بيت الهراوي
معلم من الزمن الجميل
.نموذج للعمارة الإسلامية والتراث الشرقي يحيط به أكثر من مئتي أثر إسلامي
• القاهرة: شريف عبدالمنعم
تتميز القاهرة بوجود العديد من المعالم الأثرية التي ترجع إلى فترات تاريخية متعددة، خصوصًا تلك التي أنشأت في العصر الإسلامي كالمنازل والقصور التي بقي العديد منها حتى يومنا هذا، ليكون دليلًا ماديًا ملموسًا على مدى قوة فن العمارة وتقدمها في هذا العصر، ومن بين أشهر هذه المنازل بيت الهراوي الذي شُيد في القرن الثامن عشر الميلادي، ويقع في شارع الإمام محمد عبده خلف الجامع الأزهر الشريف بمنطقة القاهرة التاريخية.
أنشأ المنزل أحمد بن يوسف الصيرفي عام 1144 هـ الموافق 1734 م، ثم آلت ملكيته إلى آخر ساكنيه وهو عبدالرحمن باشا الهراوي الذي كان يعمل طبيبًا بمدرسة طب قصر العيني في القرن التاسع عشر، ويقع في منطقة مليئة بالمعالم والآثار التاريخية الإسلامية التي يزيد عددها على مئتي أثر متنوعة ما بين المساجد، والأسبلة، والمدارس والكتاتيب، والوكالات التجارية، والأسواق القديمة، وغيرها...
وتشهد المنطقة المجاورة له الآن مشروعًا كبيرًا لترميم كل الآثار الموجودة بها، بالإضافة إلى تحويل شارع المعز لدين الله الفاطمي أقدم شوارع القاهرة التاريخية إلى متحف أثري مفتوح.
الطراز الأوروبي
للمنزل واجهة رئيسة في الناحية الشمالية الشرقية مشيدة على الطراز الأوروبي، والواجهة يليها ممر منكسر كان يساعد سكان الدار على التهوية حين يجلسون في صحن المنزل ويفتحون البوابة دون أن يراهم المار بسبب هذا الانكسار.
وفي منتصف الدار يوجد الصحن الأوسط الذي تلتف حوله عناصر المنزل مثل القاعة التي تطل على الصحن بحجاب من خشب الخرط الدقيق، والسلم الصاعد الذي يؤدي إلى الحمام الملحق وباقي قاعات المنزل الذي يقترب في تشييده من القصر، نظرًا لاتساع مساحته ورقي عمارته.
العمارة الإسلامية
بشكل عام فإن المنازل تعد من أهم العلامات التي تُلاحظ في العمارة الإسلامية، فقد انعكست تقاليد المجتمع وعاداته، وتعاليم الدين الحنيف على أسلوب البناء نفسه، حيث يتمتع المنزل بخصوصية كبيرة، ولا يستطيع أي شخص أن يرى أيًا من سكان المنزل، خصوصًا النساء. وينقسم بيت الهراوي إلى جزئين، الأول هو «السلاملك» وهو المكان المخصص لجلوس الرجال بالدور الأرضي، وتوجد في منتصفه أرضية من الرخام تتوسطها «فوارة» من الرخام الملون. والهدف من وضعها في هذا المكان هو تلطيف الهواء من ناحية، وإعطاء حالة من الراحة النفسية عند مشاهدة الماء يتدفق منها من ناحية أخرى.
وفوق تلك الفوارة أو النافورة يوجد سقف عالٍ جدًا تغطيه «شخشيخة» وهي فتحة علوية تشبه القبة، ولكنها مثمنة الشكل، ومفتوح في كل ضلع من أضلاعها شباك، ووظيفتها إدخال الهواء المتجدد باستمرار إلى السلاملك، وهي بمنزلة عملية تكييف طبيعية عبقرية لتجديد الهواء، وأسفل سقف السلاملك كُتبت الآية القرآنية الكريمة التالية باللون الذهبي: بسم الله الرحمن الرحيم }إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ{ «آل عمران: 190». بالإضافة إلى آية الكرسي من سورة البقرة.
