلة، معتمدًا على هدف الرحلة الرئيس، وهو تفقد أحوال المسلمين في البلد المزور والمرور على المشاهدات العامة والخاصة، وربط ذلك في نسق معين بما يتفق مع الأنماط والعادات الاجتماعية.
وقد رأت الجامعة الإسلامية وجوب الاعتناء بإفريقيا أكثر من غيرها، لأن الاستعمار والمنصرين ركزوا جهودهم في إفريقيا، وصدّ المسلمين عن دينهم، وعندما ذهبنا فوجئنا أن المعلومات التي عندنا عن المسلمين هناك، وعن جمعياتهم ومساجدهم وطلبة العلم والدعوة الإسلامية مشجعة، وبيد أن هناك أمورًا مؤسفة وهي كثيرة حقًا، فكتبت جميع ما رأيته، وكان هذا نواة كتبي في مجال الرحلات، ولم أظن أنه سيكون كتابًا، فقد أشار عليّ بعض الإخوة أن أصدره في كتاب فأصدرته تحت عنوان: «في إفريقيا الخضراء: مشاهدات وانطباعات، وأحاديث عن الإسلام والمسلمين»، وقد استقبل الكتاب استقبالًا حافلًا، وترجم إلى التركية، كما ترجم إلى الهندية، أيضًا، وعدة لغات أخرى، وهذا شجّعني على المضي قدمًا في كتابة الرحلات التي قمت بها.
تغلب على رحلاتك التي دونتها التقريرية، والرسمية، وعدم انتقاء الأماكن في الرحلات، فلماذا؟
أحب أن أوضح شيئًا مهمًا، وهو أنني أختار الأماكن والأقطار التي يوجد فيها المسلمون من الدول الأخرى، وأتصل بالمسؤولين عن العمل الإسلامي فيها من كبار العاملين في الدولة الذين لهم تأثير مميز على العمل الخيري لصالح المسلمين والفكر الإسلامي، ولا أترك مشاهدة الأماكن السياحية التي تستحق المشاهدة. أما إذا كان السؤال يقصد أنني لم أعمد من رحلاتي انتقاء الأماكن السياحية الترفيهية، فهذا صحيح لأن رحلاتي ليست في الأصل لهذا الغرض.
في رأيكم، كيف تقرؤون أدب الرحلات في المملكة العربية السعودية؟
لبلادنا ميزة خاصة، وهي أنها مهد اللغة العربية، ومنطلق الدعوة الإسلامية، ولذلك كان الترحال منها لأغراض إسلامية واجبًا وضرورة ملحة. أما أدب الرحلات الذي يقصد منه السفر إلى أية جهة من الجهات لغرض الرحلة ذاتها، ثم وصف ذلك وصفًا أدبيًا، فإنه لم ينشأ إلا بعد مدة طويلة، ربما كان ذلك في القرن الثالث الهجري.
في أسفارك ورحلاتك العديدة، ما أبرز الغرائب والنوادر التي رأيتها؟
الغرائب نفسها متنوعة ومتعددة وهي على حد قول أبي تمام:
لا إنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
فهناك عجائب وغرائب تتعلق بالموقع الجغرافي وبالطقس مثل المناطق القطبية التي لا تغيب عنها الشمس في أيام من العام، وقد شاهدت ذلك في ثلاثة أماكن أحدها مدينة مورمانسك بشمال روسيا، والثاني في شمال فنلندا، وفي أقصى شمال سيبيريا، ومنها ما يتعلق بأشكال الناس وألوانهم من حيث طول الأجسام وقصرها ناهيك من الفرق في الطول بين سكان الدول الإسكندنافية الطوال وبين أقزام الكونغو. وهناك عجائب تتعلّق بغرائب العادات التي منها عادات قبائل الماساي في شرق إفريقيا الذين يثقب رجالهم آذانهم كما تفعل النساء، ويثقلونها بما يعلّقونه عليها حتى تصل الأذن في تدليها إلى الكتف.
يطلق عليك عميد الرحالة، فما سبب هذه التسمية؟
صار لفظ «عميد الشيء» مصطلحًا عامًا الآن لمن يكثر من ذلك الشيء، وبعض الناس يضيف إلى هذا الوصف ويجيد فيه، وأنا لا أزعم لنفسي انطباق هذا الوصف، وإن كنت أزعم الإكثار من الرحلات، لأن هذا واقع، وينبغي أن يلاحظ أن الذين أطلقوا عليّ هذا الوصف هم بعض المحبين القراء لكتب الرحلات، ولم تصدر هذه التسمية مني، ولم أشاور فيها.
لك كتب عديدة في الرحلات، فما أبرز هذه الكتب؟
كتبي في الرحلات بلغ عددها 171 كتابًا، طبع منها حتى كتابة هذه السطور 107 كتب، وأبرز هذه الكتب هي «شهر في غرب إفريقية، بورما الخبر والعيان، في شمال سيبريا، جولة في جزائر المحيط الهادي، داخل أسوار الصين، مواطن إسلامية ضائعة، سطور من المنظور والمأثور في بلاد التكرور، قصة سفر في نيجيريا، في بلاد المسلمين المنسيين بخارى وما وراء النهر، نظرات في شمال الهند».
وقد تناولت في كتاب حديث قيرغيزستان: «دراسات ومشاهدات ميدانية» فيه التعريف بجمهورية قيرغيزستان، وعدد المسلمين بها، والنشاط الإسلامي بها، ومشاهدات من قازاقستان إلى قيرغيزستان، وجولة في مدينة أوش، وزيارة إلى جامع الإمام البخاري حتى مغادرة قيرغيزستان إلى طشقند. وفي كتاب «الرحلات الهندية» تناولت زيارة مدينة بومبي، والتعرف على أحوال المسلمين، والتحدّث عن فلسفة الموت والحياة في الهند، وأخذت جولة في مِدراس، كما تناولت اعتناق الدين الإسلامي في ولاية «تاميل».
