مكتبة الصالح في حائل
الطبري أحد ساكنيها
تحوي مئات الكتب القديمة والمخطوطات النادرة التي ربما ليس لها مثيل في العالم .
• استطلاع وتصوير: عبدالعزيز محمد العريفي
كان يقف على عتبة بابه منتظرًا مقدمنا، عادة قديمة ما زال أهل حائل يتمسكون بها مبالغة في التكريم وحفاوة اللقاء للضيف أيًا كان، ولجنا بيته المتواضع والأمل يحدونا أن نجد مبتغانا عنده، وكنت أحمل آلتيّ للتصوير الثابت والمتحرك، متحفزًا لتصوير المخطوطة الأصلية لتفسير الطبري! لا أكاد أصدق أنني سألمس بيدي ما لمسه ذلك العالم الفذ والمفسر والمؤرخ الكبير الذي شغل الدنيا بعلمه.
بعد انتهاء طقوس الضيافة والكرم بادرت المضيف بطلب زيارة المكتبة الشهيرة التي تقبع في جزء كبير من مقدمة بيته، ابتسم ونهض ونهضنا معه متوجهين إلى المكتبة العامرة التي حالما تلج بوابتها ينتابك إحساس غريب يصعب تحديد كنهه إن كان نشوة سعادة أم حرج، ربما هو الحنين إلى الماضي مختلطًا بنشوة الاستكشاف والمعرفة.
لقد وجدناها مكتبة ضيقة اكتنزت بمئات الكتب القديمة والمخطوطات النادرة، خصوصًا تلك المخطوطة الأصلية لتفسير الطبري التي أخذت أتحسس غلافها الجلدي وأوراقها الصفراء بيدي كقطعة من الماضي سأم الدهر من محاولة إهلاكها.
قلت في نفسي مستغربًا ومندهشًا في الوقت نفسه: رباه أهذا حقًا خط يد ذلك النابغة الملهم الذي لا يكاد يمر يوم من الأيام، إلا وتأتي الألسن على ذكره، ولا نكاد نقرأ تفسير آية من آيات القرآن إلا ونأتي على ذكره.
الغريب أنها النسخة الوحيدة التي يعمد كثير من المحققين إلى اعتمادها في جميع أنحاء العالم الإسلامي، حسب قول صاحب المكتبة الذي أصر على عدم ذكر اسمه في هذا التقرير على الرغم من أن المكتبة تحمل اسمه الأخير أي «مكتبة الصالح» ولا أدري لماذا؟ لربما كان لطغيان سلطة الثقافة الشفوية في بيئة حائل شديدة المحافظة، والتي تميل بطبعها إلى أنساق المشافهة والمحكي على المدون والمكتوب، ما خلق نوعًا من التحرج النفسي لمثقفي النسق.
الاستكشاف والدراسة
لقد حظيت هذه المكتبة التي تستحق الإشادة وربما الاستكشاف والدراسة بزيارة الكثير من المثقفين والمسؤولين حتى من خارج المملكة، ومن المخطوطات التي لفتت انتباهنا غير المصاحف الموغلة في القدم مخطوطة رياضيات وهندسة تم تأليفها قبل ما يربو على الأربعة قرون.
إنها حقا كنز غيب عن أعين المستثمرين، كأن تقوم مكتبة الملك فهد، مثلًا، بتصويرها كاملة تصويرًا رقميًا محافظة على مضمونها ومحتوياتها المهمة مع عدم إغفال ذكر اسم أصحابها، احترامًا لجهودهم وجهود آبائهم وأجدادهم الذين صانوا هذا الموروث المتميز وحافظوا عليه عبر السنين، وضربوا أروع الأمثلة في التميز الثقافي والوعي الحضاري الذي عرف عن أهل حائل، علمًا أن مكتبة الصالح للمخطوطات رغم تميزها ليست الوحيدة في حائل، فهناك عدد لا بأس به من المكتبات الخاصة التي تضم بين جنباتها أقدم المخطوطات، وقد حرصت على تتبع بعض تلك المخطوطات وتصويرها فوتوغرافيًا للتوثيق.
