سوق الزل بالرياض
متحف مفتوح للتراث
تستقطب عراقة الإبداع الفنية في السعودية، وتعقد لبيعها مزادات تثمن مقتنياتها بآلاف الريالات.
الرياض: ملك عبدالسلام
§ سيوفها تستل أمجاد الماضي شهامة وشجاعة
§ معالمها شاهدة على حضارة متأصلة في القدم
§ نمارق عطر العود تعبق أرجاءها
§ تجسد نموذجًا حيًا لجهود الدولة في الحفاظ على إرثها
تحتفي ردهاتها بعراقة أيام خلت، تغتني بمفردات التراث, وتفوح بعبق الأصالة من طيب الفنون, ماضيها وحاضرها، تكتنف من سوق المخيبر ركن الشرق من العاصمة الرياض, تقلب في صفحات الذاكرة ثلاثين عامًا، تطالع وجد الناظر بآسر التأملات, لترسم في جلة الزمان لوحة من أطياف المكان, تستقي ربيع ألوانها من أنامل أينعت كنوزًا تلملم في صياغتها براعة ًما فتأت معالم الجمال عن استعراضها.
سوق الزل.. آية العصر لعهد مضى, ونبراس للمستقبل عن حاضر تليد.
في هذه السبيل امتد عالم القدم إلى آفاق أسواق المعيقلية بالديرة, تحد جنباته مشغولات فنية تخاطب الدهر بغاية من الجمال والإتقان, وتستظل بفيء وارف من الأسقف لشوارع ضيقة, لكنها تشرع الصدر ترحابًا بمآقي الناظرين من السياح الأجانب والعرب أو الخليجيين على حد سواء، يؤمونها لإمتاع الأنفس بنفائس المملكة التي تقصد الزل من كل حدب وصوب, فهي المعرض الأجدى بروعة صنعها, تتهافت عليها أمزجة الزوار في استباق محموم لإطلاق مزاد ابتياع قطع التراث، وفقًا لأعراف السوق، تتخلق فيها مفاتن الخصوصية التي تنفرد بها كل منطقة بالمملكة, فتشكل بيئة تراثية متعددة الملامح، تنأى بتفاصيلها عن ملامسة طابع يحمل سمات إحدى الجهات التي تخط حدود البلاد.
بريق السيوف يستل أمجاد الماضي باستعراض فاتن لمعاني النبل والشهامة في قالب متشعب الهويات، يعد الجوهر أهمها، يرجع أصله إلى الهند وإيران، وهو من أجود أنواع السيوف قاطبة، يقاسمه حسن الجودة السيف السوري، والمكي، والسيوف المصنوعة في جدة والطائف. وكذلك حسام اليمن, الذي يعود في مرجعه إلى تركيا. ويطلق على مهند السودان «جردة»، يختلف بشكله المستطيل عن السيف الذي يندرج في أنواعه أيضًا، الغدرات، وهي عصًا تفك من المنتصف, ومثبت بداخلها سكين، وتستعمل كسلاح أبيض حالها كحال العجرة.
أما التميز في حد الحسام قوة، فيتصدره السيف الهندي، والإيراني، والتركي، والفارسي، والنجدي، واليمني، ثم العماني.
وترتقي الرماح في سموها هامة الفرسان، فهي متنوعة الأشكال والأحجام، تجسدها قطعة حديدية متكاملة ذات رأس شديدة السبك, والدرجة قطعة حديدية تحمي الفارس من ضربات السيف والرماح, بينما تمثل الشلفةُ رمحًا قصيرًا.
وتشدو الخناجر في أشكالها ملاحم بطولة علقت في صدر التاريخ أوسمة، منها الصغير والوسط والكبير الذي يرتبط بالبشت والصاية، فتثبت على الخصر، وهو نوع من الثوب مفتوح من الجانبين، والثوب المرودن، والدفة، والعقال المقصب، والغترة الشماغ، والغترة الكشميري، تلبس في الأعياد والمناسبات الخاصة، كأحد رموز الفخار. تزدان بعضها بلمسات التفضيض, كالخناجر النجرانية المتميزة بنقوشها وألوانها المختلفة وتستخدم لرقصة العرضة، وتعلق بها الجنابي أو الجنبية، وهي من الخناجر التي تلبس بغاية الزينة، وفي الحفلات الرسمية.
