شوارع

 

خطط المدينة الفرنسي «هاوسمان» لتنافس أرقى مدن العالم

وسط القاهرة.. باريس الشرق

.كنز معماري ومتحف مفتوح عمره 140 عامًا

القاهرة: شريف عبدالمنعم

§ صممت القاهرة لتكون قطعة من أوروبا وأجمل من باريس

§ الزخارف على الواجهات تشكّل معرضًا مفتوحًا لمختلف فنون العمارة

§ مسابقة عالمية لإعادة الرونق التاريخي لمنطقة وسط القاهرة

§ ذاكرة المدن هي مبانيها وأحياؤها القديمة

 

منطقة وسط القاهرة أو «القاهرة الخديوية» من المشاريع العالمية البارزة التي تمت في القرن التاسع عشر، حيث قامت فكرة إنشائها، لكي تضاهي أجمل المدن الأوروبية، لتصبح مع مرور الزمن كنزًا معماريًا ومعرضًا فنيًا مفتوحًا لمختلف فنون العمارة.

عندما تتجول الآن في شوارع وسط القاهرة وميادينها «وسط البلد»، كما يسميها القاهريون الآن بمبانيها العتيقة ذات الزخارف المتنوعة المحفورة التي تزين واجهات البنايات التاريخية العريقة، والمقاهي التي يجلس عليها المصريون والسائحون العرب والأجانب على السواء، تشعر وكأنك قد حلّقت في لحظات إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث يتشابه إلى حد كبير وسط القاهرة مع شوارع عاصمة النور والجمال وميادينها. فكلاهما تتنزه فيه سيرًا على الأقدام، وأنت تستمتع بمشاهدة الزخارف الرائعة على واجهات المباني، وتتنقل بين المحلات وصالات السينما، ومكاتب الخطوط الجوية، ومعارض السيارات والمقاهي.
وكلاهما، أيضًا، يتمتع بحركة كثيفة للناس، نهارًا وسط أمطار غزيرة في الشتاء وحرارة لطيفة في الصيف.. وليلاً حيث تسطع الأضواء المبهرة لمحال الملابس والأزياء، والعطور، وأدوات الزينة، والجلود، والأحذية، والتي يتنافس أصحابها على جذب أعين المرتادين.
والرشفات المتأنية التي تحتسيها من فنجان قهوة على مقهى ريش أو الإكسلسيور في وسط القاهرة، لن يختلف طعمها، أو الجو الذي تتناولها فيه كثيرًا عن رشفات مماثلة تحتسيها في الشانزليزيه على مقهى الفوكيت أو مقهى باريس.
أما الطراز المعماري للبنايات فلن يختلف كثيرًا، أيضًا، فالزخارف المتنوعة تنتشر على البنايات لتشكّل معرضًا رائعًا لمختلف فنون العمارة، إلا أن ما يلاحظ في بنايات وسط القاهرة هو ظهور بعض أعراض الشيخوخة عليها، بعد أن ظلّت صامدة لأكثر من مئة وأربعين عامًا، قبل أن تستسلم لعبث التجار الذين أزالوا بعضًا من جمال واجهات بناياتها باللافتات الخشبية والبلاستيكية، ولكنهم أبدًا لم يستطيعوا قتل الروح الجميلة لهذه المنطقة وجمالها التاريخي.
ولم يولد التشابه بين وسط القاهرة وباريس عن طريق المصادفة، وإنما كان مقصودًا أن يتم تخطيط منطقة القاهرة الخديوية على طراز العاصمة الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر.. فحينما تولى الخديوي إسماعيل، حفيد محمد علي، حكم مصر عام 1863 كان بعض كتاب الغرب يصفون القاهرة بقولهم: «خير لك أن تسمع عن القاهرة من أن تراها، إنها عاصمة البعوض ويعيش زائرها طوال العام تحت الناموسية»، فثار حماس إسماعيل ورد عليهم بقوله: «إن القاهرة ستكون قطعة من أوروبا وسوف تكون أجمل من باريس».
وأمر إسماعيل بتخطيط القاهرة على النمط الأوروبي الذي أبهره في باريس من ميادين وشوارع فسيحة، وقصور، ومبان، وجسور على النهر وحدائق غنية بالأشجار والنباتات النادرة، بل إنه طلب شخصيًا من الإمبراطور «نابليون الثالث» أن يقوم المهندس الفرنسي العالمي «هاوسمان» الذي قام بتخطيط باريس بتخطيط القاهرة الخديوية، فتحولت بذلك إلى تحفة حضارية تنافس أجمل مدن العالم، ليطلق عليها كتاب الغرب حينذاك «باريس الشرق».
وتمثل القاهرة الخديوية بداية العمران المصري في صورته الحديثة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي تعد من المشروعات العالمية البارزة التي تمت في ذلك القرن لما بني عليه تخطيطها من دراسات للتخطيط، والتعمير الشامل، وتحطيم عوائق التنفيذ لإخراجها سريعًا إلى حيز الوجود، وبالشكل الذي يجعلها تضاهي أجمل مدن العالم.
