الكلمة.. رحلة

 

الترحال 

عبدالله محمد الغذامي

يبدو الإنسان وكأنما هو كائن مهاجر بالضرورة، وإن كنا ننسب إلى العرب فكرة الترحال، وهو ما يطبع الشعر العربي والذاكرة العربية، فإن السمة البشرية، عمومًا، هي في الترحل الأبدي، وبسبب الترحال تم كشف أمريكا، وكشف الجزر والمحيطات، مثلما هو شأن الطيور والأسماك التي تظل تهاجر وتترحل، وإذا لم يترحل الإنسان حسيًا فإنه يترحل في خياله، وجاءت قصص بساط الريح، والواق الواق.

وفي عصرنا هذا نشأت القيود على الحركة البشرية، واخترع الإنسان الحدود، والجمارك، وحرس الحدود، ولكن الإنسان ما انفك يتحدى القيود، وصرنا نسمع عن بشر يتحدون الموت، والقرصنة، والاستغلال، في سبيل أن يهاجر الواحد من مكانه، ويطرق أبواب الأرض.

لقد بلغ ببعض البشر حس المغامرة أن يختبئ في عجلات الطائرة، ويتعرض إلى أعلى درجات الخطر، حينما يتعلق بين السماء والأرض في سبيل أن يستعيد حقه في الهجرة، أوليست الطيور والأسماك ما زالت حرة في الترحل؟
لم لا يكون الإنسان كذلك؟
هذا التساؤل ما يدفع الناس إلى ابتكار الحيل للهجرة والترحال، وإن كنا نسمي بعضها الآن بالسياحة والتفسح، وهو اسم جديد للترحال، غير أنه ترحال منظم، ومقنن بالتأشيرات والحدود الزمانية والمكانية.

ويتبع ذلك نوع جديد مبتكر من الهجرة، حيث نشأت تقاليد أخذت في الاتساع، وهو أن يشتري المرء شقة في بلد غير بلده، ويفتح رصيدًا ماليًا في عاصمة غير عاصمة بلاده. وهذا نوع من الرحلة والهجرة المبيتة.

وإن كان المثل الشعبي يقول: «بيت ما هو في بلدك لا هو لك ولا لولدك»، إلا أن اتخاذ منزل في مكان مختار قد صار سنة لأناس كثيرين، وهذه نية مبيتة للهجرة، إذا اقتضى الأمر ذلك.
لا يمكن تحديد الحس البشري والنزوع البشري باتجاه السفر، والهجرة، والترحل، والناس كلهم في هذه المسألة بدو رحّل، لا تحدهم أرض، ولا يقيدهم جواز سفر.
وإن كانوا في القديم يرون في السفر خمس فوائد، فإن معاني السفر اليوم توسعت، حتى صار مفهوم الشركات عابرة الحدود ومتعددة الجنسيات، صار مفهومًا اقتصاديًا مركزيًا في حركة الأعمال الكونية، وجاء تصور جديد عن الشركات التي لا جنسية لها في تجاوز لفكرة تعدد الجنسيات، وهي صيغة حديثة للبدوي الذي لم تكن تحكمه جنسية ولا حدود.
ونحن في سفرنا نغير ملابسنا مثلما نغير لغتنا، ونغير نظام أكلنا، وسلوكنا، وكأننا نتحول إلى ذوات أخرى نتخلص فيها من ذواتنا المعتادة، وفي خزانة ملابس كل منا خليط من اللباس يجعلك كأنما أنت عدة شخصيات، وعدة جنسيات.
كل هذا لأن وازعًا ثقافيًا قديمًا ورثناه، وما زلنا نتمثله، وهو البدوي المترحل الثاوي في داخل الثقافة، والباحث عن صيغة يعبر بها عن معناه، وهي لا تخصنا نحن بوصفنا عربًا، بل هي قيمة بشرية كونية.

وفي الشعر العربي تكثر قصة الرحلة والترحال، وأداة الترحل، وليس ببعيد عنها وجود شعراء المهجر، ومثلها ما تشاهده في شوارع لندن وباريس، حيث تظن، أحيانًا، أنك في عاصمة عربية، وهناك ملايين من العرب اليوم في أوروبا وسائر قارات العالم مهاجرين، ومثلهم أقوام أخرى كالهنود والصينيين، حتى لتجد مدينة صينية مستقلة، أو شبه مستقلة، داخل عدد من مدن أمريكا وأوروبا.
وسترى ذلك في الأطعمة والأذواق، حيث تترحل هذه أيضًا، بحيث تأكل في الرياض ما يأكله الأمريكي في نيويورك، وهذا يجعل عصرنا عصر العودة الأبدية إلى الهجرة، ومن لم يهاجر بجسده هاجر بخياله.