لم تبتعد البنادق عن صورة الأدوات الحربية، وإن كانت تستعمل في السلم، القصير منها يحمل مسمى خياليًا، يستخدمها من ارتقى مطي الأجياد أو الجمال في الصيد أو الحرب. أما الطويلة فيصوب منها الإنسان راجلًا، وتتعدد أصنافها بين السلطاني، والإنجليزي، والفارسي. وكذلك الأنواع المغربية والريفل الألماني التي صنعت عام 1815، بالإضافة إلى الهاطفا الفرنسي المصنعة سنة 1876، وتسمى في نجد أم أصبع، لأنها ذات أصبع في الجنب. وهناك بنادق يطلق عليها أم خمس, فهي تحمل خمس رصاصات فقط، وأخرى عرفت بمعشر, إذ تحمل عشر رصاصات.
وللدروع حنكة في صد رماح وسيوف, تقمصت قدرتها من سيل النبال في غمار الحروب، تستشرف روايتها في بعض محال السوق.
إلى عمق الصحراء تسرح دلال القهوة بلب ناظرها، يجتذب تنوع أحجامها وأشكالها فواح الحبهان إلى سريرة الذائقة، تتألق كل منها بقصة تحضير القهوة في مضاربها، فكانت دلال محمود، والحساوي نسبة إلى الأحساء بالمنطقة الشرقية، ودلال رسلان السورية، والدلال البغدادية نسبة إلى العراق، ودلال عذاريات، ودلال قرشيات نسبة إلى قريش أهل مكة، حيث تصنع بها، وهي غالية الثمن.إلا أن الأنواع الأصلية من الدلال، تحمل اسم إبراهيم، ورسلان. وربما تجتاز في مقاسها حدود الضيافة عبر رشفة من فنجان، وتتهيب بجلة من الاحترام لاستقبال يليق بضيوف الكرم، فتوضع في مولج البيت السعودي, كدليلٍ على الاعتزاز بتراث الأجداد.
وثاق حميم يربط تلك الدلال بالمحماس الذي ينحدر في مصدره من نجران، وشخدد، والأحساء, تحمس فيه حبوب البن ثم توضع في المبرد، وتدق في النجيرة جيدًا فتكون جاهزة لعمل القهوة العربية الشهيرة.
لم تنفصم تلك العرى الأصيلة عن حلة اللباس الشعبي التي تسبغه بإيحاءات البداوة وجودة صنعتها اليدوية لمختلف أنواع البشت التراثي، تأسف الدهشة لنأي الشباب السعودي عنه، وإقباله على التصاميم الحديثة التي يتفوق عليها البشت التراثي بحسن نسجه، تميزها أشهر أشكاله من وبر الجمل، وأبو شهر الإيراني، والحساوية، والقطان، والخرس، ولا يعلى على هذه البشوت، حيث يلبسها كبار الشخصيات. أما البشوت التي يرتديها العامة من الناس فتأتي من سوريا، كما توجد أنواع أخرى كالهلال، والمهدي، وجواد النجار.وقد ظهر في الفترة الأخيرة شيء يعرفه أهل المهنة, حيث يستورد الشخص نوعًا من المشالح، ويضع اسمه عليه كعلامة تجارية خاصة به وحده، ليعرف بها وسط منافسيه في السوق من رواد هذا المجال.
وفيما يخص العقال فإنه يصنع في المملكة، ويربط معقلًا لهامات الرجولة من سوريا، و«أبو ظبي»، والأردن، والعراق، ويمتاز العقال العراقي والحساوي بجودتهما، لذا فهما مرتفعا الثمن.
وعلى التراتيل الدينية, تتدحرج أحجار العقيق في حبال التسبيح, تغزو أصبعي الشهادة والسبابة في شهب من كهرمان، ولعل أشهرها سبح اليسر التي تصنع في مكة, وتتفاوت أسعارها بين الخمس مئة ريال وألف ريال، غير أن صناعة سبح مكة تختلف عن صناعات البلاد الأخرى جميعًا، لأنها يسر أصلي، وتمتاز بصناعتها الفائقة، وتطعيم بعضها بالفضة والذهب، وتستوردها المملكة من مصر وسوريا.
