أسواق

 

سوق الحميدية:

دنيا في سوق

.الشارع الأكثر شهرة, وإثارة في العالم العربي

 

بقلم: محمد سعيد المولوي - دمشق

 

§ أكثر من 9600 دكان يتوزعون في السوق

§ إحدى عشرة سوقًا في داخل سوق الحميدية

§ لا تحاسد، ولا تناجش، ولا تنافس بين تجار السوق، فالكل إخوان، وأصحاب، وجيران

§ مَن زار دمشق ولم يزر سوق الحميدية، فإنه لم يزر دمشق

لو سألت زائرًا لمدينة دمشق أن يذكر لك أي شيء كان أكثر إثارة له في زيارته فما تردد ثانية، وقال مباشرة: إنها سوق الحميدية.
تقع سوق الحميدية في منتصف مدينة دمشق، وفي نهاية شارع النصر, وهو الشارع الأكثر شهرة وإثارة ليس في مدينة دمشق فحسب، بل في العالم العربي، وذلك لتفرده بأوصاف، وخصائص لا توجد في غيره من الأسواق.

من المعروف أن سوق الحميدية وقبل أن تأخذ اسمها كانت أحد شارعين رئيسين في المدينة أيام الرومان، وكان الشارعان يشقان المدينة من الغرب إلى الشرق، أحدهما يصل بين باب الجابية والباب الشرقي، والآخر بين باب السور الملاصق لقلعة المدينة، وكان هذا الشارع يؤدي إلى المسجد الأموي.
ولسنا في صدد التأريخ للشارع على مدى الأيام، وإنما يهمنا واقع السوق في العصرالحاضر. فمن الثابت أن حمدي باشا أحد ولاة العثمانيين قبل تولي السلطان عبدالحميد الخلافة عمل على تجديد السوق وبنائها، وكان ذلك في سنة 1870، ونظمت فيها الدكاكين، والمحلات، حتى بلغ تعدادها مع الشوارع المتفرقة عنها تسعة آلاف وست مئة دكان. وحين تولى الخلافة السلطان عبدالحميد أبدى بعض العناية بمدينة دمشق، ولأن مدينة دمشق كانت تعد بمنزلة العاصمة الجنوبية للدولة العثمانية، فأمر ببناء عدد من المعالم في دمشق، وكانت سوق الحميدية إحدى هذه المعالم.
كان العمل الرئيس الذي صنع آنذاك في سوق الحميدية أن تم تغطية السوق من أولها إلى آخرها بمظلة معدنية تقي السوق ودكاكينها من أشعة الصيف، ومطر الشتاء، ونظمت الدكاكين، ورصف الشارع، فجاءت الدكاكين كالعيون المكحلة، ورتبت المداخل على السوق، والتي تطورت مع الزمن حتى أصبحت إحدى وعشرين سوقًا مهنية هي كالأولاد بالنسبة للأم الرؤوم.
تبدأ سوق الحميدية من الغرب من جوار قلعة دمشق الشهيرة، وقد تلاصقت دكاكين سوق الحميدية بجدران القلعة، وكأنها تحتمي بها من المصائب، والنكبات. والناظر إلى مدخل السوق وقد تكلل بالسقف المعدني المقوس، وإلى جانبه جدار القلعة، يحس أن هناك تناغمًا عميقًا بينهما، يحدثك عن عظمة الماضي وقد اقترن بالحاضر, وينبئك عن عظمة هذه الأمة التي ارتبط ماضيها بحاضرها، وشهد لها بما خلفته مع الأيام من عظيم الوصف، ورائع الحضارة.
فإذا دخلت السوق فإنها تبهر عينيك بتلك الأضواء المتلألئة التي تأسر العيون، وتسحر القلوب، وتسرح طرفك وأنت واقف، فلا تدري إلى أين تنظر: أإلى السقف الذي تخللته الثقوب من أثر طلقات الرصاص أيام الصراع مع الاستعمار الفرنسي، والتي تسربت من خلالها أشعة الشمس فكانت كسبائك الذهب ألقيت على رؤوس المارة، أم على البضائع والدكاكين فازدهت بها ورأيت بها تيجانًا فاخرة، أو كأنها جدائل حسناء شقراء ألقت بها على السوق تفتن وتأسر، أم إلى الدكاكين وقد وضع بعضها بجانب بعض، وكثير منها تشابهت بضائعها؟ فإنك لن تجد واحدًا من أصحاب هذه الدكاكين يدعو زبونًا من أمام دكان جاره، لأن الجميع يعتقدون أن الرزق بيد الله فلا تحاسد، ولا تناجش، ولا تنافس، فالكل إخوان، وأصحاب، وجيران. لذا ترى البسمة على الوجوه، والرقة في الحديث، والحسن في التعامل. فإذا لم تجد بغيتك في أحد الدكاكين فسيقول لك: اذهب إلى جاري فلعلك تجد بغيتك عنده.