في عام 1872 افتتح إسماعيل شارع محمد علي بالقلعة بطول 2.5 كيلومتر، فيما بين باب الحديد والقلعة على خط مستقيم، وزانه على الجانبين بما يعرف بالبواكي.. وفي العام نفسه افتتح كوبري «جسر» قصر النيل على نهر النيل بطول 406 أمتار، وكان يعد آنذاك من أجمل قناطر العالم، حيث زُيّن بتماثيل برونزية لأربعة من السباع (الأسود) نحتت خصيصًا في إيطاليا.. كما افتتح أيضًا جسر «أبو العلا» على النيل على بعد كيلو متر تقريبًا من الجسر الأول، والذي صممه المهندس الفرنسي الشهير «جوستاف إيفل»، صاحب تصميم البرج الشهير بباريس، وتمثال الحرية بنيويورك.. وقد تم رفع هذا الجسر منذ عدة سنوات لعدم قدرته على تحمل الضغط المروري الكثيف بين أحياء القاهرة والجيزة.
وتابع ذلك شق شارع كلوت بك، وافتتاح دار الأوبرا المصرية عام 1875، ثم أنشأ السكة الحديد وخطوط الترام لربط أحياء العتبة والعباسية وشبرا، وتم ردم البرك والمستنقعات للتغيير من حدود المدينة، وتحويل مجرى النيل، حيث كان يمر ببولاق الدكرور وبمحاذاة شارع الدقي، حاليًا، وتزامن ذلك مع تنفيذ شبكة المياه والصرف الصحي، والإنارة، ورصف شوارع القاهرة بالبلاط، وعمل أرصفة، وأفاريز للمشاة، وتخطيط الحدائق التي جلبت أشجارها من الصين، والهند، والسودان، وأمريكا.
وبعد مرور أكثر من مئة وأربعين عامًا على إنشاء القاهرة الخديوية تندهش حقًا لهذا التنوع المعماري الموجود على بناياتها. فالزخارف الباريسية واليونانية والفرعونية والإسلامية على الواجهات تشكّل معرضًا مفتوحًا لمختلف فنون العمارة.
وعلى الرغم من هذا التنوع المعماري، إلا أن هناك تناغمًا بين البنايات. فالارتفاعات تكاد تكون واحدة، وتكرار البواكي بطريقة منظمة يعطي الإحساس بالقيمة الأساسية لروعة المباني.
ولضمان أن يكون البناء في القاهرة الخديوية على ذات الطرز المعمارية المتميزة، كان يشترط ألا تقل تكلفة المبنى عن 2000 جنيه، وكان ذلك مبلغًا ضخمًا جدًا في ذلك الوقت، وأن يكون متوسط الارتفاع 6 أدوار، أو7 أدوار، وكانت واجهات البنايات غنية بالزخارف، بحيث تصل إلى التكدس الشديد والتنوع، وأحيانًا لا تتكرر الوحدة الزخرفية نفسها في الواجهة الواحدة.
ويلاحظ تعدد الطرز في واجهات بعض المباني، وهو ما يميزها بالثراء في تصميم واجهاتها وزخرفتها، وتتميز هذه الزخارف بالدقة المتناهية في التنفيذ واستخدام قوالب صب مرنة حتى تكون أكثر تجسيمًا، وهو أسلوب يندر استعماله، حاليًا، لارتفاع تكلفته. كما أن العديد من المباني تظهر في واجهاتها مشغولات حديدية مختلفة، وأيضًا في الشرفات وأبواب المداخل، ما يزيد من فخامة المباني ورزانتها التي تكون في مجملها طابعًا عمرانيًا أوروبي الملامح والشخصية.
منطقة وسط القاهرة الخديوية تعد بمنزلة متحف مفتوح لتراث إنساني يمثل مصر منذ بداية تحديثها وعصر نهضتها.. يتضمن هذا المتحف رصيدًا هائلاً من المباني التراثية يتعدى 30٠ مبنى داخل نطاق مساحة تقدر بحوالي 700 فدان، يعود تاريخ إنشائها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، وهي تمثل معرضًا لأعمال المعماريين الأجانب الذي استدعوا من فرنسا، وإيطاليا، والنمسا، وبريطانيا من أجل بناء نهضة مصر العمرانية.
ويتم الإعداد، حاليًا، لمسابقة عالمية لإعادة الرونق التاريخي لمنطقة وسط القاهرة وميادينها الثلاثة الشهيرة «التحرير والعتبة ورمسيس». كما يعد لمشروع تطوير شارع قصر النيل المليء بالعمارات الخديوية لجعله يتماشى مع القيمة التاريخية والمعمارية للبنايات القابعة فيه، وتمثل هذه المشروعات التي تصب في إطار الاهتمام بهذه المنطقة التاريخية، والحفاظ على جمال بناياتها ضرورة ملحة، لأن ذاكرة المدن هي مبانيها وأحياؤها القديمة، والحفاظ عليها وإطالة عمرها نابضة بالحياة يعني الاحتفاظ بذاكرتنا قوية منتعشة، والحفاظ على تاريخنا والتمسك بهويتنا.

 

w