أما السندلوس فهي سبح تركية رخيصة الثمن، تصنع من عاج سن الفيل تتأرجح أسعاره من مئتي ريال إلى أربع مئة ريال، وربما تدخل الفضة والذهب في صناعتها فيرتفع ثمنها. وكذلك سبح عين الحمامة، التي تجلب من سوريا، أيضًا، وتكون مطعمة بالفضة والذهب.
وأما الماس فلا يستخدم في صناعة السبح، لأنه باهظ الثمن جدًا، وإن وجدت, فهي نادرة، بينما تشيع سبح اللؤلؤ, سواء الطبيعي منها، حيث يصل ثمنه حتى الألفي ريال، أم الصناعي، الذي يتراوح سعره بين ست مئة ريال إلى ألف ريال، ويجلب من اليابان، والأصلي يأتي عن طريق البحرين، والكويت، وعمان، وباقي دول الخليج.
وأمام النجر «الهاون» تستوقف الخاطرة ركوب أمواجها، لترسي على شواطئ الدق نغمًا يفصح بحكايات السواعد التي ضربت حبوب البر في حجر مجوف كبير سمي بالمنحاس، تمايز في منشئه بين السوري، والحجازي، والمصري والعراقي. فلكل بلد صناعة خاصة به وشكل يختلف عن الآخر تمامًا. أما مع الرحى فتدور قائمة الشجون في خلد المرأة, التي كانت تستخدمها لطحن الأشياء الخاصة بها مثل: الحناء، والورد، والريحان لزينتها.
ومن سعف النخيل تنسج القفة هيكلها لتوضع فيها العجوة، والتمر والخبز. كما تحاك منها السفرة التي يوضع عليها الطعام، بينما تصنع القطوف كأوعية جلدية لحفظ القهوة والهيل والعويدي, وجميعها تصاحب الخيال في استعراضه لجولة عبر أروقة الزل العتيقة.
فلا تبرأ من إراءة المصحفة أو الميجعة التي يوضع فيها الطعام والشراب, وكذلك الصواني النحاسية المرسوم عليها أشكال متنوعة من فنون التراث، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية فتعلق على الجدران، أو توضع في المجالس للزينة. يقتنيها كبار الشخصيات, يقدمون لضيوفهم فيها جل الكرم تباهيًا. في حين تشتري الطبقة الوسطى صواني المعدن، واللافت للنظر أن تلك الصواني كانت تصنع في المملكة, لكنها انقرضت الآن.
غنية مسميات التراث في مقتنيات سوق الزل، فالسميل للحليب واللبن, وكانت قطعة أساسية من مستلزمات المطبخ العربي، بنوعيه الجلد، والمعدن, وهو حديث نسبيًا. أما الدلو القديم, فيعلن مجده في جلب المياه من الآبار. وحتى الطفل الوليد له في محتويات الزل حصة عبر الميزب الذي تضعه أمه فيه, ويعد بمنزلة السرير، وهو مصنوع من الجلد.
وللإنارة نواقيس يجسدها السراج الحجري القديم الذي يستخدم للإضاءة منذ 400 سنة.كما توجد صناديق صغيرة مرسوم عليها أشكال متنوعة من الزخرفة والألوان البديعة، تصنع في سوريا وباكستان.
حاضرة أبد الدهر، المرأة العربية، في حرصها على الظهور بأبهى حللها, تزدان رقتها بقطع صياغة الجمال والأنوثة، وحوانيت الزل العتيقة جديرة بعرض تفاصيلها من خلال الخلخال الذي يزين القدم، والحرز يلبس على الرقبة. أما القلادة فتضعها المرأة على صدرها، والمحزم يتوسط خصرها، ورمزًا للأنفة والكبرياء يتوضع الزند الذي يمتد بنقوشه من الأنف إلى الأذن. بينما تعتلي الهامة من الذهب الخالص الرأس، وتكون أحيانًا مطعمة باللؤلؤ، أو بالفيروز والياقوت، وتسمى في بعض المناطق «شمسه».
إضافات جمالية أخرى, تتدلى من الهامة إلى الخدود وتسمى «الخدود»، سبغها الذهب أو الفضة، في حين ارتقى المرجل تطعيمه بالكهرمان والفضة أو الفيروز, لتضعه المرأة على الصدر.
