تحديات العيش في عالم مفتوح
برهان غليون
أستاذ علم الاجتماع السياسي، مدير فرع دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس
تقود العولمة إلى تكثيف الاتصالات، والتفاعلات، والاحتكاك بين الشعوب، وبالتالي بين الثقافات التي تحملها. وهذا ما يضاعف من شدة التنافس بين الأفكار، والقيم، والدلالات، والرموز، وأنماط الحياة والسلوك التي تتكون منها هذه الثقافات، بموازاة التنافس بين الشعوب والقارات على احتلال موقع السيطرة، في عالم يزداد توحدًا وانفتاحًا بعضه على بعضه الآخر.
لكن هذا التفاعل المتزايد لا يعني بالضرورة تذويب الخصوصيات ولا إزالتها من الوجود. فمن جهة أولى تستطيع الثقافات الوطنية التي تنجح في تمثل قيم إنسانية مشتركة أن ترتفع إلى مستوى العالمية، وأن تتمكن، من خلال ربط خصوصياتها الحميمة بهذه القيم الكونية، أن تحافظ على نفسها، بل أن تصبح مصدرًا للإبداع والتجديد في الثقافة العالمية، وتتحول إلى شريك فاعل فيها. ومن جهة ثانية تقدم التفاعلات المكثفة والمستمرة فرصًا أكبر للتجديد الثقافي. وبعكس ما توحي به الآراء الشائعة، لا يقود الانفتاح العالمي المتزايد إلى محو الثقافات القومية، وأن يستبدل بها ثقافة عالمية واحدة، ولكنه يعمل بالعكس على تعميق التمايز بين الثقافات القومية، على قاعدة نجاح هذه الثقافات إلى درجة أو أخرى في استيعاب التجديدات الحضارية الجارية. كما يخلق شروط إخصابها بقدر ما يزودها بموارد ووسائل جديدة لم تكن تعرفها من قبل، ويوسع من انتشارها، ويخلق تقاطعات بين قطاعات الرأي العام عبر الحدود السياسية والجغرافية وفي ما وراءها، ويضاعف من عدد الثقافات الفرعية التي تتكون منها أي ثقافة.
أما الثقافات القومية التي تميل إلى الانطواء على نفسها، وترفض التفاعل مع محيطها وبيئتها العالمية المتغيرة، فلن يكون بإمكانها الاستفادة من الموارد الجديدة التي توفرها الحضارة الحديثة. وسوف تخفق في استيعاب القيم الكونية وتحرم نفسها من فرص التجدد والانبعاث. ولا بد أن تتحول إلى ثقافات هامشية، أي معزلية، متقوقعة على نفسها ومتكلسة في جوهرها، حتى لو لم تزل من الوجود أو ينفد تأثيرها. وبقدر ما تفقد صدقيتها في عيون أصحابها تدفع إلى التعلق بالثقافات الأخرى والبحث فيها عن منابع المعنى والرضا عن النفس. إنها تستمر لكن على مستويات أخرى غير تلك المستويات الثقافية الفعالة السائدة التي تحتل مستوى الثقافة العالمة والمبدعة. ويقود هذا الوضع إلى تصدع أو ازدواجية ثقافية داخل هذه المجتمعات يفقدها الانسجام، والاتساق في الهوية، وربما يدفع بها حقيقة إلى أزمة هوية حادة وسريرية.
الرد على هذا التحدي الكبير الذي يجرد الشعوب من إمكانية استيعاب الحداثة العولمية على أسس تجديد ثقافتها الوطنية، ويدينها بالسير بساقين مختلفي التكوين والتصميم، لا يكمن في إدانة العولمة ورفض الانفتاح أو في التقوقع داخل الفضاء الثقافي المحلي، والانكفاء، كما يحصل عندنا، على نماذج في التفكير والسلوك تنتمي إلى قرون بعيدة سابقة. فمثل هذا الموقف لن يحل أي أزمة من أزمات الثقافة العربية: لا أزمة نقص الإبداع والإنتاج العلمي، ولا أزمة التواصل مع الآخر، ولا أزمة الهوية ووحدة الذات الجمعية والفردية، ولكنه يعمل على تعميقها جميعًا.
