لم يبقَ منها إلا واحد
الحمامات الشرقية في طرابلس..
حقبة منسية
لا يقتصر عملها على الاستحمام، ولكنها مكان للاحتفال والترويح عن النفس.
• طرابلس: رولا حميد
إذا كان الغرب يفخر بحمامات «السَّونا» التي يعدها إنجازًا حضاريًا, فإن من حقنا في المشرق أن نزهو فخرًا بحماماتنا التي سبقت «السَّونا» بمئات السنين في تقديم الخدمات نفسها. وقد أقيمت الحمامات في العالم العربي، تلبية لحاجات الناس، ولا سيما المسافرين منهم، واستكمالًا لعمل الخانات التي تعد بمنزلة الفنادق اليوم. وإذا كان الخان قد وفر للزائر والمسافر المبيت والراحة والأمان, فإن الحمام قدم له النظافة والصحة والاستجمام.
القسم الجوَّاني
عرفت البلاد العربية الحمامات أيام المماليك، وسرعان ما كثرت وانتشرت في المدن الكبيرة، لتصبح جزءًا من الحضارة الشرقية التي يُغفِل الكثيرون اليوم فضلها على حضارة الغرب.
وينقسم الحمام العربي، عادة، إلى ثلاثة أقسام، أولها: الحمام «الجوَّاني»، وهو الأكثر عمقًا، ويتألف من عدة غرف, واحدة للتدليك «السَّونا» وغرفتين للتبليل, وفيه تُجرى المرحلة الأولى من الاغتسال التي يتولاها المستحم بنفسه دون الحاجة إلى مساعدة أحد.
وفي هذه الغرف جُرن حجري للمياه الساخنة، فيه وعاء لصب الماء, وبعد التبليل ينتقل المستحم إلى غرفة «التكييس», حيث يتولى عامل مختص فرك جسمه بكيس مصنوع من شعر الماعز, مع استعمال الصابون الذي يختار المستحم نوعه ورائحته, وعند الفراغ من التكييس يُرمى الكيس ولا يُستخدم لزبون آخر. وإذا رغب المستحم في تدليك جسده، فيمكنه الانتقال إلى الغرفة المخصصة ليدلَّك مدة عشر دقائق تقريبًا.
الوسطاني والبَرَّاني
أما القسم الثاني فهو «الوسطاني», وهو فسحة داخلية تحيط بها غرف الجوَّاني، ويخرج المستحم إليها بعد إتمام المرحلة الأولى، ويجلس على مقعد حجري يتوسط الفسحة ليبرد جسمه من خمس دقائق إلى عشر دقائق، وفيه يجفف جسمه ويرتدي ملابسه الداخلية، استعدادًا للخروج.
والقسم الأخير هو «البرَّاني», يخرج إليه الزبون بعد فراغه من «الوسطاني»، وغالبًا ما يقضي فيه وقتًا من الاستجمام، يحتسي فيه كوبًا من الشاي أو غيره، والغاية من هذا الانتقال هو التدرج بين الجو شديد الحرارة في «الجوَّاني»، ومعتدل الحرارة في «البرَّاني». وكل من القسمين يُضاء إضاءة طبيعية بنور الشمس عبر قطع زجاجية خاصة مزروعة بكثافة في السقف المكوَّر كالقبة.
وتُسخن المياه بوساطة مرجل نحاسي ضخم يستوعب خمسة عشر برميلًا من المياه, يوضع في غرفة خاصة في أحد جوانب الحمام، وقديمًا كان يُسخن بالحطب وفضلات المناشف، أما حاليًا فتستخدم فيه الوسائل الحديثة على غرار عمل المشعَّات الحرارية «الشوفاج»، ومن المرجل تخرج قناة للمياه الساخنة توزعها على الغرف الداخلية.
الحمام الصامد
لما كان حمام «العبد» هو الحمام الوحيد الذي ما زال يعمل, فإن من الأفضل أن نلقي عليه نظرة من قرب، ونتعرف على شيء من تاريخه، وصموده أمام الدهر.
هذا الحمام وقفٌ لآل السلطي، ويستثمره حاليًا الحاج توفيق بيرقدار الذي ورث المهنة عن أبيه، إضافة إلى حمام آخر في العاصمة بيروت. ويقع حمام العبد في محلة الرمانة في سوق الصاغة، إذ يتفرع عن السوق ممر ضيق طوله خمسة عشر مترًا، يؤدي إلى الحمام, وفي مدخله بوابة حديثة من الألمنيوم، وتبلغ مساحته زهاء 500 متر مربع, ولا يُعرف تاريخه، ولا اسم بانيه.
ويعبق الحمام بروائح الصابون العطرية المتسربة من الداخل إلى الساحة التي تتوسطها بركة مياه لها ثمانية أضلاع، وأرضها مبلطة بالرخام الأبيض.
وتعلو الساحة قبة عالية يتجاوز ارتفاعها ثمانية أمتار، وعند أعلاها قبة أصغر محاطة بنوافذ الزجاج تُفتح صيفًا للتهوية، وفي السقف مصابيح قديمة، وعلقت على الجدران أدوات أثرية، وتحف نحاسية، ولوحات تحمل آيات قرآنية، وقد نقش على إحداها: }وجعلنا من الماء كل شيء حي{, وإلى اليمين مكان على شكل قبو منخفض السطح متطاول، مخصص لاسترخاء «الزبائن»، وتستخدم زاوية منه مطبخًا للعمال، يعدُّون فيه الطلبات من شاي، وقهوة، وزهورات، أو نارجيلة.
منتجع متكامل
لا يقتصر عمل الحمام على الاغتسال والاستحمام فقط، ولكنه أشبه بمنتجع متكامل، يجتمع فيه الأهل والأصحاب والجيران، فيستأجر المحتفلون الحمام، ويدعون مَنْ يحبون، ويشترك الجميع في الابتهاج والفرح وتبادل التهاني.