تاريخ

 

قطار الحجاز

حقيقة أشبه بالأسطورة

هل تعود إليه الحياة من جديد؟ 

• استطلاع وتصوير: عبدالعزيز محمد العريفي
 

§ السكة الحديدية تصل الشام بالحجاز

§ استمر عمل السكة الحديدية في نقل الحجاج والمعتمرين والبضائع قرابة التسع سنوات

§ قامت الحكومة السعودية بإعادة ترميم محطتي المدينة والعلا وإصلاحهما وإنارتهما وعدهما من المعالم الأثرية المهمة

§ أول رحلة من دمشق إلى المدينة المنورة كانت في أغسطس 1908

تمتاز المملكة العربية السعودية بتنوع إرثها الحضاري، خصوصًا ما يتعلق بالآثار، وتعج صحاريها، وسهولها، وجبالها، بالمواقع الأثرية المهمة، مثل: مدائن صالح، وقرية الفاو، وعيون زبيدة، وغيرها كثير، وعلى مقربة من مدينة العلا، وبالتحديد في مدائن صالح، تقبع محطة مهمة من محطات سكة قطار الحجاز، التي طالما تحدث الأجداد عنها، وصوروها كأسطورة طروادة.

تدغدغ مخيلاتنا وأحلامنا، حتى بتنا تواقين لزيارتها، والوقوف على معالمها، ورؤيتها عن كثب، فعقدنا العزم على ذلك، وشددنا إليها الرحال، وانطلقنا بالسيارة من مدينة حائل إلى مدينة العلا التابعة للمدينة المنورة، واستغرقت الرحلة زهاء الخمس ساعات، مررنا خلالها بقرى مشهورة عدة، فضلاً عن كونها مناطق أثرية تابعة لحائل والمدينة المنورة، مثل: موقق، والنفس، والخبة، وقليب الأطرم، وبيضا نثيل والشملي.

والشملي قرية مشهورة ببئرها الكبريتية، التي يستشفي بمائها المرضى القادمون من شتى بقاع الجزيرة العربية، خصوصًا من دول الخليج العربي، ثم مررنا بقرى سباطر، وعمائر ابن صنعا، ومحير ذويرة، وغزلانة، ومحجة عنزة، وعرنان، وجبل برد، والجهراء، وحرة خيبر، وحمرا عشاش، ومن ثم شطابة، وهي منطقة صخرية واسعة شديدة الوعورة، تتميز بجبالها غريبة الشكل، وأوديتها، ومنحدراتها، وكأنها تحاكي تضاريس أحد الكواكب خارج مجموعتنا الشمسية، وشبيهة، إلى حد كبير، بتضاريس أحد أقمار كوكب زحل، ثم بدت جبال العلا وأطلالها وبساتينها تلوح لنواظرنا، تسبح في بحر من السراب، تأسر الفكر وتسحر الألباب.

وما أن اقتربنا أكثر فأكثر حتى تعمقنا بجمالها، لا يكاد المرء يصدق أن في بلادنا هذا الجمال كله، جبال أشبه بالتماثيل اليونانية، وأخرى أشبه بناطحات السحاب، تعانق سماء شديدة الزرقة، وطيور تحلق هنا وهناك، كل ذلك في لجة بحر من النخيل بأمواجه الخضراء، تتراقص عليه أشعة الشمس.. ها قد اقتربنا من المنطقة الأثرية التي تضم: مدائن صالح، والقلعة العباسية، ومحطة سكة قطار الحجاز، كلها داخل سياج واحد، أخذت ضربات القلب تزداد عندما وقفنا على البوابة الرئيسة ننتظر الإذن والتصريح بالدخول، وما هي إلا لحظات حتى ولجنا داخل السياج المحكم، وكان الوقت ظهرًا، ولم نصدق أعيننا عندما وقعت لأول مرة على تلك البيوت المنحوتة بالصخر ببراعة مذهلة تحير الأذهان.

وأخيرًا، ها نحن أمام مدائن صالح التي طالما تاقت الأنفس لزيارتها، وتحسس جدرانها، والولوج داخل غرفها، وكأن تلك الصور الفوتوغرافية الكثيرة لها، والتي تأملناها طوال السنين الماضية، لم تفلح بإقناع الذات المطمورة في بؤرة الشعور بحقيقة وجود تلك البيوتات أو الأضرحة، حتى وقفنا عليها أخيرًا نتأملها، وبدت كأنها قد خرجت عن إطار الزمن، بعد أن ملَّ وكلَّ من محاولة طمسها دون جدوى.

إنها حقًا من عجائب الدنيا التي تستحق المزيد والمزيد من العناية والاهتمام، وطفقنا نلتقط الصورة تلو الأخرى غير آبهين بحرارة الشمس الحارقة، وبجفاف حلوقنا وألسنتنا من العطش، وبعد مرور ما يربو على الساعتين، قررنا التعمق أكثر في المواقع الأثرية، حتى وصلنا محطة سكة قطار الحجاز، التي هي هدفنا الأساسي من تلك الرحلة.

يا له من مشهد رائع، وكأنك تشرف على قرية في عمق التراب الألماني، حيث بدت أبنية المحطة ذات الطراز الأوروبي غاية في الجمال والتنسيق، وكأنما قد فرغ من بنائها للتو، إذ كانت تلك الأبنية تستخدم كمساكن ومكاتب لموظفي المحطة، ولم يفتنا في أثناء ذلك زيارة القلعة العباسية المجاورة للمحطة وتصويرها، تلك التحفة المعمارية التي زادت المنطقة بهاء وجمالًا وملأتها بعبق التاريخ ببنائها المميز، وقد أنشئت في العصر العباسي لخدمة الحجاج، وعكس مدى الاهتمام الكبير بالحجاج والمعتمرين أبان ذلك العصر.

ها قد وصلنا إلى هدفنا من الرحلة، حيث يقبع القطار القديم شامخًا، وعدد من عرباته تحت سقف كبير بُني، في الغالب، من أفضل الصفائح الحديدية المقاومة للصدأ.
قد بدأت قصة مشروع سكة حديد الحجاز عندما قرر السلطان عبدالحميد الثاني، حماية للحجاج من قُطَّاع الطرق، وتوطيدًا لسلطانه بإنشاء السكة الحديدية، حيث بدأ المشروع في جمادى الآخرة سنة 1318هـ الموافق سبتمبر 1900م. وابتدأ العمل بالفعل من منطقة المزيريب، وهي من أعمال حوران بالشام، ثم انتقل إلى دمشق، وعهد إلى شركات ألمانية إنشاء الخط، واستمر العمل به قرابة الثماني سنوات، وتم تمويله عن طريق التبرعات من شتى البلاد الإسلامية، وبتبرع من السلطان عبدالحميد نفسه قدر بأكثر من ثلاث مئة ألف ليرة، وقامت الشركات بتنفيذ المهمة بدءًا من المزيريب، ثم دمشق، إلى مدائن صالح التابعة لمنطقة العلا، ومن ثمَّ قامت شركات إسلامية أخرى بإتمام ما تبقى من السكة الحديدية حتى المدينة المنورة، وبناء المحطة الرئيسة هناك.

ولك أن تتخيل مدى الصعوبات والعقبات التي واجهت المشروع حتى إتمامه، خصوصًا فيما يتعلق بتوفير المياه للعمالة في أثناء العمل، وللمحطات حال الفراغ من بنائها، وقد لزم لذلك حفر آبار عدة على طول الخط، والمشكلة الأخرى التي واجهت المشروع، عندما اضطرت الشركة إلى إقامة جسور ومصارف عدة، للحيلولة دون جرف السيول الخط الحديدي، ولمواجهة نقص العمال، فقد استعين بستة آلاف جندي من الجيش العثماني. أما عن الوقود، فقد تم استيراد كميات ضخمة من الفحم الحجري، وبنيت لها مستودعات خاصة، وبلغت تكاليف المشروع حتى انتهائه ما يربو على الأربعة ملايين ليرة، ووصلت أول رحلة من دمشق إلى المدينة، مرورًا بمحطتي العقبة والعلا يوم 22 رجب 1326هـ الموافق 23 أغسطس 1908م، وقد عمَّ الفرح والحبور قلوب المسلمين جميعًا لهذا الإنجاز الذي اختصر المسافات التي كان يقطعها الحجاج من بلاد الشام إلى المدينة في أكثر من شهر إلى خمسة أيام فقط، واستمر عمل السكة الحديدية في نقل الحجاج والمعتمرين والبضائع ما يربو على التسع سنوات، إلى بداية الحرب العالمية الثانية، وتوقف الخط الأسطورة، وأهمل حتى قامت الحكومة السعودية بإعادة ترميم محطتي المدينة والعلا، وإصلاحهما، وإنارتهما، وعدهما من المعالم الأثرية المهمة. و هذا ما دأبت عليه حكومة خادم الحرمين الشريفين من عناية بالآثار بشكل عام، وليس فقط ما اقتصر على الحكومات السعودية عبر التاريخ، وعد ذلك من الإرث الحضاري الذي يستوجب الحفاظ عليه، وأبلغ دليل على ذلك، عدم المساس بالمشاريع التوسعية القديمة للحرمين، والعناية الفائقة بها، وإبقاؤها على ما كانت عليه حتى بعد التوسعات التي تمت خلال الحكم السعودي.