الوعي الثقافي
وما يدل على الوعي الثقافي لأهل حائل في أزمنة الشح المعرفي، ما ذكره د.محمد بن سعد الشويعر في كتابه «حائل»: «وقد أدرك الملك عبدالعزيز المكانة العلمية لحائل وتشوق الأهالي إلى التروي من منابعه «أي العلم» فأعطاها أهمية خاصة، وفتحت بها المدارس النظامية قبل أي بلد في نجد، إذ سبقت الرياض، والمجمعة، وشقراء، وعنيزة، وبريدة، والأربع الأخيرة هي التي فتحت المدارس الابتدائية بها في أواخر الخمسينيات الهجرية في القرن المنصرم. إن لم تسبقها كلها حائل، حيث فتحت بها المدرسة الابتدائية الأولى عام 1356هـ».
مكتبات حائل
يقول المؤرخ المعروف سعد خلف العفنان في بحث له سماه «المكتبات في حائل»: «إن استجابة حائل لمبادرة الملك عبدالعزيز، رحمه الله، لتعميم التعليم النظامي تعود أول ما تعود إلى انتشار الكتابة والقراءة، وتوافر الكتب والمكتبات التي كان لها وجود واسع في المجتمع الحائلي خلال القرنين الماضيين، فقد كان هناك من يهتم بالعلم، والتعليم، والكتب، والمكتبات، حيث أشار المستشرق الفنلندي جورج أوغت فالين في كتابه «صور من شمال جزيرة العرب» إلى كثرة الذين يحسنون الكتابة والقراءة في حائل عندما زارها عام 1360هـ - 1362هـ». وكذا أشارت المستشرقة البريطانية الليدي آن بلنت حفيدة الشاعر بيرون التي زارت حائل عام 1879 في كتابها «رحلة إلى نجد» ويقول العفنان: «لاحظت أن جميع الكتب الموجودة في مكتبة الصالح من كتب آل عبيد، وتعود ملكيتها أو وقفها إلى الأمير حمود العبيد الرشيد».
وقد عرف حمود بشغفه بالعلم والانكباب على الكتب، وتفرقت كتبه إلى مكتبات عدة في حائل من ضمنها مكتبة الصالح التي ربما حوت العدد الأكبر منها.
مكتبة عمر
من أهم المكتبات الأخرى مكتبة عمر اليعقوب، رحمه الله، المعروف بورعه، وزهده، وحبه العلم، واقتناء الكتب، ويقول العفنان: «وقد آلت بقية مكتبة آل يعقوب إلى حوزة مكتبة المعهد العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود بحائل، وقد اطلعت على مجموعة من هذه الكتب وهي تزيد على أربع مئة مجلد، منها مئة وعشرة مجلدات مخطوطة والباقي مطبوع طبعات قديمة، بعضها في الهند وبعضها الآخر في مصر».
كما كانت هناك مكتبة للشيخ عيسى الحمود المهوس التي كانت تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب.
كتب العقيدة
يغلب على مكتبة الصالح كتب العقيدة، والتفسير، والحديث، واللغة العربية، والأدب، والنثر، والشعر، والقليل من كتب الطب والرياضيات، ومخطوطة «كليلة ودمنة»، وإن أول طبعة من كتاب «تفسير الطبري» طبعت وفقًا للنسخة المخطوطة التي كانت في خزانة الأمير محمد بن رشيد آنذاك، وهي الآن ضمن كتب مكتبة الصالح، وقد نوه إلى ذلك في الصفحة الأولى من الجزء السابع من الطبعة الخامسة».
وقد كان علماء من العراق، والشام، ومصر يبعثون رسائل إلى أصحاب المكتبات في حائل يطلبون تزويدهم بنسخ من كتب لم تكن تتوافر في ذلك الزمن إلا في حائل.
متحف حائل
كما اطلعت على مخطوطات عدة لكتب فقهية ومصاحف غاية في القدم في متحف حائل التراثي الذي يملكه الأستاذ خالد الجميل، خصوصًا مخطوطة لمصحف تعود إلى أكثر من ألف عام، ومخطوطات أخرى لعلوم متفرقة في متحف علي باخريصة بحائل، وكذا في متحف الشيخ إبراهيم الرديعان.
الغريب أن الغالبية العظمى من تلك المخطوطات والكتب كانت وقفًا لله، سبحانه وتعالى، أوقفها أهل الخير رجالًا ونساءً، حيث كانت الكتب باهظة الثمن، وتكلف الكثير في نسخها، لندرة المطابع في ذلك الزمن، فضلًا عن تغليفها ونقلها من مكان إلى آخر، وقد أسهب العفنان، في بحثه المتميز، في ذكر تلك الأوقاف بحائل، لدرجة أنه لم يغفل حتى ذكر من أوقف كتابًا واحدًا.