مقاهي عمََّان
روادها يشكلون ملامح مدينة
مقاهٍ عديدة تنتشر وسط العاصمة ترصد سيرتها وتحولاتها الاجتماعية.
• عمََّان: محمود منير
في شرفة مقهى «الأوبرج» وسط البلد، يمسك بدر محاسنة القلم الرصاص وأوراقًا كثيرة منثورة على الطاولة التي اعتاد الجلوس عليها، يرسم وجوه الجالسين في المقهى وغيرهم من المارين قبالته في الشارع. ينتمي محاسنة إلى جيل الألفية الثالثة من التشكيليين الأردنيين، منحازًا، مع عدد منهم، إلى مقاهي العاصمة الشعبية، يمضي ثلاث ساعات أو أربع ساعات يوميًا بـ«الأوبرج» في ورشة رسم متواصلة على دفتر «الاسكتشات»، لا يقطعها إلا موعد مع صديق أو ضجر عابر.
يرتاد محاسنة، القاطن في جبل اللويبدة، مقهى «الأوبرج» منذ ثلاث سنوات، بعد انتقاله قسرًا من مقهى «حمدان» الذي هدم حينها ليتحول إلى مبنى استثماري.
يروي الفنان الشاب كيف احتج صحافيون وفنانون وسياسيون وغيرهم، دونما طائل، على هدم مقهى «حمدان»، محاولين إيقاظ الذاكرة العمََّانية بمقالات وتصريحات نارية لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية للتذكير بالدور السياسي والاجتماعي للمقهى.
«صاغ مقهى حمدان ثمانين عامًا من سيرة عمََّان»، يقول أستاذ اللغات في جامعة اليرموك وليد السويركي: «اجتماعات حمدان رسمت الملامح الأولى للدولة الأردنية».
يفتقد السويركي ومحاسنة مقهى «حمدان» وقبله مقهى «فيلادلفيا» قرب الساحة الهاشمية الذي لاقى المصير نفسه، ويطلقان عبارة ملؤها التشاؤم «المقهى ليس ضرورة اجتماعية في هذه المدينة».
يعدل السويركي جلسته على الكرسي المصنوع من الخشب، مناديًا على «رضا» ليحضر له فنجان قهوة سادة، بينما يقلب رواية بعنوان «مديح الكراهية» للسوري خالد خليفة مواصلًا القراءة.
من زاوية مختلفة يعتقد رضا، عامل المقهى، أن العمال الكادحين لا يكترثون لأحاديث المثقفين عن ذاكرة المدينة وتراثها المعماري، فالمقهى لا يعدو، بالنسبة لأي عامل، أكثر من استراحة لشرب الشاي, وتبادل الأحاديث، وهم من يفرضون وجوده أو إلغاءه.
وليس بعيدًا عن «الأوبرج»، ينبعث صوت عبدالحليم من مقهى بلاط الرشيد المميز بجدرانه المطلية بأعلام معظم دول العالم، وبالسائحين الأجانب الذي يجدون فيه ضالتهم بالتعرف على قاع المدينة، ورؤية أحد وجوه الشرق العابق في مخيلتهم.
كاثرين، سائحة ألمانية في الخمسين، تؤكد سحر المقاهي الشعبية العمََّانية المتمثل في بساطتها وإطلالتها على الشوارع بما تحويه من ضجيج ومناداة الباعة وغيرها من مشاهد لا ترى إلا في الأسواق الشعبية.
مقاهٍ عديدة تنتشر وسط البلد تتشابه في طابعها وشكلها وما يقدََّم فيها، لذلك يرى صاحب مقهى «جفرا» عزيز المشايخ الحاجة الماسة إلى وجود مقهى هادئ الأجواء طابعه ثقافي، فيه ملامح التراث من ديكورات، وألوان، وموسيقا.
وينوه المشايخ إلى أن مقهى «جفرا» خطوة في طريق إعادة الحياة وروح التراث الذي يتميز به قاع المدينة وسط عمََّان بعد محاولة تفريغ هذا المكان من ألقه، وسهره، والتجاء الناس إلى أماكن أخرى في عمََّان البعيدة «جفرا بيتك والكل شريك في تلك الأجواء».
خروجًا من وسط البلد باتجاه منطقة الشميساني أو الرابية يواجهك العديد من مقاهي الرصيف المنتشرة على يمين الشوارع وشمالها، وشاشات العرض العملاقة التي أنشئت خصيصًا لعشاق كرة القدم في مواسمها المتعددة.
تشهد هذه المقاهي تنافسًا شديدًا على اجتذاب الزبائن، إما بتزيين الجدران بملصقات عملاقة لنجوم كرة القدم المفضلين لروادها، أو حتى بإرسال رسائل (SMS ) على هواتف الزبائن النقالة تذكرهم بموعد مباراة فريقهم المفضل.
تجتذب مقاهي الشميساني الطلاب العرب وغيرهم من الوافدين المقيمين، خصوصًا العراقيين. تختلف الصورة مع حلول الصيف، الذي يشهد تزايدًا ملحوظًا في ارتياد هذه المقاهي وغيرها من قبل الزوار العرب والخليجيين على وجه الخصوص، فتختلط المقاهي باللهجات، وتبادل الأحاديث، وأرقام الهواتف، ولكن مع انزياح المشهد إلى مقاهي عمََّان الغربية.
في تلك الأماكن لا يتوقف مفهوم المقهى عند حدود ترجمته إلى (Coffee shop )، فالمقهى هنا يعكس بوضوح الفروق بين الطبقات الاجتماعية في عمََّان، فروق ثقافية تمثل الاختلاف بين أنماط المعيشة وفق رؤية الإعلامي والباحث محمد البشتاوي.
«بعيدًا عن مقاهي المثقفين والكادحين هنا تتنفس عمَّان»، جملة تمتزج بالنقد وحس الدعابة، ولكنها عنوان قصير لبحث لا ينتهي يقوم به البشتاوي، مؤكدًا أن المقهى في عمََّان الغربية مرتبط بالحداثة وروح العصر.
ويتجسد هذه الارتباط من خلال التواصل مع قيم العصر سواء في تصميم المقهى نفسه أو احتوائه على الإنترنت والتلفاز والكتاب، لا الانقطاع عنها للعيش مع أغنية تنتمي إلى عصر مضى.
هكذا يحاول البشتاوي فهم التحولات الاجتماعية لمدينة عمََّان عبر التعرف على مقاهيها، وهو يلفت إلى التأثير الكبير للقفزات الهائلة التي تعايشها عمَّان منذ تأسيسها في تحديد شكل مقاهيها، وأن انتقال شريحة اجتماعية بعينها من جبل عمََّان واللويبدة إلى عمََّان الغربية، دفع إلى رحيل «مقاهيهم» أيضًا، ليعاد إنتاجها بشكل جديد على أيدى أبنائهم وأحفادهم.
ويختم البشتاوي بالإشارة إلى استقدام العمََّانيون الأوائل فكرة المقهى من نابلس والشام وبيروت، بينما جلبها الجيلان الثاني والثالث على مقاس المقاهي الغربية، انسجامًا مع نمط حياتهم والتغيرات الكبرى التي طرأت عليها.
بين «البلو فيغ» و«جفرا» بضعة كيلو مترات، مسافة قصيرة لكنها كافية لاستيعاب المدينة بما فيها من تفاوتات طبقية، وفي الوقت نفسه للتفاعل مع عمََّان كمقهى كبير متعدد بجنسيات رواده، وثقافاتهم، وأذواقهم، وأمزجتهم بطبيعة الحال.