أسفار

• بسام الطعان

سنوات طويلة وأيامها تفسدها الكآبة بإطلالتها البشعة. سنوات وهي تنام على الحنين وتصحو عليه، لكنها لم تتقن التعب في يوم من الأيام. وحين جاءها الخبر الذي انتظرته طويلاً وهي تغسل البساط الصوفي في النهر، أطلقت شهقة وكادت تقع في الماء غير أنها تشبثت بصخرة كبيرة وسألت:

بالله عليك يا ولدي، ما تقوله صحيح؟.. أين هو؟
نعم يا خالة. رأيته بأم عينيَّ. كان في سيارة حكومية ومعه شرطي.
ولأن لا شيء يشبه الفرح الذي تلبَّسها، لا في الحدود ولا في المطلق، دمعت عيناها أكثر من المعتاد. ظلت واقفة للحظات. أرسلت دموعها رسائل شوق إلى وجهه، ثم أسلمت قدميها للريح، ومن خلفها تتساقط قطرات الماء من ثوبها. سارت بقوة الحب واندفاع الشــوق، واتجهت إلى بيتها تسبقها لهفتها. في الطريق تذكرت أنها لم تخرج البساط من النهر، لكنها لم تهتم بذلك، فكل شيء يهون من أجل عينيه.
سبع سنوات مرت لم ترَ خلالها عباسًا سوى مرة واحدة، كان ذلك منذ أربع سنوات عندما جاء ليخبرها بأنه قد تخرج في كلية الحقوق، وأنه سيعيش في العاصمة. حينئذ رجته بحرارة أن يظل إلــى جانبها أو ترافقه، لكنه رفض بشدة وتذرع بحجج واهية.
منذ ذلك اليوم وهي تحيا على أمل أن يعود، لكنه غاب دون رسالة أو سؤال يتيم، حتى رسمت سنوات الانتظار الخرائط على وجهها الخمسيني.
كانت تراقب الطريق المؤدية إلى المدينة كلما غسلت لقاء أجر زهيد بُسط أهل القرية وصوفهم في النهر المسافر دائمًا. كم حسدت هذا النهر، وكم تمنت أن تسافر مثله، لأن ألف شوق يشدها إلى الغائب. رجت القلب مرة أن ينساه وما استطاع.
أبدًا لم تتعب من ترقب عودته، وكلما جاء أحد من المدينة، تسأله بلهفة عن الغائب دون سبب، فتتأسف وتتحسر، وتصبر. صبرت، وانتظرت، وشاخ انتظارها.
أحيانًا كانت الأيام تمر في لمح البصر، وأحيانًا أخرى تبدو مثل الدهور المجحفة، وكانت كلما تشتد وطأة الوحدة عليها، تجلس مع العتمة، تصادق الدموع، وتسأل عن سر عدم مجيئه إليها، فتهزمها الأجوبة، ويرهقها التفسير، وتفسير التفسير.
اقتربت من بيتها الطيني، فتملكتها دهشة لا تزول، لأنها لم تجد السيارة أمام الباب. دخلت بخطوات سريعة. بحثت عنه في أرجاء البيت. نادته بصوت أوله حنين وآخره حنين، لكنها لم تجد له أثرًا: «أين ذهب يا تُرى؟» تساءلت في داخلها، واستعدت لتنظيف البيت وترتيبه، ذلك البيت الذي تحجرت أشياؤه ولم تتبدل مواقعها منذ سنوات.
بدأت عملها بسرعة ونشاط، كما لو أن سرعتها هذه ستسرع مجيئه. حملت لحافه الذي طال حنينه إلى الماء والصابون: «إيه.. يا نور عينيَّ.. لحافك ما زال كما هو، غبت كثيرًا، وها أنت تعود لتزين هذا البيت بوجهك من جديد».
نظفت فراشه والشوق والفرح يتحاوران في مخيلتها، مضت إلى البئر. أحضرت الماء. رشت به أرض الدار، ثم دخلت غرفتها. توجهت نحو صندوق ملابسها. الصندوق الذي ظل مقفلاً منذ غيبته. فتحته بصعوبة. نفضت عنه التراب. أخرجت فستانها القديم الجديد، لكنها تركته جانبًا وتوجهت إلى المطبخ بعد أن ذبحت الدجاجة الوحيدة التي تملكها. أعدت الطعام، ثم ارتدت فستانها وجلست بانتظاره.
ياه.. كم مرة حملت أثقال الهموم؟ كم مرة نطقت باسمه في أزقة القرية وحواريها؟ كم مرة بكت وسقطت دموعها في النهر، وبُحَّ صوتها من الحنين، ونسيت بعض الصوف في الماء، وجرحت إصبعها وهي تقطف الحشائش في البرية، أو تعد الطعام؟