وهذه الدكاكين ستغريك بالنظر, فلن تغض من طرفك، وليست لك النظرة الأولى، بل لك أن تتبع النظرة النظرة، وستعقبك هذه النظرات البهجة، والسعادة، لأنك لا ريب ستجد هدية لمن تحب، قد لا ترى مثيلًا لها في الدنيا، تبعث السعادة في قلب زوجك، أو أحد أولادك، أو أنك ستجعلها تحفة تزين بها بيتك.
وتعال نطف على الدكاكين والمحلات ننظر بعض ما فيها، ولن نستطيع أن نحصي كل شيء، ولكننا سنضرب أمثلة:
هذا دكان يبيع التحف النحاسية، وقد علقت على جدرانه الأطباق، والصحون المحفورة، والمكتوب عليها آيات القرآن الكريم، والحكم، والأمثال، والأشعار، وقد طليت برقاقات الذهب، أو عوملت بالمواد الكيميائية، فأصبحت تلمع كالذهب، وهاهي الصواني «التباسي» الكبيرة التي تتسع لخروف كامل، والتي حفرت بالتزيينات، والخط العربي. وهذا منقل محفور فوق صينية كبيرة يعد تقليدًا لما كان عليه الناس، يوم لم تكن الناس تعرف المواقد الكهربائية، أو التدفئة بالهواء، وإنما كانت التدفئة بالحطب والفحم.. وهذه سيوف مذهبة لامعة أخرجت من أغمادها تذكرنا بأولئك الأجداد العظام الذين طافوا الدنيا يضربون بأمثالها، ويحررون الإنسان من عبودية أخيه الإنسان إلى عبودية الله، والتي تمنح صاحبها الشعور بالعزة، والكرامة، والأنفة، والحرية.
وهذه مصابيح نحاسية محفورة تكاد تضيء من غير نار, وقد تدلت سلاسلها كما ترسل الحسناء شعورها فتأخذ بالألباب.. وهذه لوحات فضية، ونحاسية قد حفرت عليها آية الكرسي، أو آيات من القرآن الكريم. وقد تكون هذه اللوحات مطعمة بالفضة أو الذهب.. وإلى جانب هذا الدكان هناك دكان آخرعرضت فيه أنواع البسط، والفرش، والسجاد ما كان منها أثريًا، ومنها ما هو حديث، وهي محط عناية السائحين، الذين يبحثون عن التحف، والقطع الجميلة التي يمكن أن تزين بها البيوت، والقصور. وفي خطوة إلى الأمام ستسحرك قطع القماش، وأثوابه الملونة، والمزركشة، والمطعمة بخيوط الذهب، والفضة، تتصدرها جميعًا قطع «البروكار»، والأغباني، والحرير البلدي وبجانبها شتى أنواع الأقمشة المحلية، والمستوردة. وإلى جانب هذا الدكان دكان آخر عرضت فيه أنواع المسابح المختلفة، من مسبحة زهيدة الثمن إلى أخرى من العاج، أو اليسر، أو المرجان، أو الفضة، أو الذهب، أو ما طعم بالفضة، والذهب، والتي تساوي الآلاف.
وثمة دكان مجاور حوى أنواع الزينة من عقود، وأقراط، وخلاخيل، وأساور، وخواتم.. يظنها المرء من الذهب الخالص، أو الفضة الخالصة، وإنما هي سراب وزور لا يمت إلى الحقيقة بصلة، تخدع الناظر فهي كالدنيا غرارة خلابة.
والحديث في وصف موجودات السوق يطول، لأننا نستطيع أن نقول إن سوق الحميدية سوق متفردة في العالم، وإن من زار دمشق ولم يزر سوق الحميدية فإنه لم يزر دمشق.