وأما المكاحل فعديدة، منها ما صنع من الفضة، أو الجلد. كما يشكّل المشط الخشبي والعاجي وذلك المصنوع من الحديد والنحاس أحد أهم أدوات الزينة التي تعنى المرأة باقتنائها، والمراش دوارق من الزجاج والنحاس والحديد تعبق بأطياب ماء الورد والعطورات النسائية.
لم تبرح الرحلة في الزل فضاء النمارق العطرية، فللعود أنواع عديدة تجلت بالكمبودي، والماليزي والإندونيسي، وأفضلها أصناف العود الهندي، وبخاصة الجاوي، حيث يصل سعر الكيلو الواحد منه إلى خمسين ألف ريال. بينما تبلغ أسعار الأنواع الأخرى ما يزيد على ثلاثة آلاف ريال.. ويشترى العود في فصل الصيف بشكل كبير بصفته موسم الأفراح والمناسبات، وفي رمضان ويوم الجمعة لتبخير المساجد والبيوت. وحتى في السوق, يتنافس الباعة في إشعال بعض الأنواع لجلب الزبائن من خلال الأنواع المتميزة التي تفوح برائحتها الزكية. أما العود الصناعي، فضار بالجسم والصحة العامة، لأن مكوناته تحتوي على مواد كيماوية بعكس العود الطبيعي الذي يبعث في النفس راحة وانشراحًا في الصدر.
تفترش الواجهات المتواضعة نماذج البسط الفريدة، ولعل أشهرها البساط الهندي، والإيراني، والباكستاني، بالإضافة إلى أنواع وطنية متنوعة تصنع في المملكة. كما حل الموكيت منافسًا قويًا للبساط.ولكنه ليس في مدى رونقه وجماله، فما زال يشهد إقبالًا كبيرًا عليه، سيما البساط الإيراني المميز بمسمى الشراز، والبساط البدوي الذي يطلق عليه السياح اسم البدوية, ويصنع، حاليًا، عند بدو الشمال.كما توجد ساحات أو شاويات منها العراقية وغيرها على شكل شريط توضع في المجالس للزينة، والخرج الصغير المصنوع من القماش نفسه أو الصوف، يفرش على الجمل لوضع المصحف أو المقتنيات الخاصة في أثناء السفر، والسفايف تستخدم لزينتها. بينما تعرض المخدات، والمراخي، ومساند الظهر، والعدول، والمزاود كمفردات جمالية للمنزل.
مدينة تعانق الجميع
ولأنها لغة التخاطب في كل العصور, ولا تعرف مع الأمكنة هوية، تبقى العملات القديمة جزءًا من التراث الذي يحضر كغيره إلى الزل ليتداول في مزاد علني، فإن كانت القطعة النقدية نادرة، زاد ثمنها، أما المكرر منها فيكون بمئة ريال أو أقل. كما تجتبي السوق الكثير من العملات الأخرى غير السعودية، لكنها تركز في المقام الأول على العملة السعودية وبيعها في أطقم كاملة أو مجاميع للهواة, وهي نوعان: أحدهما من الفضة، علق بأطرافها قليل من الذهب، ويبلغ ثمنها ألف ريال، وهي من أشهر العملات السعودية الأولى في منطقة لارين بإيران، والأخرى صكت في باكستان، كتب عليها كلمة التوحيد: «لا إله إلا الله» على وجه، و«محمد رسول الله» على الوجه الآخر. وهذه أغلى النقود التي كانت شائعة في الأحساء.
هالة من الروعة تحيط الزل فيما تعرضه من الصور الفوتوغرافية واللوحات الزيتية، والكتب والمخطوطات التراثية، وهي غالية الثمن، وبخاصة النادر منها التي بيعت للدولة الجديرة بالتزام قواعد الحفاظ على التراث والاهتمام بإبداعات الأقوام السالفة.
صحوة حقيقية تسد شفاه التثاؤب عن كلل قد يعتري الهمم العاملة في ميدان التراث وحماية أصالته, جهود الدولة السعودية تبرز واضحة لزائري سوق الزل عين الشمس، من خلال هيئة تطوير مدينة الرياض التي تعدو بخطواتها الحثيثة تحت رعاية الأمير سلمان بن عبدالعزيز، أمير منطقة الرياض، وقد تتوجت في افتتاح مبارك للسوق بعد إنجاز مشاريع توسعتها، كشاهد على حضارة المملكة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ.