حاضرة الإبداع المعماري التقليدي
قصور نجران الطينية
نجران موقع جغرافي فرض نفسه على الصحراء، وثراء حاضرها يشد قسرًا إلى ماضيها التليد.
• استطلاع وتصوير: عبدالعزيز محمد العريفي
نحن أبناء الخليج يستهوينا التراث القديم بكل أبعاده المعمارية، والفنية، والحرفية، وحتى الروائية منه، فتجد الكثير من الشباب يجذبهم الحنين إلى بيوت الشعر، والطين، والأواني والأدوات القديمة، والرحلات البرية، ونار الحطب، والأكلات الشعبية، فضلًا عن الخيل والجمال، وأضحت ذكريات الأجداد تتوثب في مخيلاتهم بين الحين والآخر، وكأنها ذكرياتهم هم، وتزداد تلك المشاعر الجياشة عندما تقع عينك على أحد القصور الطينية في مدينة نجران السعودية.
ونجران اسم له دلالات عدة، ويعني فيما يعنيه الخشبة التي يدور عليها رتاج الباب، وهو كناية على أنها كانت المكان الأول الذي قصده السكان في هذه المنطقة، وكلمة نجران تعني أيضًا العطشان، خصوصًا إذا عرفنا أنها كانت واحة يلجأ إليها المسافر العطشان في شبه الجزيرة العربية لقرون عدة، وفي رواية أن اسم نجران كان نسبة إلى نجران بن زيدان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، كونه أول من نزلها وعمرها، ومهما تكن الحقيقة، فإن نجران اسم طغى على الأزمان، وموقع جغرافي فرض نفسه على الصحراء القاحلة، وثراء حاضرها يشدنا قسرًا إلى ماضيها التليد، ومحاولة استكشاف حقائق ذلك الماضي والتمعن فيها. إنه استكشاف تجتمع فيه لذة المعرفة، وروح المغامرة، ومتعة السياحة، ما يجعل من الصعب مقاومته.
ثراء حضاري ومعماري
وتزخر تلك المنطقة المهمة من بلادنا بتنوع وثراء حضاري، ومعماري، وبيئي قلما تجده في منطقة أخرى، خصوصًا فيما يتعلق بالمواقع الأثرية مثل موقع مدينة الأخدود المشهور الذي جاء ذكره في الكتب المقدسة بأنساق مختلفة التركيب، بيد أنها تحمل المعنى نفسه، وذكره الله، عز وجل، في القرآن الكريم في سورة البروج:}قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود{.
القصور الطينية
وتقع آثار الأخدود في قرية القابل على وادي نجران في «رقمات عاصمة نجران القديمة»، وتمثل القلعة فيه الفترة الرئيسة للاستيطان البشري عام 600 ق.م إلى القرن الثالث الميلادي، ويعد أبرز المواقع الأثرية في نجران, ويليه في الأهمية موقع بئر حما المشهور بالرسوم والنقوش الصخرية، والكتابات الثمودية، والمسند الجنوبي, إلا أن ما يهمنا هنا هو المباني التراثية، والقصور الطينية على وجه التحديد، حيث يسمى بيت الطين في نجران «دربًا»، وهو الاسم الشائع هناك، ويعد قصر الإمارة التاريخي نموذجًا فريدًا للعمارة الطينية التقليدية في المنطقة، فضلًا عن كونه يمثل فترة مهمة من تاريخ الدولة السعودية في عهدها الثالث، وأنشئ القصر عام 1631 كمقر للإمارة، والشرطة، والمحكمة، والبرقية، والمبنى شيد كقلعة عظيمة ذات أسوار عالية، وفي كل ركن من أركانه أقيم برج عالٍ دائري الشكل للمراقبة، زين أعلاه بالشرفات، والجبس، والمقرمصات النجرانية الجميلة. ويضم القصر نحو 60 غرفة كبيرة وبئرًا مبطنة بالحجارة، ومسجدًا. والقصر بأكمله بني بطريقة عروق الطين «المدماك»، وهي طريقة اشتهرت بها مدن أخرى في المملكة، خصوصًا مدينة حائل في الشمال، وهي أفضل بكثير من طريقة البناء بلبنات الطين الهشة.
قصر العان
وهناك قصر آخر لا يقل أهمية عن مقر الإمارة، خصوصًا من ناحية فن العمارة، ألا وهو قصر العان، ويُعرف، قديمًا، بقصر سعدان، والقصر بأكمله شيد على قمة جبل عام 1689، ويعد من أروع نماذج العمارة الطينية التقليدية. وهناك قصور أخرى عديدة في قرى نجران تعد بمجملها من الإبداع المعماري التقليدي مثل: الحامية، الحضن، دحضة, الشبهان، صاغر، القابل، المشكاة، المخلاف، الموفجة.
وقد قامت الدولة، أعزها الله، بترميم أغلب تلك القصور وصيانتها، لتكون مواقع يرتادها السائحون, والغريب أنك عندما تلج أحد هذه القصور في أشد الأيام قيظًا تغشاك نسمة رطبة عليلة، تنعشك ببرودتها، وتدغدغ وجنتيك، ويعبث عبير رائحتها الطينية المحببة إلى النفس بشريط ذكرياتك في أعماق ذاتك.
طريقة البناء القديمة
أما عن طريقة البناء القديمة للمباني التراثية، فتتم، عادة، بتعاضد أبناء الحارة أو الحي الواحد كل في تخصصه، دون الحاجة إلى العمالة الوافدة، وتحدد قطعة الأرض المراد إقامة البيت عليها أولًا، ثم توضع حبال لتحديد الأساسات، وبعد ذلك يتم حفر الأرض بعمق مترين تقريبًا على ضوء تلك التحديدات، ثم يوضع «الوثر»، وهو خليط من الحجارة والطين, بعدها يُبنى المدماك «العرق» الأول حسب المخطط، وتتنوع مادة المدماك حسب المنطقة، بيد أنها عادة ما تتكون من الطين اللازب بعد تخميره أيامًا عدة، ثم يتم خلط البطحاء معه والتبن بمقادير معينة، وبعد الانتهاء من العرق الأول يُترك لمدة يوم ليجف، وذلك في الصيف، أما في الشتاء، فربما ترك أيامًا عدة، ثم يقام المدماك الثاني فوقه بالطريقة نفسها، وهكذا حتى يتم البناء بارتفاعات يحددها غالبًا صاحب المِلْك، وبعد وضع الأسقف التي عادة ما تكون من جذوع الأشجار السميكة مثل: الأثل، والسدر، وسعف النخل، تتم عملية «الصماخ»، وهي لياسة السقف من أسفل بالطين, وبعد نصف شهر تقريبًا يبدأ عمل «القضاض» الجير الأبيض أو الجبس، وتزيين الشرفات وإطارات النوافذ به، ثم التعسيف، وهو بناء الدرج وتلييسه بالطين والنورة، وبهذا يكون العمل الأساسي قد انتهى، وتبقى إضافات ولمسات محددة من قِبَل المالِك، يتم إدراجها في لائحة العمل، إما لتجميل المبنى، أو حمايته أو حفظه مثل: إضافة ما يُسمى «الدكة» خصوصًا لراحة كبار السن, ووضع الكوة في جدار الغرفة، وهي رف منحوت داخل الجدار لوضع الكتب فوقه أو السروج «المصابيح»، كما يُبنى عادة في إحدى زوايا الغرفة ما يُسمى «الصفيف»، لوضع الأكل فوقه. ولمن أراد زيادة حماية بيته من الملوحة الأرضية والمياه، عليه بالحذوة، وهي خليط غليظ من الحجارة والطين يغطى بها العرقان السفليان من الخارج.