فإذا سرت قليلًا قابلك شارع من على اليمين، فإذا دخلته وجدت أنواع السجاد، والفرش، والموبيليا وقد كانت هذه السوق مركز بيع المفروشات بالمزاد العلني. ويسمي الدمشقيون هذه السوق بسوق الأروام، وحقيقة اسمها سوق الأروان، لكن أصابها التحريف.ويستطيع المرء المعني بالتحف، والأشياء الأثرية أن يجد في هذه السوق بغيته.
وإذا شعرت بالجوع فإنك ستجد على يسارك محلاً يبيع الشطائرالخفيفة، فإن عطشت فسيغريك بائع العصير المبرد كالتمر الهندي، والعرقسوس بقربته النحاسية الطويلة اللامعة، والمزخرفة، وبطاستيه النحاسيتين الرنانتين، وكأنهما تناديانك تعال، وأطفئ ظمأك، ومتع نفسك بالطعم الطيب، والمذاق الحسن.
فإن أردت طعامًا أكثر طيبًا وأغزر دسمًا، وأعظم عراقة، فيمكنك أن تدخل في بدء السوق إلى مطعم ضخم يقدم الأطعمة، والحلويات الدمشقية الأصيلة كالمبرومة، وكل واشكر، والبصمة، والمغشوشة، والبقلاوة، ووربات الفستق، ووربات القشطة، والوردات على البارد.. إلخ ما يصل في عدده إلى أكثر من ثلاثين نوعًا.
ولا ريب أنك ستجد نفسك مسوقًا للسير أكثر في السوق، والاطلاع على محاسنها، وكنوزها. وسترى من أنواع المعروضات ما يحار المرء منه، ومن تنوعه، وجماله. فإذا كدت تبلغ ثلث السوق استرعى انتباهك ضربات متتابعة، وازدحام، وناس يقبلون ثم يعودون، وبأيديهم علب البوظة «الجيلاتي»، وأهل دمشق يسمونها «القيمق»، وهي كلمة تركية. فإن أقدمت قليلًا إلى الأمام تنظر مصدر الصوت فإذا أنت أمام اسطوانات نحاسية طويلة وقد وقف قبالتها من يمسك مدقة خشبية طويلة اليد يضرب بها البوظة بكل عزم حتى تتماسك ذراتها. ولابد أن نشير إلى أن البوظة أحيانًا تعجن بالفستق، والقشطة، أو قيمق العرب الذي هو أعلى أنواع القشطة. كما أنه لابد أن نشير إلى أنه يوجد في سوق الحميدية محلان يبيعان هذه البوظة، وشهرتهما قد جاوزت سورية. وإني لأذكر أنه حين زار دمشق الملك حسين بن طلال قبل وفاته طلب زيارة أحد المحلين، حيث تناول البوظة.
وهكذا نمضي في السوق تأخذنا الدكاكين بموجوداتها، والناس باهتماماتها، ولكن ما يسترعي انتباه النساء هو كثرة المحلات التي تبيع أحدث أنواع الأحذية المختلفة بأنماطها المختلفة، الشرقية منها، والغربية، وتكاد هذه المحلات تأخذ حيزًا كبيرًا من السوق. فإن هذه المهنة من المهن الأصيلة في هذه السوق، والتي تعود إلى أكثر من قرن. فإن مقدم العيد وشراء الأحذية لأفراد العائلة كان يقتضي حتمًا النزول إلى هذه السوق، لأنها كانت السوق الرئيسة في المدينة لبيع الأحذية. وما دام القرين منجذبًا إلى قرينه، فقد دخلت السوق الكثير من البضائع الجلدية من أحزمة، وستر، ومعاطف، وما كان المرء يتلهف في الحصول عليه من هذه الستر الجلدية، لاستيرادها من الخارج، وخصوصًا من مصر وتركيا، أصبح اليوم يجده مصنوعًا صناعة محلية.
على أن أهم ميزة في هذه السوق أنها شريان مدينة دمشق التجاري، فمنها تتفرع الشوارع التي تحوي مئات الأنواع من البضائع، وكل ذلك قائم على الاختصاص، حيث يختص كل شارع من الشوارع بمهنة من المهن، فلا يحتاج طالب حاجة معينة إلى أن يطوف في الأسواق، بل يكفيه أن يدخل السوق المختص فيجد عشرات المحلات التي تلبي حاجته، وتكون سوق الحميدية بمنزلة صالة عرض عام للبضائع، وتكون الشوارع المتفرعة أسواقًا متخصصة.
