وأذِّن في الناس بالحج
رحلة إلى الله
ركن الإسلام الخامس واجب على كل مسلم استطاع إليه سبيلًا.
• جدة: يوسف غريب
الحج رحلة فكرية وروحية في طريق السعي إلى الله، تعالى، والتقرب منه بزيارة بيته الحرام، وتأدية ركن الإسلام الخامس على الوجه المطلوب هدفًا وغاية، وتمتاز فريضة الحج عن سائر العبادات بأنها توحد الأمة باجتماع عدد كبير من أفرادها على صعيد المناسك، خصوصًا الوقوف بعرفات والمشعر الحرام.
- الإحرام من الميقات هو أول خطوة على طريق الحج، وهو بالنسبة لفريضة الحج مثل تكبيرة الإحرام بالنسبة للصلاة
|
- أوجب الله على الأمة الإسلامية أن ينبعث منها كل مستطيع لكي يزور المسجد الحرام مرة في عمره
|
- عرفات يستلزم وقفات عدة مع النفس والأسرة والمجتمع، وبه يُتذكر يوم الحشر الأكبر
|
الإحرام من الميقات هو أول خطوة على طريق رحلة الحج، وهو بالنسبة إلى فريضة الحج مثل تكبيرة الإحرام بالنسبة إلى الصلاة، حيث يحرم بعدها ما كان حلالًا قبلها. كما أن ارتداء ثوب الإحرام يكون إشعارًا بدخول الحاج حرم الله، سبحانه، وحدود مملكته الشرعية التعبدية، كما أن التغيير الظاهري يقتضي التغيير الداخلي بتحول الحاج من حالة التحلل والانطلاق، إلى حالة التعبد والتقيد بنظام هذه الفريضة المقدسة، بفعل ما يجب عليه فعله من مناسك الحج، وتركه ما يحرم عليه فعله من محرمات الإحرام.
هذا مع ما يثيره بالنسبة إلى الرجل من تذكر الموت وما بعده بسبب الشبه القوي بين ثوبي الإحرام وقطع الكفن، ما يقتضي الزهد في زخارف الدنيا والانصراف عما يبعده عن الله، تعالى، ويحرمه من رضوانه من المحرمات، وما يلحق بها من المشتبهات التي تؤدي بفاعلها إلى الوقوع في الحرام من حيث لا يدري، وفي المقابل يبعث تذكر الموت الرغبة في الاستعداد له، ويتمثل ذلك في المبادرة إلى التوبة النصوح، والتزام خط الاستقامة في طريق الشريعة.
لبيك اللهم لبيك
تلبية الحجيج لها أبعاد ومعانٍ روحية وتاريخية، فقد أوجب الله على الأمة الإسلامية أن ينبعث منها كل مستطيع، لكي يزور المسجد الحرام مرة في عمره، وجعل لهذه الزيارة تعاليم دقيقة محورها إذكاء مشاعر اليقين، وتنمية عواطف الإخلاص لله رب العالمين.
والكلمات التي يجأر بها الحاج وهو منطلق صوب البيت تنضح بهذا المعنى العالي «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك». هذه الكلمات هي إجابة للدعوة التي لم يضعف صداها على مر القرون، الدعوة التي أوحى الله بها لإبراهيم }وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ{ «الحج: 26 – 27».
الكعبة المشرفة
الطواف حول الكعبة المشرفة، هو الخطوة الثانية في طريق الرحلة والسفر إلى الله، تعالى، بالفكر والروح، وتكون الحركة الدائرية بقيودها وحدودها حول الكعبة المشرفة رمز الالتزام بمنهج الشريعة وخط العبودية وعدم تجاوز حدودها، كما لا يتجاوز حدود الطواف ولا يخالف شروطه المعتبرة في صحته.
ثم يأتي الطواف بعده ليكون رمزًا لمرتبة القرب من الله، تعالى، والدنو من ساحة رحمته وغفرانه، بسبب قيامه بحركة الطواف العبادية ضمن قيودها المعتبرة وحدودها المرسومة، وربط هذه الصلاة بمقام النبي إبراهيم، عليه السلام، كان من أجل لفت النظر إلى مقام هذا النبي ودوره في تشييد بيت الله الحرام مع ولده إسماعيل من الناحية المادية، وعمرانه معنويًا بتأدية مناسكه ودعوته الأجيال للسعي إلى تأدية فريضة الحج المباركة، ملبية النداء الذي وجهه إليها امتثالًا لأمر الله له بذلك، حيث قال، سبحانه، مخاطبًا له:}وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجّ يَأتُوكَ رِجالًا وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم{ «سورة الحج: 27 و28».
دروس من حياة أبي الأنبياء
الدروس الكثيرة والعبر العديدة المفيدة من سيرة نبي الله إبراهيم المستقيمة على أوامر الله والممتثلة لمنهج السماء والثابتة عليه دون انحراف أو تغيير رغم تعرضه لامتحانات وابتلاءات عدة صعبة، من الأمور التي يجب أن تكون ماثلة أمام الحاج، وعليه أن يستشعر ارتباط الأمة الإسلامية بأبيها الأول إبراهيم، ومن الابتلاءات الصعبة التي تعرض لها أبو الأنبياء أمره بالهجرة مع زوجته هاجر وطفله الوحيد إسماعيل ليتركهما في وادٍ غير ذي زرع من أرض مكة المكرمة عند بيت الله الحرام، وقد نجح هو وزوجته بانقيادهما لإرادة الله وامتثالهما لأمره، فجازاهما الله بالفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، مع ما نالاه في الآخرة من السعادة الخالدة، ومن الابتلاءات، أيضًا، عندما تعرض للإحراق ونجح في الامتحان كما نجح في سابقه، حيث سلم أمره لله فسلمه الله من الاحتراق وجعل النار عليه بردًا وسلامًا، وكذلك أمره بذبح ولده الصغير الوحيد، ونجح في هذا الامتحان الأصعب مع ولده عندما أسلما أمرهما لله، سبحانه، وأبديا الاستعداد للامتثال والتنفيذ، فسلم الله، سبحانه، ولده من الذبح، وفداه بذبح عظيم.
