رحلة

بيوت وقرى متكاملة مبنية من الجليد

رحلة ثلجية

.السياحة الشتوية استثمارات بالملايين تجذب كل العالم

سالزبورج: أسامة أمين

§ خمسة ملايين سائح يقضون إجازتهم الشتوية في منطقة جبال الألب الساحرة

§ مطالبات دعاة حماية البيئة فرضت الكثير من القيود على السياحة الشتوية

§ بلغ طول الأراضي المتاحة للتزحلق أكثر من 120000 كيلو متر

§ لا تستغرب إذا شاهدت عجوزًا وهو في طريقه إلى منصة التزحلق على الجليد

 

أغمض عينيك واتبعني، مرحبًا بك في قصر مصنوع من الثلج، درجة الحرارة في الخارج 40 تحت الصفر، ولكن الجو في الداخل دافئ للغاية، نسبيًا على الأقل، لأنه يتراوح بين الصفر ودرجتين فوق الصفر، ويمكنك أن تنام بهدوء داخل كيس النوم، فوق سرير مصنوع من كتلة ثلجية مرتفعة عن مستوى الأرض، واستمتع بضوء القمر المتسلّل عبر الثلوج.
في الصباح يمكنك الاستمتاع بالشاي الدافئ قبل أن تغادر قصرك، لتجد في انتظارك عربة تجرها الجياد المفتولة العضلات، لكنها عربة بدون عجلات، بل بزلاجات تنساب على الجليد بسلاسة ودون ضوضاء، حتى تصل إلى المرتفع الجبلي الذي يمكنك أن تبدأ منه ممارسة رياضة التزحلق على الجليد.

كل ذلك، وأكثر منه بكثير مما سيرد ذكره لاحقًا، لا يمت للأحلام بصلة، بل هو حقيقة يعيشها سنويًا حوالي خمسة ملايين سائح على الأقل، ممن يقضون إجازتهم الشتوية في منطقة جبال الألب الساحرة، الواقعة في كل من ألمانيا، والنمسا، وفرنسا، وإيطاليا، وسويسرا، وسلوفينيا.

متزحلقون عبر التاريخ

أول متزحلق ترك آثارًا للبشرية يبلغهم بأنه مارس هذه الرياضة، عاش قبل أكثر من خمسة آلاف عام، فوق جزيرة رودي النرويجية، فقد عثر العلماء على نقش حجري يوضح وجود هذه الرياضة آنذاك، وكان المتزحلقون يربطون فراء الحيوانات تحت أرجلهم حتى لا تتجمد ولا تغوص، ثم تطور الأمر واستخدموا ألواحًا خشبية، بل تروي الأساطير أن السكان الأصليين في المناطق الاسكندينافية قد استطاعوا التغلب على الغزاة من قبائل الفايكينج، لأن المعتدين غاصوا في الثلوج، وتسمّرت أقدامهم.
أما التاريخ الحديث فقد شهد إقبالاً غير مسبوق على التزحلق على الجليد بعد نشر الباحث النرويجي فريديوف ناسن كتابه التوثيقي بعنوان: «عبور جرونلاند بأحذية الجليد» في عام 1888، ولكن الألمان توجهوا حينئذ إلى منطقة الغابة السوداء، قبل التجرؤ على التزحلق على جبال الألب الشديد الانحدار.
وواجهت هذه الرياضة العديد من الصعوبات، أكبرها كان طول لوحات التزحلق البالغة آنذاك ثلاثة أمتار، والتي كانت معروفة باسم «لوحات التزحلق النرويجية»، وكانت أي حركة خاطئة تؤدي إلى إصابة القدم بالالتواء، لأن اللوحات مثبتة في القدمين من الأمام والخلف فقط، حتى جاء النمساوي ماتياس تساريسكي الذي ابتكر لوحات تزحلق أقصر، لأنها مثبتة، أيضًا، على جانبي القدمين، بمثبتات معدنية.
وكان صعود الجبال مضنيًا، ويضيع الكثير من الوقت، حتى جرى إنشاء المصاعد الجبلية في عام 1936، بحيث يقضي المتزحلقون وقتهم في الاستمتاع بالتزحلق، الذي يكون للأسفل، وليس إلى أعلى، وقبل ذلك بعام واحد استضافت منطقة جارميش، بارتنكيرشين الألمانية بطولة الألعاب الأوليمبية لرياضة التزحلق على الجليد.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعودة الحياة إلى طبيعتها، وتحسن الأوضاع الاقتصادية في الستينيات من القرن الماضي، عاد الانتعاش إلى هذه الرياضة، واستمرت في السبعينيات، ما جعل المستثمرين يضعون البنية التحتية لهذه الرياضة، فانتشرت الفنادق والمنتجعات السياحية، ونشطت شركات تصنيع المعدات الرياضية في تطوير احتياجات هذه اللعبة، وجرى إنشاء المصاعد الجبلية.
لكن فترة الثمانينيات جاءت بالكثير من العوامل التي أدّت إلى انخفاض شعبية هذه الرياضة، فقد بدأت المنافسة الشديدة بين شركات الطيران العالمية تؤتي ثمارها، وانخفضت أسعار الطيران، فأقبل الناس على السفر إلى مختلف بقاع العالم، وتركوا السياحة الشتوية في أوروبا الباردة. كما أدّت مطالبات دعاة حماية البيئة إلى فرض الكثير من القيود على أنشطة منتجعات السياحة الشتوية، مثل منع إزالة الأشجار لتوسيع المساحات المتاحة لممارسة رياضة التزحلق على الجليد. وكذلك انخفضت كميات الثلج المتساقطة عامًا وراء عام، ولم يكن هناك بدائل فعلية لذلك.