أما الجزء الثاني من بيت الهراوي فهو «الحرملك»، ويتكون من مساحة مربعة يطل عليها إيوانان، ويغطي الجزء الأوسط منه «شخشيخة» مماثلة لتلك الموجودة في «السلاملك»، وهذا المكان مخصص لجلوس النساء، حيث يمنع الاختلاط بين الرجال والنساء في جميع المجالس حسبما تقضي الشريعة الإسلامية التي فرضت على المعماري القواعد التي التزم بها في الإنشاء.
الزخارف النباتية
ومن بين العناصر المعمارية في بيت الهراوي، أيضًا، «المقعد» الذي يطل على صحن المنزل بحجاب من خشب الخرط الدقيق الذي يعد بمنزلة حاجب للجالسين في هذا المكان عن أي ناظر من الخارج، دعمًا للخصوصية التي تجعل الإنسان آمنًا على نفسه ويشعر بحرية أكثر في جميع الأوقات، وأهم ما يميز هذا المقعد أن سقفه مُذهَّب وملوَّن بزخارف هندسية ونباتية، ويوجد به شريط كتابي يحوي النص التأسيسي للبناية الذي يقول: «أنشأ هذا المكان الحاج يوسف الصيرفي في سنة 1141 هجرية».
أما سقف المقعد فهو، في حد ذاته، تحفة فنية خشبية شيدت بفن وإتقان شديدين، حيث نرى الزخارف النباتية والهندسية المذهَّبة والملوَّنة، في حين تحوي الحوائط دواليب مزينة بالزخارف أيضًا، وتوجد فتحات تحيط بالمقعد أعلى الدواليب وحولها، وهي عبارة عن أماكن غائرة مخصصة لوضع التحف المختلفة من «فازات» الورود، وأطباق الخزف الملون، بالإضافة إلى التحف المعدنية كالأباريق، والأكواب، وغيرها.
عادات وتقاليد
الناظر إلى مثل تلك المنازل يتعجب من شكلها وغرفها التي تتصل مع بعضها البعض، والقاعات المتسعة والكثيرة، حيث يكون صاحب الدار متزوجًا في بعض الأحيان من عدد من الزوجات ينجبن بدورهن العديد من الأبناء ذكورًا وإناثًا، علاوة على المربيات والخادمات، وقد يسكن في المنزل نفسه، بعد ذلك، أبناء صاحب الدار ومعهم، بالطبع، زوجاتهم، ثم أولادهم، ولذلك فإن مجرد تخيل عدد المفروشات، والسجاد، والقناديل، وأدوات المطبخ، والأغذية والطعام، الموجودة بالدار أمر شاق جدًا، ولكنه، في الوقت ذاته، يجعلنا نشعر بالترابط الذي كان موجودًا بين أبناء الأسرة الواحدة في الأزمنة الفائتة.
وكانت تأتي إلى الدار نساء تبيع الأقمشة، والعطور، والاكسسوارات يطلق عليها «دلالة» أي هي التي تدل على الأشياء التي تريدها نساء المنزل دون أن يخرجن إلى الأسواق، وحتى إذا خرجت فإنها تكون في صحبة أحد المحارم مثل زوجها، أو ابنها، أو أخيها، أو أبيها، كما كانت تأتي إلى المنزل، أيضًا، سيدة تسمى «البلانة»، وهي التي تقوم على إحضار الحناء، والصابون، وأدوات النظافة المختلفة التي تستخدمها نساء الدار في الحمام الخاص الملحق بالمنزل.
عبق التاريخ
من المفارقات الطريفة أن بيت الهراوي، كما ذكرنا، يقع في شارع محمد عبده القريب من منطقة الباطنية التي بدأت تتجمل وتتميز، بسبب وجود العديد من الآثار التي تشكل نقاط نور بين سكان المنطقة الذين أصبحوا يشعرون بالأهمية الكبيرة التي تشكلها مثل تلك الآثار التي تحمل عبق التاريخ، وهي في الوقت نفسه قاطرة التقدم إلى المستقبل، ليستفيد بذلك كل فرد في المجتمع عن طريق إعادة توظيف تلك الآثار في أنشطة تتلاءم، إلى حد ما، مع طبيعتها وقيمتها.