:البــاحـــة
أو حيث تُقبِّل القمم أديم السماء...
.الباحة تعد حقًا مكانًا خصبًا للاستثمار السياحي بكل أبجدياته
استطلاع وتصوير: عبدالعزيز محمد العريفي
§ اختزلت جمال الأرض في مساحتها الجغرافية الضيقة
§ السحب تمور في أحشائها أشبه ما تكون بالبراكين الثائرة
§ يلاحظ كثافة الغطاء النباتي من الغابات الصنوبرية
§ قرية ذي عين بنيت بالكامل من الصفائح الصخرية
لو تسنى لأمين الريحاني، أو لأي أحد في مثل حجمه المعرفي أن يزور منطقة الباحة ذات الأجواء الخلابة، ويقف على مناظرها الجميلة، ويتنقل بين أوديتها ومياهها الرقراقة، ويشاهد بأم عينه ذلك العناق الحميمي شبه المستمر بين السحاب وقمم الجبال، التي تكاد تكون سلالم يرقى بها إلى السماء، وانتشت روحه بعبير طلها، وضبابها، ودفقات مطرها المعطر بشذى زهرها وفوح وردها، حتمًا كان سيطلق عليها أسماء ربما كانت أكثر ملامسة لواقع الباحة مثل: سويسرا العرب، أو جبال الألب السعودية، أو كولورادو الشرق الأوسط.
ما إن هبطت بنا الطائرة في مطارها الذي أنشئ فوق جبل قُطم، ونُحت ليكون أرضًا مستوية قادرة على استيعاب منشآته ومدرجاته إلى حد الإدهاش الذي يصحبك أيضًا عندما تتجول.في ربوع الباحة بمحافظاتها الست: المندق، المخواة، القرى، بلجرشي، العقيق، قلوة.
ولم نصدق بصرنا عندما وقع أول مرة على جبالها العظيمة ونحن على ارتفاع جاوز ألفي متر عن سطح البحر، وقد بدت عقباتها «والعقبة: الهوة السحيقة بين الجبال» والسحب تمور في أحشائها أشبه ما تكون بالبراكين الثائرة، أو كما لو كنت في طائرة تحلق فوق الغيوم، ولا تكاد تميز الطرقات المعبدة بجسورها، وأنفاقها تتلوى داخلها في واحدة من أعظم الإنجازات الإنشائية في العالم قاطبة. تسبح في الضباب والسحب كخطوط سود ارتسمت بسريالية على نسيج من الساتان الأبيض الشفاف في مشهد مهول يشد الأنفاس، وخيال تجسد في الواقع، واختلاط محير للمعقول في غير المعقول.
كما يسترعي الانتباه تلك المساحات العمرانية الهائلة وقد تناثرت كالدر فوق قمم الجبال وسفوحها على الرغم من ندرة المسطحات المستوية وصعوبة التضاريس، فضلاً عن كثافة الغطاء النباتي من الغابات الصنوبرية التي ضربت بجذورها أرض التاريخ قبل أن تتوغل في الأرض الصخرية، فلا تعجب إذن في الباحة عندما ترى عمارة، أو «فيلا» وكأنها معلقة بين السماء والأرض.
وغني عن القول أن الباحة تعد حقًا مكانًا خصبًا للاستثمار السياحي بكل أبجدياته، فهي تملك من المقومات وعوامل الجذب السياحي ما لا تملكه أغلب مناطق المملكة، فضلاً عما عرف عن أهلها من أدبيات، وأخلاقيات حضارية، وباع طويل في الرقي والتمدن، والانخراط في شتى العلوم والثقافات الإنسانية.
تجد الباحة تعج بالسياح من مختلف الجنسيات، وبعضهم بات يتردد عليها سنين عديدة بغية الاستجمام، أو للبحث العلمي، كتلك الباحثة البريطانية التي لا يكاد يمر شهر إلا وتزور جبل شدى الأعلى لدراسة نباتاته وأزهاره، خصوصًا أشجار القهوة المتميزة، وجبل شدى الذي تتجلى فيه عظمة الخالق ويرتفع شامخًا كما لو كان ملكًا للجبال حتى تطعن قمته لُباب الغمام، مستقطبًا السياح من كل حَدَب وصَوْب حيث يمكن للسائح صعوده عن طريق خطوط معبدة متعرجة طويلة تصل إلى نحو قمته، وتمر بعدة قرى صغيرة تكاد تختفي معالمها وسط الضباب كاختفاء الذكريات الجميلة وسط لجة الفكر.
ولم يفتنا برغم ضيق الوقت أن نزور قرية ذي عين المشهورة، التي ترتفع على قمة جبل صخري أصم، بنيت بالكامل بجدرانها وبيوتها وشوارعها من الصفائح الصخرية شديدة الصلابة بدقة إعجازية محيرة، تنم عن قدرة عالية في هندسة المعمار لحضارة قديمة سكنت المنطقة، وتحيط بالقرية بساتين الموز، والغابات العتيقة، وكثير من الغدران، والشلالات المائية العذبة، وهذا ما يجعلها حقًا جنة لهواة التصوير. وقد صدر كتاب مصور عن الباحة للأستاذ أحمد السياري، بذل فيه من الجهد قصاراه تضمن باقة جميلة من الصور الرائعة بعضها من أعمال المرحوم، بإذن الله، المبدع صالح العزاز وأخرى للأستاذ حمد العبدلي، فضلاً عن غزارة المعلومات التي أوردها بين دفتي الكتاب الفاخر عن تلكم المنطقة المهمة من بلادنا.
وفي أواخر زيارتنا للباحة حظينا بحضور الحفل الذي أقيم على شرف صاحب السمو الملكي الأمير د.فيصل بن محمد بن سعود آل سعود، وكيل إمارة منطقة الباحة في بلجرشي، حيث تكرم سموه بافتتاح عدد من المشاريع الحيوية التي ستسهم، بإذن الله، في المزيد من التقدم للمنطقة..
الباحة كلمة تتدفق بعذوبة في أغوار النفس الجياشة، وتغرد في سماء الذاكرة، وتداعب بنسماتها أغصان الوجدان، وتنبه بنيروزها ورد القلب، ولا سيما أنها مفردة تعني تلك البلاد التي اختزلت جمال الأرض في مساحتها الجغرافية الضيقة، متلفعة بالجود ممتشقة خنجر الشهامة، ترشقك بفتنتها في كل عقبة وخلف كل ريع، بقامتها السامقة، تنطق الشعر قبل أن تستنطقك إياه، تناغم فيها مزيج من إبداعات الخالق و معطيات الحضارة الحديثة وعمق التراث والإرث التاريخي، حتى باتت كحلية رصعت بالجوهر.
ونختم ببيت من الشعر قاله شاعر الباحة المشهور عبدالرحمن العشماوي:
الباحة اليوم لحن سوف أنشده
شعرًا وتنشده هذي الربى أبدا