التوكل على الله
وبعد الطواف يأتي السعي بين الصفا والمروة بعدد معين من الأشواط مع قيود وحدود مرسومة له كالطواف، ليكون تقييد الحاج بتلك القيود والحدود رمزًا للعبودية الخاضعة والعبادة الخاشعة التي تنطلق من حدود السعي الخاص بمكانه وزمانه، إلى السعي العام في كل زمان ومكان في سبيل عبادة الرحمن العبادة العامة الشاملة لكل التصرفات الاختيارية المنسجمة مع إرادة الله، تعالى.
وقد شرع السعي بين هذين الجبلين الصغيرين لترسيخ عقيدة التوكل على الله، وإن وهت الأسباب المادية. إن ثقة هاجر في الله أثمرت الخير، ولم يخذلها الله بعدما آوت إليه، فالسعي يعلمنا أن التوكل على الله مع ضعف الأسباب وانعدامها زادٌ يحتاج إليه المجاهدون والمضطهدون، يعتمدون عليه في اليوم الصعب لكي يسلمهم إلى غد رابح. يجب على الحاج أن يعي عقبى التوكل على الله وهو يمثل الدور الذي قامت به أم إسماعيل وهي تتحرك جيئة وذهابًا بين الجبلين.
عرفات وقفات مع النفس
الحج عرفة، والحلقة الأولى من حلقات عرفات بمعناها الإيماني هي عرفات النفس التي يجب على الحاج أن يقف فيها ابتداء من أول زوال وظهر يوم عرفات إلى وقت غروب شمسه، والمطلوب من الحاج في هذه الساحة المحددة في ذلك اليوم المعلوم التجمل بالتقوى ومكارم الأخلاق، وأن يحاسب نفسه، ويستغفر ربه عما اقترف من ذنوب، بوصف ذلك الغاية الأساسية المقصودة من خلق الإنسان وإنزال الكتب والشرائع السماوية.
وعلى الحاج أن يقف في عرفات يراجع حساباته تجاه أسرته، لأنها من أهم مسؤولياته ومناط تكليفاته، ولأن كل حاج هو راعٍ وله رعية، فعليه معرفة ما يجب عليه نحو كل فرد من أفرادها، فيعرف الزوج الحاج حق زوجته ووالديه وأولاده، وكذلك الزوجة الحاجة تجاه زوجها وأولادها ووالديها، كما يعرف الولد حق والديه.
وعلى الحاج، أيضًا، أن يراجع حساباته مع المجتمع، لأنه الأسرة الأوسع مساحة والأكثر أفرادًا ليعرف ما يطلب منه من حق واجب أو مستحب نحو جاره، ثم نحو أخيه في الإسلام والإيمان، ثم نحو أخيه في الإنسانية، ثم سائر المخلوقات التي تشترك معه في مصدر الخلق والإيجاد، وهو الله، سبحانه، فيقف نحو كل طبقة من هذه الطبقات الموقف الذي يحدده الشرع له، وبذلك يكون قد أدى ما يُطلب منه وجوبًا أو استحبابًا في عرفات المجتمع، وقام بمناسكها المطلوبة منه فيها، وبتأدية ما يطلب منه في الحلقات المذكورة لعرفات بمعناها الإيماني العام يكون قد هيأ نفسه لتأدية واجبات عرفات الحج المعهودة.
إن الوقوف بعرفات هو الوقفة التي يستلهم منها الحاج الدروس المفيدة والعبر المتعددة وهي كثيرة، منها تذكر يوم الحشر الأكبر من خلال ملاحظة ذلك الجمع الغفير والأمواج المتلاطمة من البشر في بحر الحج العميق، والنتيجة العملية والفائدة التربوية المترتبة على ذلك هي حصول الخوف من هول ذلك اليوم، وهو ما يؤدي إلى الاستمساك بعروة التقوى والعودة إلى الله من باب التوبة.
ولا يخفى على المسلم الواعي أن استلهام درس الوحدة الإسلامية من مدرسة عرفات وتعميقها في النفوس يتوقف على التنبيه والتنبه إلى كونها أي الوحدة الإسلامية إحدى أبرز الغايات المستهدفة من تشريع هذا الشعار المبارك، لذلك يُطلب ممن يؤدي مناسك الحج أن يلتفت إلى هذه الغاية السامية المنشودة من وراء تشريع وجوب هذه الفريضة بصورة عامة، كما يُطلب الالتفات إلى الحكمة المستهدفة من كل منسك من مناسكها، وبعد التفات الحاج إلى غاية التشريع يُطلب منه بذل الجهد في سبيل تحقيقها على الصعيد العملي، وذلك بأن يحقق غاية فريضة الحج والصوم مثلًا، وهي التقوى من خلال الاتصاف بها بعد أن عرف أنها من أبرز الغايات والفوائد المنشودة من وراء تشريع وجوبهما على ضوء الآيات المصرحة بهذه الغاية السامية، وهكذا بالنسبة إلى آية فريضة من الفرائض الأخرى كالصلاة والزكاة ونحوهما من الواجبات الشرعية.