انتعاش الرياضات الشتوية من جديد

في السنوات الأخيرة حدثت «ثورة» بكل معنى الكلمة في عالم السياحة الشتوية، رسخت مكانة منطقة جبال الألب، لتكون الأولى في العالم للسياحة الشتوية، بل وأزاحت السياحة الصيفية إلى المرتبة الثانية هناك.
فقد جرى استخدام الثلج الصناعي لتعويض النقص في الثلج المتساقط من السماء، وأصبح هناك أكثر من 12000 تلفريك «مصعد على الأسلاك فوق الجبال»، و40000 منصة جبلية للتزحلق، وبلغ طول الأراضي المتاحة للتزحلق أكثر من 120000 كيلو متر.
ولا يقل عن ذلك أهمية، استقطاب هذه الرياضة لفئات عمرية جديدة، مثل الأطفال، والمراهقين، والمسنين، بتوفير كل ما يحتاجون إليه في هذه المناطق. وأدى ذلك التطوير إلى بقاء المتزحلقين فترات أطول في مناطق التزحلق على الجليد، وعدم تعجل العودة لأطفالهم أو والديهم المسنين الذين خلفوهم وراءهم.
والعنصر الثالث هو التنوع الكبير في مستوى المرافق والخدمات، فهناك فنادق خمسة النجوم، الواقعة على منصة التزحلق مباشرة. وهناك الشقق المفروشة للأسر الراغبة في البقاء معًا، وهناك الموتيلات التي توفر الفرش والفطور المتواضعين، بمقابل محدود، وهناك بيوت الشباب للطلاب.

أماكن للأطفال فقط

في المنتجعات الحديثة مربيات ومعلمات متخصصات في تعليم الأطفال كيفية ممارسة هذه الرياضة، ولا تتورع بعض الفنادق الراقية عن توفير المعدات المطلوبة، لهذه الرياضة من أحذية، ونظارات، وألواح تزحلق، طوال فترة إقامتهم مجانًا، لأن الأهل لا يستطيعون شراء أحذية وملابس جديدة كل عام، بسبب نمو أطفالهم.
وهناك نوادي الأطفال المعروفة باسم «بوبو»، والتي تأسست عام 1994، وهي موجهة للأطفال من سن 3 سنوات إلى 13 سنة، حين يجد الأطفال مدربًا يرتدي ملابس طائر البطريق، يساعد المربيات والمعلمات، فيغني لهم الأغاني المحببة إليهم، ويعرفهم الأخطاء التي يجب عليهم تجنبها، ويمازحهم ويزيل عنهم الخوف طوال التدريب، ويكافئهم إذا أصابوا، ويواسيهم إذا وقعوا.
وهناك تلفريك لنقل الأطفال، المقاعد فيه صغيرة، والعربات ملونة بأشكال جذابة. وهناك الإطارات الضخمة التي يجلسون فيها، ويتزحلقون بسرعة فائقة، وهي اللعبة المعروفة باسم Snow tubing المأخوذة من الولايات المتحدة، والتي وصلت أوروبا في السنوات القليلة الماضية. وهناك قطار الأقزام، والحدائق السحرية، وقطار الرعب، وعربات التزحلق التي تجرها الجياد أو الكلاب القطبية.
وهناك بيوت، بل وقرى متكاملة مبنية من الثلوج، يعشقها الأطفال، ويقضون فيها أوقاتًا طويلة، بل إن هناك سينما أطفال داخل قاعة مبنية من الثلوج.
ويتعلم الأطفال هناك بناء هذه البيوت أو الأكواخ الثلجية، فبعضها يقام باستخدام كتل ضخمة من الثلج الصلد، يتم فصلها باستخدام سكين، بل وأحيانًا بمنشار مخصص لذلك، وتوضع الكتلة فوق الأخرى، بشرط تضييق المسافة الفاصلة بين الكتلتين المتقابلتين، كلما ارتفع البناء، وفي السقف توضع كتلة ثلجية مقطوعة من مياه الأنهار المتجمدة، لتكون شفافة، تنقل الضوء إلى الداخل.
وهناك بيوت أخرى أقل تماسكًا يمكن بناؤها من قوالب ثلجية صغيرة، وتحتوي على شبابيك وأبواب، ومصابيح بشرط ألا تصدر منها حرارة تزيد على خمس درجات مئوية، حتى لا يذوب الثلج.
ويخرج الأطفال في الليل للتجوال فوق الجبال، مع المربيات والمعلمات، دون الأهل الذين يستمتعون ببرامج ترفيهية، دون أن يشغلوا بالهم بأطفالهم، المنشغلين بعالمهم المليء بالمغامرات المناسبة لأعمارهم.