إن مواجهة تحديات العولمة الثقافية تستدعي بالعكس من ذلك تعزيز قدرة الثقافات الوطنية على الارتقاء إلى مستوى العالمية في الميادين اللغوية، والإبداعية، والإنتاجية، والفكرية، الدينية والأخلاقية، المدنية والسياسية، وتمثل التجديدات العلمية والتقنية. فلن نتقدم على طريق تطوير ملكات الإبداع أو الإنتاج الإبداعي في أي مجال من المجالات الفكرية، ولا في إقامة منظومة منتجة للبحث العلمي، ولا بتأسيس قاعدة متطورة للتطوير والتجديد التقني، ولا بتنمية مشاعر وأفكار وقيم تساعد على التفاهم مع الجماعات والمدنيات الأخرى، ولا في تجاوز الشرخ القائم بين تاريخنا الماضي وحاضر البشرية الراهن، وفي أسلوب حياتنا وتفكيرنا، نحن عرب اليوم، بالانقطاع عن نهر الحضارة أو بإشاحة النظر عنها، وبالعودة إلى مواردنا القديمة وتثمينها فحسب. فتجاوز هذه الأزمات التي ترتبط بالثقافة، أو بالأحرى بضعفها وإخفاقها يستدعي تمثلاً عميقًا وإبداعيًا أيضًا لمبادئ العمل وأسس التفكير والسلوك وقواعده الحديثة، كمن يستدعي علاقة مختلفة بالمكان والزمان، ورؤية مغايرة للتاريخ والزمن والمستقبل، لا يمكن استنباطهما من التراث ولا تعلمهما على يد الثقافة القديمة.
من دون اكتساب هذه المبادئ، والسيطرة على ناصية المهارات والمعارف والخبرات الضرورية للاندماج في الحضارة الحديثة والإبداع في إطارها، ومن دون الانخراط في جدلية التنافس العالمي وتحقيق نجاحات فيها، لن يكون لدينا أي أمل في الخروج من وضعية التبعية التي نعيش فيها على جميع المستويات المادية والمعنوية. وفي المقابل سوف تتفاقم أزمتنا التاريخية وفي إزائها نزوعنا إلى تبني خطاب الشكوى، والتذمر، والشجب، والتحريض على الانسحاب من العولمة، أو التخويف الكبير من شرورها وبلواها. ولن يفيدنا ذلك في شيء سوى تعظيم فرص تحويل العولمة إلى مناسبة لتهميشنا الحضاري، وتحويل الثقافة العربية الوطنية نفسها إلى ثقافة عازلة ومعزلية، وبالتالي إلى دفع قسم متزايد من جمهورها نفسه إلى الخروج منها والارتداد عليها. وهو ما نعيشه اليوم في العديد من بلداننا العربية التي بدأت تغزوها، بعد حقبة الاعتزاز القومي المبالغ فيه، ثقافة الالتحاق اللغوي والعلمي والتقني بالغرب، وبالتالي تخصيص الجزء الأكبر من الموارد المتوفرة لتطوير ثقافة الالتحاق، باسم اللحاق بالحضارة، على حساب الاستثمار في تطوير الثقافة العربية، أي في العمل على تحديث اللغة وتطوير أساليب تعليمها، وتأسيس قاعدة للبحث العلمي والتقني مستقلة ومرتبطة بحاجات التنمية العربية، وتطوير الجامعات والمدارس العربية، وتزويد العرب بقاعدة معلومات قوية، هي شرط ربطهم بالحضارة العصرية على قاعدة تحولهم، هم أنفسهم، إلى مركز من مراكز الإبداع، والتطوير، والتنمية فيها.
باختصار، لا يكمن الجواب الناجع على تحديات العولمة ومخاطرها في الانغلاق على النفس، والتخوف من التغيير والتشكيك فيه. إنه يكمن في الانفتاح على العالم من دون التحاق، أو استلاب، والنظر إليه بوصفه مناسبة لإبراز هويتنا وقيمنا وإبداعاتنا، وامتحان إرادتنا التاريخية. كما يكمن في التمسك بالثقافة القومية من دون أوهام، وعدم الخوف من النظر إليها نظرة نقدية، هي وحدها الكفيلة بإنقاذها من مخاطر التقادم والجمود والاهتراء، أي شرط انبعاثها التاريخي المنتظر.