كانت تضمه بخيالها إلى صدرها، تعاتبه حينًا، وتقبـله حينًا بحنان عجيب. لم تعرف كم من الوقت مر عندما أفاقت من تخيلاتها على صوت جارتها وهي تطل برأسها من فوق الحائط:
ألم يأتِ ولدك بعد يا «نوفة»؟
لا، ولا أعرف أين ذهب. قالتها بحسرة واضحة.
يقول زوجي إن عباسًا موجود في المخفر.
مخفر!! ماذا يفعل ولدي في المخفر؟
لا تخافي، زوجي يقول إنه قد أصبح رجلًا مهمًا في العاصمة، ولكن لماذا لم يأتِ إليكِ حتى الآن؟
لمعت عيناها بالفرح وشردت للحظات:
ألم تقولي إنه أصبح رجلًا مهمًا؟ فلا بد أن لديه أعمالًا يقضيها مع رئيس المخفر.. على كل حال لا بد أنه سيأتي بعد قليل.
وراحت ترسم لوجهه الذي طالما سهرت الليالي وطيفه يتراءى لها صورًا عديدة، صـوَّرته مرة مديرًا، ومرة ضابطًا، ومرة قاضيًا، ومرة وزيرًا.
انسدل الليل على جسد النهار، ونشر عتمة تشبه عتمة زنزانة، فاشتد قلقها. فكرت في الذهاب إلى المخفر، لكنها سرعان ما غيرت رأيها: «لا يجوز أن أذهب وراءه. صحيح أنني في شـوق كبير إليه، لكن ذهابي قد يسبب له الحرج».لم تسـتطع الانتظار أكثر من ذلك، فاتجهت نحو بيت جارتها وقالت لابنها:
اذهب يا ولدي إلى المخفر وقل لولدي عباس إن أمك بانتظارك.
رأيته؟.. قلت له إن أمك تريدك؟ سألته بلهفة عندما عاد وهو يلهث.
نعم, قال «عندي شغل»، ولا أستطيع الحضور الآن.
شعرت بأن عشرة سيوف انغرزت دفعة واحدة في صدرها، لكنها حاولت أن تكون كشجر السنديان الذي يبـكي الفؤوس قبل أن يسـقط. جلست في مكانها. جادت عيناها بدمعة واحدة، فتاهت بين خطوط وجهها ووديانه إلى أن وصلت إلى شفتها العليا، فحركت لسانها وهي تتذوق طعم الملح الذي أصبح مألوفًا لديها.
دون أن تنطق بحرف، عادت إلى بيتها، وفي الطريق شعرت بأنها لن تراه أبدًا، لكنها طردت هذا الشعور بعدما لعنت الشيطان. جلست على بساط رثٍّ بقلب منكسر، فمن دونه لا راحة ولا فرح لها، ولا دفء يستطيع أن يعيش في فراشها، ولا خبز أو ماء يحيا على مائدتها. وضعت كفها على خدها وانتظرت، وبغتة رفعت رأسها نحو السماء، تمتمت في همس, وأطلقت نداءاتها الجريحة.
شيئًا فشيئًا همدت الأصوات في القرية، ولم يعد يُسمع سوى نباح الكلاب من بعيد. أسندت رأسها على المخدة، لكنها لم تغمض عينيها، وإنما راحت تنظر نحو الباب وتنصت. تعبت عيناها من التحديق. هاجمها الوسن جماعات وفرادى، غير أنها لم تسمح له بالتغلب عليها. نهضت والحزن يخيم فوق سفوح صمتها. تطلعت إلى الخارج، فشاهدت حمام ذاكرتها يطير إليه: «ها هو الفجر قد أقبل ولم يأتِ.. سأذهب إليه الآن». فتحت الباب. أغلقته. أسندت رأسها عليه: «لأي سبب أذهب إليه؟ يبدو أنه نسي أن له أمًّا أرضعته حليبًا وليس ماءً عكرًا».
عادت إلى مكانها، وسافرت إلى الماضي البعيد. رأت فيه زوجها الذي رحل ولم يترك لها غير ابن تعذبت كثيرًا من أجله. كانت تنتحب بصمت مرير عندما سمعت جارتها وهي تناديها كعادتها من فوق الحائط، فنهضت دفعة واحدة. قالت واللهفة لا تزال بادية على وجهها:
هل جاء ولدي؟
لا. قالتها وهي تهز رأسها. ثم أضافت بشيء من الغضب: ابنك غادر القرية يا «نوفة»!
تجمدت في مكانها وهي لا تعرف أي حزن غاص في صدرها. شعرت بجراحها تتوزع في جسدها كاملًا، وبضباب كثيف يغطي سماء أمانيها، لكنها استطاعت أن تقول بصوت خائف مرتجف خجول: متى ذهب؟
قبل قليل.. اصعدي على السطح فسترين سيارته تغادر القرية.
لم تصدق ما سمعت، لملمت بعضها وصعدت السلم بكل ما فيها من بقايا قوة، ثم راحت تنظر إلى جهة الطريق دون كلام، دون حركة، دون صوت.