ولكبار السن أيضًا نصيب

في ظلّ تقدّم أعمار الأوروبيين، الذين لم يعودوا يموتون قبل الثمانين، أصبح لزامًا على صناعة السياحة أن تهتم بهذه الفئة العمرية، التي تمتلك المال، وليس لديها خطط مستقبلية طويلة الأجل تدخر من أجلها، ولذلك فإنها تنفق لتستمتع بيومها وحاضرها، ولا تفكر طويلاً في غدها ومستقبلها.
لذلك فهناك الباصات التي تميل حتى تلاصق الأرض، بحيث ينزل المسنون دون صعوبة، وفي الفنادق كلها مدخل للكراسي المتحركة، وكبائن الهاتف في ارتفاع الجالس على هذا الكرسي، وأطعمة سهلة المضغ، وأطباء 24 ساعة، وخدمات المساج، والرعاية الصحية المتكاملة.
ولذلك لا تستغرب إذا شاهدت عجوزًا لا يكاد يقدر على السير، وهو في طريقه إلى منصة التزحلق على الجليد. فالمصاعد الجبلية تراعي احتياجاتهم، وعربات الخيل توفر لهم فرصة النزهة على الجليد، حتى إذا أرادوا التوجه إلى الكنيسة، فهناك كنائس منحوتة في الثلوج، بمقاعد عبارة عن كتل ثلجية، حتى الصليب فيها من الثلج، يذوب إذا اقتربت منه الشموع.

حذار من التهور

من تعلّم التزحلق على الجليد في الصالات المغلقة المنتشرة هنا وهناك في دولنا العربية، قد يغريه ذلك أن يمارس هذه الرياضة في جبال الألب، ولكن الفرق كبير، والمرتفعات الشاهقة لجبال الألب أصعب بكثير مما تبدو للوهلة الأولى، ولذلك لابد من مراعاة أن هناك مناطق قليلة الصعوبة بانحناء قدره حوالي 25٪، وتوجد عندها علامات زرقاء اللون، ومناطق متوسطة الصعوبة بانحناء قدره أقل من 40٪، وتوجد عندها علامات حمراء اللون. أما المناطق الخطرة التي يزيد انحناؤها على 40٪ فتحمل علامات سوداء.
ولا يجب أن تدفعك التكاليف الغالية لبطاقة استخدام مناطق التزحلق، التي تصل إلى 40 يورو في اليوم للشخص الواحد، للبحث عن المناطق المجانية التي لا يوجد فيها مدربون.
وإذا لم تكن ترغب في دفع تكاليف ممارسة هذه الرياضة، إضافة إلى تكاليف الاستجمام في غرف الفنادق السويسرية الراقية التي يصل سعر الغرفة فيها إلى أكثر من 300 يورو في الليلة الواحدة، فإما أن تكتفي بمشاهدة بطولة العالم للتزحلق على الجليد في عام 2011 في منطقة جارميش، بارتنكيرشين الألمانية الجنوبية، أو يمكنك التوجه إلى الصين، التي لم تكتف بتقليد المنتجات الأوروبية جميعًا، بل تسعى في الوقت الراهن لإنشاء مناطق مشابهة لجبال الألب في جبال تشانجباي بمقاطعة جيلين، الواقعة على الحدود مع كوريا الشمالية، ستكون بالتأكيد أقل كلفة. والحل الأخير أن تدعك من كل ذلك، وتقضي الشتاء في بلادك بين أحبّائك، وفي وطنك، فما أحلى دفء الوطن!