ونضرب أمثلة على بعض هذه الأسواق، ففي بداية السوق تتفرع سوق الأروان كما ذكرنا، وبعد مسافة قصيرة تتفرع سوق السجاد، وبعد قليل تتفرع سوق الجوخ، وهناك سوق الملابس الداخلية، وسوق المناشف، والبشاكير, وسوق أقمشة المفروشات، والكنبات، وسوق الجوارب، وسوق الملابس النسائية المطرزة. والعجيب أن هذه الشوارع كلها تصب على منطقة أبي عبيدة بن الجراح المسماة بمنطقة الحريقة بسبب الحريق الذي أتى عليها بفعل الفرنسيين أيام الاستعمار الفرنسي، وهذه المنطقة تعد أكبر منطقة تجارية في دمشق.
وفي منتصف سوق الحميدية وعلى اليد اليسرى يتفرع شارعان مهمان، فيهما سوق مردم بك، وهي سوق متخصصة بالخياطين، ولوازم الخياطة، وإلى جانبها سوق العصرونية التي بناها ابن أبي عصرون، وهي سوق متخصصة في بيع الخرداوات، والعدد، والقدور، والصحون، والكؤوس... إلخ
وفي نهاية سوق الحميدية تتفرع شوارع عديدة كل منها له أهميته، فعلى اليمين منعطف يكشف عن أربعة أماكن تاريخية مهمة. فعند المدخل وعلى اليسار ترى مدخلًا ضيقًا، قامت الدكاكين على طرفيه لبيع الأقمشة، ثم فسحة كبيرة مدورة تحيط بها المتاجر، من جميع أطرافها، وهذه السوق كانت خانًا ينزل فيه المسافرون، وتحط فيها البضائع، وتحولت إلى سوق لبيع الأقمشة، ولا سيما النسائية منها.
وإلى جانب مدخل هذه السوق يقوم مدخل سوق لدى النساء وهي سوق تفضلي، وإنما أخذ اسمه من قول البائعين للنساء إذا مررن أمام دكاكينهم تفضلي يا ست. وتختص هذه السوق بكونها سوقًا طريفة ندر أن يوجد مثلها في تكوينها، وكثيرًا ما يزور السائحون هذه السوق متمتعين بجمالها وطرافتها، وحريصين على تصويرها.
وإلى جانب مدخل هذه السوق يقع شارع يتفرع إلى فرعين رئيسين: أحدهما مختص ببيع المناشف، والبشاكير، والآخر مختص بالجوارب. وكلا الشارعين يفضيان إلى منطقة الحريقة. أما على الجانب الأيسر من نهاية سوق الحميدية فهناك ثلاثة شوارع: أحدها كان سوق البورصة قديمًا، والآن هو مركز لبيع بطاريات الساعات، والخرداوات الخفيفة كالنظارات الشمسية.والثاني تختلط فيه الملابس بالكتب والقرطاسية، والخرداوات لكونه وسطًا بين عدة أسواق، فاختلطت فيه مبيعاتها، وبين هذا الشارع وما يليه نجد سوق البريد التي توجد فيها خان جميل تخصص في ملابس العرائس تقصده النساء اللواتي يجهزن بناتهن للزواج. أما الشارع الثالث فبه سوق أثرية تسمى سوق باب البريد، لأن ذلك يؤدي إلى باب البريد الذى كان يخرج منه المراسلون، وعمال البريد. ونجد في هذه السوق دكاكين تبيع القرطاسية، ولوازم تلاميذ المدارس وفي السوق نجد المطاعم وبائعي الشواء. ولكن أهم ما في الأمر أنه توجد في هذا الشارع مدرستان، وتربتان أثريتان هما الظاهرية، والعادلية، والشارع يؤدي إلى قبر البطل المجاهد صلاح الدين الأيوبي، وباب المسجد الأموي الشمالي.
أما على يمين آخر السوق، فهناك سوق أعجوبة ندر أن نجد مثلها، وهي سوق تقطع المنطقة التجارية من الشمال إلى الجنوب، وتمر على أسواق جانبية، ومساجد، ومدارس، ومحلات تموج بالبضائع المختلفة، وهذه السوق توصل إلى سوق مدحت باشا، وتمر على قبر محمود زنكي الملقب بنورالدين الشهيد.
ها نحن قد وصلنا إلى آخر سوق الحميدية لنمتع أعيننا بسوق المسكية وآثارها التي تعود إلىأكثر من ألفي سنة، ونبهج روحنا بمشهد الجامع الأموي رمز دمشق، وعنوان مجدها، وعظمتها.