وتحدثت عن ألبانيا في كتاب «كنت في ألبانيا» وعن موقعها, وتحدثت عن الوضع الإسلامي في ألبانيا، ودخول الإسلام إليها والتعرف على أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها. وفي كتابي «على قمم جبال الإنديز»، قمت برحلة إلى بيرو والأكوادور، وتحدثت عن بيرو بلاد الحضارة القديمة، وموقع بيرو في القارة الأمريكية الجنوبية، ثم جولة في مدينة ليما ثم البحث عن الجمعية الإسلامية والعرب والمسلمين في بيرو، وصولًا إلى بلاد الأكوادور وسط قارة أمريكا الجنوبية.
وقد اتّبعت الأسلوب نفسه في كتاباتي الرحلية المعهودة من خلال تتابع المذكرات اليومية، ووصف الأجناس الأخرى المعروفة، كما أصف النساء بوجه خاص، والأنوار والمظاهر الطبيعية، والأنهار، والجبال، والأمطار، وفصول السنة، وأصف الحيوانات، وبخاصة اللاما، وأقف عند المطارات، والفنادق، والمطاعم، والأسواق، والمأكولات والمشروبات، والفواكة والخضراوات وغيرها.
وأقف عند القصور، والبيوت، والشوارع، والحدائق، والمظاهر السكنية والمعمارية الأخرى، وقد أعرج على أخبار ومعلومات تاريخية وجغرافية وأثرية ولغوية، ويقودني هذا دومًا إلى ما له صلة بالمعالم العربية والإسلامية. كما تحدثت عن العرب والمسلمين في «البيرو» ونشاطهم التجاري، وأكثرهم من المسيحيين، والقلة من المسلمين ومجموعهم «12 ألف نسمة»، ونقل مشاعر العرب والمسلمين هناك.
تم تكريمكم من جهات عديدة، فما أبرز هذه الجهات؟
كان أبرزها وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، حيث قلّدني إياه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود في مهرجان الجنادرية في عام 1424هـ. فشكرت الله، تعالى، وشكرت الذين كرّموني على أنهم أحسنوا الظن بي، وبما كتبته من كتب ومؤلفات وما ذكروه، بما قمت به من جهود ثقافية أخرى، آمل أن تفيد الناس وتنفعهم في حياتهم.
لك اهتمام بعلم الأنساب والشعر والقصة والرواية، نأمل التعريج على هذه الجوانب؟
أي شخص ينوي القيام بعمل مميز لا بد له من الاستعداد الجيد لهذا العمل وأن ينميه ويستمر فيه، ويطور أفكاره ليصل إلى مبتغاه. فوالدي، رحمه الله، كان مهتمًا بحب المعرفة وبأحوال الأسر وتفرعاتها. وعندما كتبت كتابي «معجم بلاد القصيم» الذي صدر في ستة مجلدات، لاحظت أن كثيرًا من بلدانه، وقراه قامت في الأصل على جهود أسرة واحدة أو مجموعة صغيرة من الأسر، فكان لا بد لذلك من البحث في أحوال تلك الأسر، وهذا ما حداني في البداية إلى الاهتمام بالأنساب، فألفت كتابًا موسعًا، فيما يتعلّق بأسر القصيم، وانتهيت من صف القسم المتعلق بأسر بريدة في عشرين مجلدًا، وبقيت هناك كتب أخرى عن أنحاء أخرى من القصيم، وهو يبحث في أحوال الأسر من حيث معرفة أحوالهم وموطنهم قبل أن يستوطنوا منطقة بريدة وعن البارزين من رجالهم وأخبارهم وأشعارهم، وما خلفوه من آثار فكرية إلخ.
وأما القصص والرواية، فإن الأديب أو من يميل بطبيعته إلى الأدب تستهويه في العادة الفنون الأدبية الأخرى التي يستطيع الإسهام فيها، وأرجو أن أنبهكم والقراء الكرام إلى أن كلامي عن كتبي ومؤلفاتي لا يتضمن إلا الإخبار عنها، أما قيمتها الأدبية وفائدتها للقراء فتقدير ذلك راجع للقراء والنقاد، فقد كتبت عددًا من الكتب في القصص ورواية واحدة تقع في 400 صفحة.
لك اهتمام بالتأريخ، وقد كتبت المعجم الجغرافي للقصيم، فما قصة هذا المعجم؟
لتأليف المعجم الجغرافي لبلاد القصيم قصة مع الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، فقد كان مهتمًا بالجغرافيا والبحث الدؤوب فيها، وأعلن أنه بصدد تأليف معجم جغرافي للمملكة، وعرض ذلك على الملك فيصل، رحمهما الله، فشجعه على ذلك، بل طلب منه أن يخبره إذا تم. ونظرًا لسعة بلادنا، وكثرة الموارد، والجبال، والهجر التي يستقر فيها الأعراب بعد أن تركوا حياة التنقل والترحال، بل وتشابه أسماء بعضها، فقد رأى الشيخ حمد الجاسر أن يتولى الأمر عدد من الباحثين يكلف كل واحد أن يكتب عن منطقته، فكانت النتيجة أن كتبت أنا عن بلاد القصيم، لأنني من أهلها وخرج المعجم على ما هو عليه الآن.